إسلاميات - المرجع الشيرازي

الإيثار قمة الإيمان

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

ولادة الإنسان في الوجود فرصة، عليه أن يستثمرها جيدا، من خلال تشبثه وتمسكه بالقيم الجيدة، فقيمة الإيثار تجعل من حياة الإنسان أجمل، وتتوازن علاقاته، وتتضاعف قيمته واحترام الناس له ومحبتهم وتمسكهم به، فهو يفوز أيضا من خلال علاقاته الجيدة علاقات الاحترام والإيثار والمحبة للآخرين، تجعل حياته أيضا حياة سعيدة...

(على الإنسان أن يمرّن نفسه حتى يصل إلى مرتبة يحبّ فيها لأخيه ما يحبّ لنفسه)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

من القضايا التي نتفق عليها لكي تكون حياة البشرية أفضل، وجود قيم تضبط علاقات الناس مع بعضهم، وتنظم حركتهم، وتضع ضوابط تحكم مصالحهم، حتى تكون الرحمة والمودة والإيثار ديدن المجتمع، فالإنسان محكوم بإقامة العلاقات المتوازنة مع الآخرين، وهناك مجموعة من السنن الأخلاقية والشرعية يجب عليه مراعاتها، ومن بينها قيمة الإيثار التي تنتمي للفضيلة والأخلاق الحسنة فيما بين الناس.

وقد خاطب سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، الناس قائلا: (على الإنسان أن يخطو خطوات متواصلة نحو الفضيلة).

وتأتي هذه الدعوة تأكيدا على أهمية الأخلاق الفاضلة التي تنظم علاقات الناس مع بعضهم، وقيمة الإيثار واحدة من أهم القيم التي تشيع الرحمة والتعاون بين أفراد المجتمع، وهي تعني التضحية وتقديم مصلحة الآخر على مصلحة الذات، والحقيقة تتطلب هذه الخاصية إرادة قوية والتزام كبير من أجل تطبيقها في حياة الناس بشكل فعلي ومنتظم.

نظرا لانتشار قيم أخرى مضادة تنتمي لعصرنا هذا كما يُقال، وهو عصر مادي بلا منازع، حيث تسود النفعية على كل القيم، ويلهث الناس وراء الأموال، وتشغلهم المطالب المادية، ويسعون إلى تكديس الأموال في الخزائن، مما يجعل المصالح في حالة من التضارب الشديد، لذلك لابد من تحجيم هذه الاندفاعات المادية ومحاصرتها ضمن مجموعة من السنن والقيم التي تهذب حركة الناس وهم يسعون بقوة نحو تأمين مصالحهم ومنافعهم.

حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، هناك حاجة لوجود هذه الضوابط والقيم، فالإيثار جزء مهم من منظومة الفضيلة، واعتماد الإيثار كسلوك بين أفراد العائلة يجعل منهم في حالة من السعادة العالية، ويمكن لهذه العائلة أن تؤثر بغيرها من العوائل مما يعني خلق مجتمع ينظر إلى الإيثار باحترام، وتسمو العلاقات الأسرية عاليا، ويسود في المجتمع حالة من العيش الرغيد.

لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله في محاضرة عنوانها (المحبة) ضمن سلسلة نبراس المعرفة:

(إن الإيثار هو قمة الإيمان، ومن الممكن أن يبلغ الإنسان هذه القمة شيئاً فشيئاً، فالزوج مثلاً إن لم تكن زوجته تتعامل بطريقة صحيحة، فليكن تعامله هو معها بهذه الطريقة، فهذه التربية العملية التي جاءت في الحديث الشريف: (كُونُوا دُعَاةً لِلنَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ). وفي حديث آخر: (كونوا دعاة للناس بأعمالكم، لا بأقوالكم) ومعناه أن لا يقتصر تعامله على القول فقط).

التأثير الأسرع للسلوك الفعلي العملي

ومن صفات الإنسان إنه يتأثر بما يراه من تجارب وسلوكيات تبدر من الآخرين، لهذا تنتقل السلوكيات الجيدة من شخص إلى آخر، حيث يكون الاحتكاك فيما بينهم عنصرا من عناصر التشابه السلوكي، فيكون التأثير العملي للسلوك أعلى من التوجيهي اللفظي، لأن الكلام بلا فعل وتطبيق يكون ضعيفا في كسب الناس، أما حين يرى الإنسان قيمة الإيثار حاضرة في الأسرة وفي المجتمع تطبيقيا فإنه يتمسك بها ويتعامل مع الناس من خلالها.

لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: (الأشخاص الذين لديهم القابلية للهداية فسوف يهتدون بالتربية العمليّة، وأما من ليس لديهم القابلية، فيعتبر ذلك إتمام حجة عليهم).

وتنمو هذه العلاقات الجيدة خارج إطار الأسرة أيضا، ويمكن تطبيقها في المدرسة مثلا، بين الطلاب والمعلمين، أو بين الطلاب أنفسهم، ويمكن أن تسود هذه الأخلاقيات الفاضلة بين الموظفين في الدوائر الرسمية، سواء بين الموظفين أنفسهم، أو بينهم والمراجعين من المواطنين، وفي عموم تجمعات الناس.

