على خلفية الانتكاسات الاقتصادية التي يعيشها المشهد العراقي والعالمي وبسبب السياسات الاقتصادية المربكة وتدني مستوى اسعار النفط، وعلى اعتبار ان الاقتصاد هو العنصر الحاسم والهام في ميزان القوى العالمية والاقليمية، ولمحاولة تقديم نموذج اقتصادي اسلامي يمكن ان يساهم في حل الكثير من هذه الارباكات والانتكاسات، اقام مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث، حلقة نقاشية تحت عنوان (الاقتصاد الاسلامي والاقتصاد العالمي البديل)، في كربلاء المقدسة وبحضور نخبة من المهتمين.

تطرق حيدر الجراح مدير المركز في مقدمته لموضوع الحلقة، الى ان الاقتصاد في العصر الراهن اضحى العنصر الهام والحاسم لقضايا النزاع على صعيد ميزان القوى السياسية والإقليمية، وبينما بدأت النظريات الاقتصادية تنهار الواحدة تلو الأخرى ابتداء من النظرية الماركسية والشيوعية الى ظواهر الأزمات التي تعصف بالأنظمة الاقتصادية الرأسمالية اليوم وما تعانيه من كساد اقتصادي أفرغ محتوى تلك النظريات وأظهر مدعى فراغها وعدم جدواها. ومن هنا بدأت تتضح على صعيد الساحة العالمية أسس النظرية الصائبة التي رسمها الإسلام في اقتصاده منذ اكثر من اربعة عشر قرنا من الزمن، ولم يدخر العلماء الأعلام على صعيد الساحة الإسلامية جهداً في توضيح وابراز الصورة الصحيحة لنظرية الاقتصاد الإسلامي وبرز على صعيد ذلك علماء أعلام أعطوا للنظرية مفهومها الواضح وحدودها المعروفة وفق الكتاب والسنة الطاهرة.

وكان المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي من القلائل الذين تناولوا مسائل الاقتصاد الإسلامي وبحثوا بشيء من الدقة والبيان والتحليل والعلمي أسس ذلك الاقتصاد مبيناً ذلك في كثير من مؤلفاته التي أخذت طابع الشمول في مفرداتها وطابع التفصيل في مجالات أخرى وفـــقاً لمستــوى الإدراك الإنساني لحقائق النظريات في هذا العالم..      

الإسلام ونظريته في الاقتصاد

من أهم الأمور التي ينبغي الإشارة إليها في الاقتصاد الإسلامي، هي السعي من اجل تحقيق ما يلي:

أن لا يكون هناك فقراء يعانون الجوع والمرض والفقر.

أن لا تكون هناك مشاريع معطلة.

أن لا تبقى طاقات إنسانية، أو غير إنسانية عاطلة.

أن لا يبطر الغني.

الدولة هي المسؤولة عن هذه البنود الأربعة، عبر قيام الاقتصاد الإسلامي بهذا الدور.

الخطوط الأساسية للاقتصاد الإسلامي وفق الامام الشيرازي الراحل هي:

الأولى: توسيع الحريات في جميع المجالات، فإن الناس حيث كانوا يتمتعون بحرية واسعة في ظل الحكم الإسلامي كانوا يعملون بكل جد وإخلاص، والطريق أمامهم مفتوح، ولهذا كانوا يثرون، وقلما يوجد إنسان محتاجاً…

الثانية: بساطة جهاز الحكومة في الدولة الإسلامية.

الثالثة: بيت المال، وكان يجمع المال فيه، من الأخماس، والزكوات، والجزية، والخراج.

الاقتصاد العالمي والنظم التي حكمته

ضيّف المركز في حلقته الاستاذ المساعد الدكتور طالب الكريطي استاذ الفكر الاقتصادي الاسلامي في كلية الادارة والاقتصاد في جامعة كربلاء حيث استعرض من خلال ورقته البحثية موضوع الاقتصاد العالمي والنظم التي حكمته على مدى التاريخ ومنها النظم الحاكمة اليوم.

