ظاهرة العطاء والبذل خلال زيارة الأربعين من قبل المواكب الخدمية على طول طريق المشاة، من الشباب ومن عامة الناس لخدمة زائرين الامام الحسين في أربعينيته، بكل ما يملكون، فلا يدخرون جهداً ولا مالاً في هذا الطريق من اجل تغيير ذواتهم بما يجلي نفوسهم ويعيدها الى النسخة الأصلية –الإلهية...

مجرد فكرة التغيير غير مرحب بها في الذهن قبل أن تخرج الى الواقع الخارجي فتغيّر سلوك انسان، او تغير داراً مشيّدة من حال الى آخر، او تغير طريقة تفكير او ممارسة في أوساط الأسرة، او المدرسة، او الجامعة، او السوق، وحتى مؤسسات الدولة، والسبب ليس خافياً؛ عدم الرغبة بفقدان الموجود، فمن أولى استحقاقات التغيير؛ الهدم –في معظم الاحيان- وإزالة ركام الماضي، ثم البناء من جديد، وهذا ما يخشاه الجميع، لاسيما اذا كان التغيير يمسّ المال والمنصب والحياة المرفهة، فالقضية تبدو مكلفة وغير مشجعة عند البعض. 

في مسيرة النهضة الحسينية؛ من أول خطوة نحو "الإصلاح في الأمة"، ثم المحطة العاشورائية الدامية، وبعدها محطة السبي، وما جرى على أهل بيت رسول الله في الكوفة وفي الشام، نرى معالم فرص تمنحها هذه المسيرة الربانية لتغيير ذاتي ينقل صاحبه الى ما يصبو اليه هو في حياته من تحقيق الحرية والعدل والمساواة والكرامة الإنسانية.

فاذا رفع الإمام الحسين شعار المعارضة والمواجهة للانحراف والفساد والطغيان في قمة السلطة، فانه لا يرفع الشعار نفسه ضد السقطات داخل النفس الإنسانية، بلى؛ إنه ألقى الحجج البالغة كلها، وترك الاختيار بيد الانسان نفسه، تبعاً للقانون الإلهي: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}، في سورة الإنسان التي نزلت بحقه، عليه السلام، وحق أبيه وأمه وأخيه في القصة المعروفة.

ومن حكمة القانون الإلهي العادل، أن التغيير كلما كان منشأه ذاتياً، كانت آثاره الإيجابية على المحيط الاجتماعي أكثر وأكبر، وكانت امتداداته أبعد مع الزمن للأبناء والاحفاد والاجيال كما سنرى في السطور التالية.

الحر والتجربة الناجحة

تجربة الحر الرياحي فريدة من نوعها، فهو يختلف عن كثير ممن تخلفوا عن الإمام الحسين بأمور منها: أنه لم يكن يعرف بتفاصيل معارضة الامام للنظام الأموي، وأنه كان بعيداً عن ضجيج أهل الكوفة ورسائلهم بالبيعة للإمام ودعوتهم له بالقدوم الى الكوفة، وهو ما بينه الحر نفسه عندما ألقى الامام أكوام الرسائل والكتب أمامه لدى اللقاء به، فقال: "لسنا من القوم الذين كتبوا اليك هذه الكتب، وقد أمرنا اذا نحن لقيناك أن لا نفارقك حتى نقدمك الى عبيد الله بن زياد"، فتبسم الإمام الحسين، وقال: "الموت أدنى اليك من ذلك"!

الحر الرياحي، كان يعرف من يكون الامام الحسين، عليه السلام، وكيف

لإنسان تجاهل الشمس في رابعة النهار؟ بيد أنه كان يتسنّم منصباً عسكرياً في الجيش الإسلامي –إن صح التعبير- وما عليه سوى تنفيذ الأوامر، ومنها "الجعجعة بقافلة الإمام الحسين"، أي محاول التضييق عليه حتى لا يأخذ مساره الى الكوفة، وهذه كانت أقصى ما يفكر به الحر في علاقته بالامام الحسين في تلك اللحظات، ولذا سأل عمر بن سعد ذلك السؤال المفاجئ في ظهيرة عاشوراء بأن "أمقاتل أنت هذا الرجل"؟! بعد أن تلقى من الامام الحجج البالغة بمنزلته عند الله –تعالى- وعند رسوله، وأنه لم يخرج باغياً ولا مفسداً، ولا يدعو الى الفتنة والقتال في الأمة، وهنا عرف أنه في جبهة الباطل عندما صدّق ابن سعد كلام الامام الحسين، ثم قال: "ولكن أميرك ابن زياد يأبى ذلك"!، ثم عرف الحق فعرف أهله في لحظة يقظة وتغيير ذاتي عظيم. 

فشل ونجاح للتجربة في مكان واحد! 

