q
يتميز المجتمع العراقي بوفرة الأيدي العاملة، وتطبعه بالسمات والصفات الإنسانية الأخلاقية التربوية التي يمكن أن تُسهم بصورة فعالة في الإسراع بوتيرة البناء، وما يصب في صالحنا أيضا تفوّق نسبة الأعمار الشابة على سواها من الفئات العمرية، وهذا يعني وجود طاقات هائلة لو صحَّ توجيها وتوظيفها بالطرائق العملية الناجعة، لأمكننا بناء العراق بصورة أسرع وأتقن وأجدى...

يتميز المجتمع العراقي بوفرة الأيدي العاملة، وتطبعه بالسمات والصفات الإنسانية الأخلاقية التربوية التي يمكن أن تُسهم بصورة فعالة في الإسراع بوتيرة البناء، وما يصب في صالحنا أيضا تفوّق نسبة الأعمار الشابة على سواها من الفئات العمرية، وهذا يعني وجود طاقات هائلة لو صحَّ توجيها وتوظيفها بالطرائق العملية الناجعة، لأمكننا بناء العراق بصورة أسرع وأتقن وأجدى.

لم تزدهر قيمة البناء بين العراقيين، ولم نجد من يؤسس لهذه القيمة بصورة راسخة لدى الناس بمختلف أعمارهم، وما يهمنا هنا الفئة أو الشريحة الأوسع، والأكثر قدرة على تحمّل الإجهاد العضلي، ونعني بهم الشباب، فالبناء في جانبه المادي العمراني الإنتاجي يستدعي وجود طاقات جسدية عضلية هائلة، وهذه موجودة لدى الشباب، والعراق بلد يتصدر الشباب فئاته العمرية، ولكن هناك عائق هو عدم تربية هذه الشريحة على قيمة البناء بالصورة الصحيحة.

فمثلا نحن مجتمع يريد شبابه وكباره وحتى صغاره أجرا يقابل أي نشاط يقدمونه للآخرين، وقلما نجد من هو على استعداد لتقديم الجهد بلا مقابل خصوصا في مشاريع البناء الجماعية التي تقدم خدمات مهمة لمن يحتاجها، كالمدارس والمستشفيات والمجمعات السكنية والحدائق العامة وسواها، وإذا كان هناك مبرر ما لعدم تقديم الجهد في هذه المجالات باعتبارها من مهام الدولة والحكومة والخزينة عامرة بأموال النفط، فلماذا نرفض المشاركة في مشاريع ذات صبغة خيرية؟!.

إننا في الحقيقة لم نعتد هذا النوع من التضحيات، ولم يعلّمنا أحد الاستعداد للتضحية في مجال البناء، هذه هي الكلمات التي يتفوّه بها الشباب وغيرهم أيضا عندما نستغرب من مواقف بعضهم إزاء المساهمة في العمل الطوعي على سبيل المثال، إن أهمية مثل هذه المشاركات تكاد غير موجودة ولا مفهومة لشرائح وفئات واسعة من المجتمع، والخلل لا يتعلق بهم، إنها الثقافة المجتمعية السائدة، وعجز المعنيين على ترسيخ هذه القيم الجيدة في نفوس وأخلاقيات الشباب وغيرهم، حتى يكاد وعيهم يصل درجة الصفر في هذا الجانب.

توحيد المساعي التربوية للشباب

فهل فكرت مؤسسات ثقافية أخلاقية فكرية تدعم الشباب بالقيم التي تحسّن من أوضاع المجتمع وتأخذ به إلى درجات أفضل من مستويات العيش والتفكير والسلوك؟، نحن كمجتمع نفتقر إلى مثل هذه النشاطات المهمة بطريقة منتظمة، قد تكون هناك بعض الجهود المبعثرة لتطوير الوعي المجتمعي، لكنها نادرة وذات نسق ارتجالي غير مدروس ولا منتظم، ونعني بالوعي المجتمعي التطور التفكيري في كيفية خلق الظروف المناسبة للإنتاج الأفضل في ميادين العمل كافة، وليس الحكومية الوظائفية حصرا، إذ هناك مجتمعات كبيرة استطاعت أن ترسخ مفهوم العمل المدني التطوعي بين عموم أفراد المجتمع وخصوصا الشباب، حتى أصبح هذا النوع من العمل طبيعة حياتية يومية مستساغة من لدن الجميع، وتم بناء مدن كبيرة ومشاريع كثيرة وفق أسلوب الجهد الطوعي، بعد أن هضم الجميع مفهوم الخدمة المدنية ودورها في تطوير حياة المجتمع من خلال الإسهام في النهوض بالبنية التحتية.

لكن هذا الجانب يكاد يكون مهملا لدينا، فما نراه في العراق هو عدم الاهتمام بقيمة البناء المادي بصورة طوعية من خلال زرع هذا السلوك بالنفوس والإيمان به، لكن شيوع حالة اللامبالاة لدى المسؤولين والمواطنين على حد سواء تعرقل مثل هذه التوجهات الطوعية، أما مسؤولية هذا الخلل التربوي فإنها تقع على ذوي القرار وليس على المواطن، فهم يتحملون نتائج رفض عام الناس لهذا النوع من أساليب البناء، لاسيما أن الجهات الرسمية لا يخطر في بالها تعميق الوعي الشعبي في هذا الاتجاه، لذا فإن المجتمع العراقي يفتقد حاليا الى التقدير الصحيح لأهمية العمل الطوعي، ليس على المستوى الشعبي فحسب، إنما هناك تراجع رسمي في هذا الصدد، فضلا عن الضعف السافر لدور الجهات المعنية ومعظمها تنتسب الى منظمات المجتمع المدني، فهي في الغالب متأخرة عن المسؤولية الملقاة على عاتقها في توعية وتنوير المجتمع والشباب بشكل أخص على أهمية مثل هذه المشاركات الفعالة في البناء.