وذكر الباحث: بعد الكثير من الصراعات بين نظامين اقتصاديين هما النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي، اصبح هناك ميل اكبر اتجاه استبدال الخيار المطروح بالاشتراكية وادخال تغييرات على النظام الاقتصادي الرأسمالي، ومع سيادة فهم مسبق من كلا النظامين ان تأسيس نظام اقتصادي سياسي ثقافي فلسفي اسلامي مستحيل، وذلك بسبب نوع التطور الذي حصل في الحياة، وعدم قدرة الفكر الاسلامي ان يقدم هذا النموذج الذي يستوعب كل هذه التطورات، وسبب هذا الفهم المسبق هو ان النظم الاقتصادية الحديثة التي اوجدتها النظم الغربية هي نظم فاعلة ومؤثرة بحيث هي الوحيدة القادرة على ان تعطي التطور والرفاهية لمجتمعاتها.

واضاف الباحث في معرض لجوء الكثير من الدول العربية والاسلامية الى مفردات معينة من الاقتصاد الاسلامي في تعاملاتها، قائلا:

الاقتصاد الاسلامي فيه سمات تنسجم مع الفطرة الانسانية والوضع الطبيعي للإنسان، فالملكية الخاصة تنسجم مع الفطرة الانسانية، وموضوع المنافسة تقره الذهنية الطبيعية، ودافع المصلحة الشخصية يكاد ان يحاكي الطبيعة الانسانية وتقبلته بعض المجتمعات على اعتباره رؤية كونية وثقافة قائمة.

ويؤكد الباحث: كانت هناك محاولات في بعض الدول العربية والاسلامية، وهي تسعى الى تطبيق نظرية الاقتصاد الاسلامي كالسودان والسعودية ومصر والاردن والعراق وباكستان ودول اخرى.

الا انها واجهت صعوبة في الميدان المالي والمصرفي، لان هذا النوع هو المحرك الاساس للاقتصادات الحديثة، الى جانب ذلك فان الاسلام يصطدم مع الجانب الربوي بقوة، وان هذا الجانب هو اساس عمل تلك المصارف الرأسمالية، فما كان ممكنا مواجهة تلك الحالة الا بإيجاد البديل، والغريب ان النجاح الذي حققته المصارف الاسلامية في بريطانيا فقط.

الاقتصادات الغربية ومنها الاقتصاد الامريكي، كانت تبحث عن كل ما من شانه اعطائها قوة اكبر في مواجهة التحديات والمشاكل، التي كانت تنتج عن طبيعة النظام الرأسمالي كنظام، لذلك هم ادخلوا بعد الازمة الاقتصادية العالمية في امريكا تغييرات ذات نكهة اشتراكية، كونهم وجدوا فيها نوعا من انواع اعطاء الفاعلية من جديد للنظام الرأسمالي، وهم ليس لديهم تحفظ بل على استعداد كامل للتفريط بهيبة النظام الرأسمالي في نموذجه النظري، اذا كان هذا مؤداه هو الابقاء على قوة الاقتصاد الرأسمالي في التطبيق الواقعي.

حينذاك دخلت المصارف الاسلامية للتمويل كبديل عن المصارف الغربية، من اجل ان يكمل نواقص نظام التمويل الغربي الربوي.

ويتطرق الباحث في ورقته الى الازمة المالية التي ضربت الاقتصاد الرأسمالي في العام 2008 محددا اهم عناصرها بقوله:

اهم عناصر ازمة 2008 هي ثلاث مسائل مهمة الاولى الانهيار الدراماتيكي في عمليات المضاربة، والثانية، شحة السيولة، والثالثة، شيوع الذعر، فعندما عرفت حقيقة الازمة، وبأن هناك شراء لديون وبشكل متسلسل ادى الى ان يكون الدين اربعة اضعاف الناتج الحقيقي الموجود، لذا أصبح هناك تيقن لدى جميع اصحاب رؤوس الاموال في النظام المصرفي، وكان كل النظام عاجز ان يعطيهم ربع الاموال المودعة، وكانت هناك محاولة لاستنقاذ تلك الاموال، وبعدها اعلنت تلك المصارف افلاسها واغلقت ابوابها.