وفي حال تحقق هذا النوع من العلاقات المتفاعلة المتعاونة القائمة على أساس المداراة والمودة والإنصاف تضمها قيمة أساسية هي الإيثار، فإن المدينة الفاضلة تتحول من حلم إلى حقيقة، حيث لا يزال يطمح الإنسان ويحلم بمدينة تحكمها العلاقات التي تقوم على المحبة والإيثار المتبادَل والتعاون يكون سمة أساسية من سمات هذا المجتمع.

يضرب لنا سماحة المرجع الشيرازي دام ظله مثالا حول التعامل بين الطالب والمعلم يقول فيه:

(مثلاً التعامل بين المدرس والطالب. الطالب ماذا يحب من مدرّسهِ؟ يحب من المدرّس أن يتعامل معه برفق ولين وأن يتحمله ويصبر على جهله. والمدرس كذلك يحب أن يتعامل معه الطالب باحترام ووقار، وأن يفهم درسه، فإذا تحقق ذلك ستكون المدينة الفاضلة التي يصنعها الناس بأيديهم).

في المجتمعات المتعاونة فيما بينها وفق هذه القيم، فإنهم يعيشوا حياة سعيدة هادئة متعاونة ومنتجة، فهذه الأخلاق الرفيعة تجعل من حياتهم نموذجا للجودة والرفاه المعيشي وسوف يساعدهم الله تعالى مكافأة لهم على أخلاقهم وتعاونهم، فيُبنى المجتمع النموذج، وتكون السعادة هي المحصلة الأساسية التي يحصل عليها الجميع في مجتمع من هذا النوع.

لكن حين تسود فيما بينهم علاقات متشنجة ومصالح متضاربة، وينتشر الهاجس المصلحي النفعي في علاقاتهم، ويحدث نوع من التغالب فيما بينهم، وينتظر كل طرف المزيد من الطرف الآخر، فإن حالة التشنج الاجتماعي تسود وتتسلط عليهم، وتجعل من حياتهم مصابة بالتعصب والقلق واللهاث وراء المنافع الفردية الذاتية، وبالتالي يخسر الجميع وتسود عيشة الضنك.

حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(الناس إذا عزموا على هذا النوع من الخلق الرفيع سوف يعينهم الله تعالى على ذلك، أما إذا توقعوا من الآخرين ما لا يصنعونه بأنفسهم فسوف يعيشون عيشة الضنك).

أولوية استثمار الإنسان لوجوده

لذا لابد للإنسان أن يستثمر وجوده في الحياة، فهو لم يُخلَق عبثا، وهناك هدف كبير من خلْقهِ ومجيئه إلى هذه الدنيا، فلا يظن أن وجوده الحياتي بلا هدف، أو يحصر وجوده بالقضايا المادية النفعية السريعة الزوال، لأنه كيان قائم بذاته وثابت الوجود.

مطلوب من كل إنسان يولد في هذه الحياة أن يستثمر وجوده هذا، ويجعل من دنياه هذه مزرعة لآخرته، فهذه فرصته لكي يفوز بالحياة الأبدية الأسعد والأجمل والأفضل، ليس هذا كلاما دعائيا، بل هو من صلب الحقيقة، لذا على الناس جميعا أن يستثمروا دنياهم لبلوغ المرتبة الجيدة في الآخرة، وهو هدف ممكن التحقيق إذا جعل الإنسان الإيثار ومحبة الناس والتمسك بالأخلاقيات والقيم طريقا له في الحياة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:

(إن الله تعالى قد منح الإنسان الحياة وجاء به إلى الحياة الدنيا ليكون فيها ويعتبر الدنيا مزرعة للآخرة فيستفيد منها لآخرته، فيجب عليه أن يخطو خطوات إلى الفضيلة شيئاً فشيئاً).

بالنتيجة ليس هناك شيء مستحيل، فمن الممكن أن يصل الناس إلى مبتغاهم، وذلك من خلال التمرّن والتجريب بلوغا إلى مضمون الحديث الشريف الذي يطالب كل شخص بأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو حديث نبوي قرأناه وعرفناه منذ طفولتنا، وعاش معنا دنيانا كلها، وصار حلما لنا لذا علينا بلوغ فحواه، وتطبيقه بحذافيره.

وهذا يعني أننا مطالبون بأن نحب الجميع، كل شخص نلتقي به علينا أن نحسن التعامل معه، وأن نبدي محبتنا له، وأن نؤْثِره على أنفسنا ومصالحنا، وحين نقدم الآخر على أنفسنا، فنحن نطبق مضمون الحديث الشريف، فنفوز بحياة أفضل وآخرة أبدية أعظم سعادة.

لذا يوجّه سماحة المرجع الشيرازي دام ظله قائلا:

(على الإنسان أن يعزم على ذلك ويجرب ويمرّن نفسه حتى يصل إلى مصداق الحديث الشريف، ويحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ويحب كل من يلتقي به ويعيش معه).

الخلاصة ولادة الإنسان في الوجود فرصة، عليه أن يستثمرها جيدا، من خلال تشبثه وتمسكه بالقيم الجيدة، فقيمة الإيثار تجعل من حياة الإنسان أجمل، وتتوازن علاقاته، وتتضاعف قيمته واحترام الناس له ومحبتهم وتمسكهم به، فهو يفوز أيضا من خلال علاقاته الجيدة علاقات الاحترام والإيثار والمحبة للآخرين، تجعل حياته أيضا حياة سعيدة يمكن أن يجعل منها قاعدة انطلاق للفوز بالدار الأفضل والأجمل والأبقى.

اضف تعليق