أما التساؤل الحاضر بيننا الآن هو، هل تقوم منظمات المجتمع المدني المعنية بتطوير مفهوم الخدمة المدنية بدورها؟ وسوف يردف التساؤل الأول تساؤل ثان، هل تقوم الجهات الرسمية بدورها المطلوب في هذا المجال؟. ولعل الإجابة المأخوذة عن الواقع ستؤكد بصورة قاطعة على أن منظمات المجتمع المدني المعنية وغيرها من الجهات الاهلية لاتزال تدور في فلك المصالح والفوائد الفردية والشللية، وهي لاتزال تجلس في ابراجها العاجية بمعزل عن الشعب وكأنها تمارس دور القيادة الفخرية لا غير، فلم نر الجهد الفعلي المطلوب الذي ينزل الى الشارع ويساعد الناس على هضم وقبول واعتياد الخدمة المدنية الطوعية في حملات البناء والتنظيف وسواها، وهي التي نقلت المجتمعات من حالات التخلف والتردي والضمور الى درجات عليا من الرقي والتمدّن، ولا نعرف بالضبط لماذا لاتؤدي هذه المنظمات ما يقع على عاتقها من مسؤوليات كبيرة في قضية نشر ثقافة العمل الطوعي بين الناس؟ مع أنها مدعومة بعوامل القدرة على نشر هذه الثقافة العملية ماديا ومعنويا أيضا. ولو تحدثنا عن الجهد الرسمي في مجال نشر مفهوم الخدمة المدنية كسلوك وفكر يسهم بتطوير المجتمع، فإن الوقائع الملموسة تشير الى إهمال كلي لهذا الجانب، ولعل الحكومة ومؤسساتها تجهل قدرة العمل الطوعي على تعزيز الروح الوطنية لدى الافراد، كما أنها قد تجهل الطاقات التي يتمتع بها المواطن حين تتعزز فيه روح المواطنة، عن الآخر الذي لا يعرف ما هي المواطنة ولم يجرّب الشعور بها.

مواكبة تطورات العصر

بالنتيجة حين تعمل الحكومة ومؤسساتها المعنية على بناء المواطن المؤمن بالعمل الطوعي، فإنها كمن يساعد نفسه على تحقيق الاهداف المطلوبة منه، وهذا عمل يصب بالنتيجة في صالح الحكومة أيضا، لذا فإن التقصير الرسمي في هذا المجال ينعكس على الاداء الحكومي نفسه، وينعكس على طبيعة حياة المجتمع ومدى اقترابه من روح العصر او العكس، هنا لابد من التأكيد على أن دور الحكومة في مجال نشر وتطوير الخمة المدنية بين افراد وشرائح المجتمع ينبغي أن يسبق غيره ويتقدم الأدوار الأخرى إذا لم يكن مثالا لها لأن المؤسسات الحكومية تتمتع بقدرات عملية مادية تنظيمية قد تفتقد لها الجهات الأقل منها في الترتيب والمسؤولية، لذلك لابد من أن يتعاضد الجميع حكومة ومنظمات مدنية معنية، على نشر وترسيخ مفهوم وثقافة وسلوك الخدمة المدنية بين الجميع، ويمكن وضع آليات وخطوات عمل اجرائية من لدن لجان مختصة تطبَّق على الواقع، فتنجح بنقل المجتمع العراقي إلى مرحلة البناء الجديد، ومن هذه الخطوات التي يمكن تطبيقها فعليّا:

- وضع خطط عملية مدروسة تسهم في تعميق الإيمان بالعمل الجماعي الطوعي المثمر.

- توفير الحياة الكريمة للفرد، من حيث السكن والخدمات والتعليم والصحة وفرص العمل بما يتفق مع المؤهلات والمهارات.

- نشر هذه القيمة بين أفراد الأسرة، وطلاب المدارس الابتدائية صعودا إلى المراحل الأخرى.

- التركيز على البرامج الثقافية الخطابية الإذاعية كي تقوم بدورها في التشجيع على استلهام هذه القيمة والإيمان بها.

- الإعلام بأشكاله وفروعه كافة يقع عليه دور مهم وكبير في ترسيخ قيمة العمل الطوعي بين الشباب وغيرهم.

- توفير المحفزات اللازمة لإنعاش هذه القيمة فكريا وتطبيقيا.

- لا يمكن أن تدعو الشباب إلى الإيمان بالبناء وهو لا يجد من يهتم به ويرسم له مستقبلا طموحاً.

- هناك قاعدة الأخذ والعطاء، فإذا أرادت الدولة أن تأخذ من مواطنيها ما ترغب به عليها تقدم لهم ما يرغبون وفق قاعدة الحقوق والواجبات.

اضف تعليق