يختم الباحث كلامه: وهذا مما فتح الباب امام النظام المصرفي الاسلامي، الا انه ثمة شيء مهم يحد من حركة المصارف الاسلامي، كونها ذات قدرة محدودة في الحجم والامكانات ومحدودة القدرة على استيعاب الاموال، وفق سعر فائدة مقبولة يقرها الاسلام ولا يتعارض معها، وانا ارى ان الاقتصاد العالمي يعيش حالة من الاعتلال، ويراد تغييره باقتصاد عالمي جديد بغض النظر عن كونه اسلامي او غير اسلامي.

المداخلات:

بعد الانتهاء من الورقة فتح المجال امام الحاضرين للتعقيب عليها وطرح الاسئلة ومناقشة الباحث في افكاره.

الشيخ ناصر الاسدي عضو مكتب آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (حفظة الله) في كربلاء المقدسة واستاذ في الحوزة العلمية قال في مداخلته: النظام الاقتصادي الاسلامي بديل كفء عن النظام الاقتصادي العالمي، كونه له مزايا عقائدية ترتبط ارتباطا وثيقا بصفات الانسان المؤمن. الاسلام لا يؤمن بالحصول على المال دون جهد، وهو اقتصاد شرعي نزيه.

 جانب اخر من اصول الثروة في الغرب هي الاراضي، الا ان الرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) يقول الارض لله ولمن عمرها، وبمقتضى تلك القاعدة الفقهية من المفترض ان لا تكون هناك ازمة سكن ومن حق الانسان ان يكون له سكن.

وعن الازمة المالية التي يمر بها العراق، رغم كل الامكانيات والموارد البشرية والصناعية والزراعية والسياحية، تطرق الشيخ الاسدي الى كتاب الامام الشيرازي الراحل (قدس سره) عن كتاب العراق ما بعد النفط، في الوقت الذي كان فيه العراق يمثل سلة غذائية ترفد الدول المجاورة في القرن الماضي، واسباب تراجع ذلك نتيجة الاعتماد على سلعة واحدة هي النفط، وكيف قاد الى تدهور اقتصاد العراق وترديه وهو ما نشاهده من خلال أزمته الاقتصادية الحالية.

الاستاذ احمد جويد مدير مركز ادم للدفاع عن الحقوق والحريات قال في مداخلته: ذكر الباحث ان الغاية من النظرية الاقتصادية هي تطبيق نظرية العدالة الكونية، اذن ان حقوقا اساسية تترتب على نمو الاقتصاد في جميع الدول، ومن بين تلك الحقوق حق السكن، حق العمل، حق الرعاية الصحية، توفير الخدمات الاساسية التي يحتاجها المجتمع، والاسلام قد وضع معايير واسسا للفقر يكون على اساسها الانسان فقيرا او ميسور الحال. ثم طرح سؤاله على الباحث: هل توجد بنية تحتية لدى الدول الاسلامية لتطبيق النظرية الكونية الخاصة بالاقتصاد الاسلامي لتحقيق العدالة بتلك المعايير التي حددها الاسلام؟.

الصحفي عصام حاكم ذكر في مداخلته: ان الباحث اشار الى نقطة جوهرية وهي الرؤية الكونية وعلاقتها بالاقتصاد، حاول ان يصل بنا الى حقيقة كون الاقتصاد الغربي اقتصاد يؤمن برأس المال فقط، لكننا على العكس من ذلك نجد الاقتصاد العالمي اقتصادا منضبطا، اقتصادا متزنا، والاقتصاد الاسلامي الى الان هو مجرد نظرية غير قابلة للتحقيق، حيث نعيش ازمة تطبيق ونحن غير قادرين على ايجاد صيغة تستوعب الواقع الاقتصادي على اسس اسلامية.

معاون مدير المركز الاستاذ محمد الصافي تساءل في معرض تعليقه على الورقة: هل يرتبط تطبيق مصطلح الاقتصاد الاسلامي بوجود دولة اسلامية على ارض الواقع، تهيئ له مناخات التطبيق، وهل هو موجود الان كتجربة في دول او تجارب حية؟.

الصحفي باسم الزيدي تساءل ايضا في معرض تعليقه: لو تم تطبيق الاقتصاد الاسلامي على ارض الواقع، هل يزيح الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الاشتراكي ام يتعاون معهما، وهل ان العراق لديه مذهب اقتصادي معين، ام انه يعيش على اقتصاد الفوضى؟.

النظام الاقتصادي الصحي

كانت خاتمة المداخلات من قبل الشيخ مرتضى معاش المشرف العام على مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام حيث اشار الى كون الاقتصاد الغربي معتل، وان الاعتلال واضح. وهذا ما سبب حدوث الازمة المالية في العام 2008، كون النظام الاقتصادي العالمي قائم على الاصول الربوية وعلى الفوائد، وعلى بيع الفوائد ومشتقات الفوائد وسندات الديون ومن ثم بيعها والتامين عليها.

واضاف معاش: وهذا ما يذكرنا بالأزمة التي اصابت قطاع السكن في امريكا، وكيف ان التأثير امتد الى قطاع المصارف الامريكية وتعدت حدود امريكا الى اوربا، لان هذه الديون بيعت لبعض البنوك في اوربا من اجل الربح، وهذه نتيجة طبيعية لحقيقة النظام الربوي، وعلى النقيض من ذلك النظام الاسلامي يعتمد على نظام خاص بالضرائب وخاص بالانتاج، والاقتصاد في النظام الاسلامي ليس بعيدا عن دائرة الاخلاق.

فالنظام الاقتصادي الاسلامي يحرم بعض التعاملات الاقتصادية المريضة وهذا مما يؤسس لنظام صحي سليم وضامن للعدالة، الا ان ذلك غير موجود في الاقتصاد الرأسمالي الذي من اهم مزاياه، انه ينمي حالة التفاوت الطبقي خاصة وان التقارير المالية توكد ان 61 شخص في العالم يمتلكون 90% من ثروة العالم وهذه حقيقة قائمة توضح بان للتفاوت الطبقي صور بشعة.

فوبيا الفوضى

في معرض رده على المداخلات والاسئلة ذكر الباحث الدكتور طالب الكريطي، ان البعض يخطئ في قراءته للاقتصاد الرأسمالي، وكونه منضبطا، وهناك رعاية صحية وهناك تامين صحي واعانات بطالة واستثمار واسع.

لكننا نتكلم عن خصائص ووظائف هذا النظام اتجاه الشعب الذي يحكمه، حيث الوظيفة الاخرى لهذا الاقتصاد ان يحقق لهذا المجتمع الاستقرار والاطمئنان، وان لا يكون الانسان ضحية لبعض السياسات المتوحشة، فالإنسان هناك مهدد في أي لحظة، النقطة الثانية الاقتصاد الرأسمالي لا يحقق للناس العدالة، فالمجتمع الغربي في أية لحظة يعيش فوبيا الفوضى.

 بالمقابل، يضيف الباحث، صحيح ان بعض تطبيقات النظام الاقتصاد الاسلامي تكون معطلة، ولكن نجد تلك التطبيقات واضحة في ادق تفاصيل السلوك الاسلامي اليومي، حتى في سلوكيات اكتساب المال، من خلال حالة التكافل الاجتماعي، وهذا ما نعيش تجلياته في الواقع اليومي العراقي وبشكل خاص في بعض المناسبات.

اضف تعليق