بعد اللقاء بالحر الرياحي، نزل الامام الحسين في "قصر بني مقاتل" فاذا به يرى فسطاطاً –خيمة- مضروباً، فسأل عن صاحبه، فقيل له: إنه لعبيد الله بن الحر الجعفي، فأرسل الامام من يدعوه اليه فرفض تلبية الدعوة بأني "ما خرجت من الكوفة إلا كراهة ان يدخلها الحسين، وأكون انا فيها! فإن قاتلته كان ذلك عند الله عظيماً، وإن وقفت معه كنت أول قتيل في غير غناء عنه"! فقام الامام الحسين، عليه السلام، بنفسه، وهو موقف تاريخي عظيم يسجله الامام على كل من يتعثر في طريق تغيير نفسه ذاتياً مهما كانت الاسباب، فدخل خيمته وقال له: يا بن الحر! إن أهل مصركم -الكوفة- كتبوا إليّ وخبروني أنهم مجتمعون على نصرتي، وسألوني القدوم اليهم فقدمت". فأجاب بكل صلافة بنفس ما قاله لرسوله، ثم ألقى، عليه السلام، الحجة البالغة والاخيرة عليه بأن "أدعوك في وقتي هذا الى توبة تغسل بها ما عليك من الذنوب، أدعوك الى نصرتنا أهل البيت".

الامام الحسين يذكر الجعفي بخيانته لأمير المؤمنين في حرب صفين، وكيف أنه انتقل الى معسكر معاوية بفعل المال، وغاب في الشام فترة طويلة، وانقطعت اخباره عن الكوفة، حتى يئست زوجته وظنته ميتاً، فتزوجت رجلاً آخر، ولما وصل الخبر اليه عاد الى الكوفة وطالب بزوجته، وجاء الى أمير المؤمنين يطلب عدله! فأمر الإمام أمير المؤمنين بإعادة المرأة الى زوجها الأول، وإلحاق الطفل المولود حديثاً بالزوج الثاني. 

هذا الرجل التعيس في حظه بالدنيا والآخرة، خسر الفرصة العظيمة، ولكن هذه الفرصة اغتنمها رجلٌ كان الى جانبه يسمع الحوار بينه وبين الامام الحسين، وكان على نفس موقفه منذ خروجهما من الكوفة، ولكن عندما سمع مقالة الإمام تأثّر بها، واهتزت لها نفسه وقلبه، فقال للإمام الحسين: "والله ما أخرجني من الكوفة إلا ما أخرج هذا! من كراهة قتالك او القتال معك، ولكن الله قد قذف في قلبي نصرتك، وشجعني على المسير معك"، فقال له الامام: "فاخرج معنا راشداً محفوظا".

ربما كان التقدير في مجيئ الامام الحسين الى خيمة الجعفي، إعطاء فرصة التغيير لصاحبه وليس له، فكان جديراً بها، وحسب المصادر فان هذا الرجل، واسمه؛ أنس بن الحارث الكاهلي، كان شيخاً صحابياً ممن رأي النبي الأكرم، وسمع حديثه، وكان مما قاله لأصحاب الحسين حينما التحق بهم: "لقد سمعت رسول الله يقول؛ والحسين في حجره: إن ابني هذا يُقتل بأرض من العراق، ألا فمن شهده فلينصره".

عناصر ومتطلبات التغيير الذاتي يوفرها الانسان نفسه، فهو شأن داخلي، فالبصيرة التي كانت عند الحر الرياحي، والتي كانت عند ذلك الرجل الكهل المصاحب للجعفي، لم يأخذوها من أحد، إنما هي من صناعة انفسهم، فهم سمعوا و وعوا، ثم تحملوا مسؤولية التغيير كاستحقاق للتحول من الباطل الى الحق مهما كان الثمن، بينما ثقل أمر الثمن على شخص مثل الجعفي الذي قال للإمام الحسين، وهو على معرفة دقيقة به: "يا بن رسول الله! لو كانت لك بالكوفة أعوان يقاتلون معك لكنت أنا من أشدهم على عدوك"! 

يا لها من معادلة خاسرة ما يزال الكثير يتمسك بها الى اليوم في اختيار الطريق الصحيح، فالبعض يعتقد بإمكانية الجمع بين هذا الطريق وحياة الراحة والرفاهية، و أن لا يتخذ موقفاً دون سائر الناس لمواجهة الظواهر السيئة في المجتمع والدولة ايضاً، وأن يكون "حشرٌ من الناس عيد".

ولعل هذا يفسّر جانباً من ظاهرة العطاء والبذل خلال زيارة الأربعين من قبل المواكب الخدمية على طول طريق المشاة، وايضاً؛ من الشباب ومن عامة الناس لخدمة زائرين الامام الحسين في أربعينيته، بكل ما يملكون، فلا يدخرون جهداً ولا مالاً في هذا الطريق من اجل تغيير ذواتهم بما يجلي نفوسهم ويعيدها الى النسخة الأصلية –الإلهية، فيكون الشعور النهائي بالخفّة والتحليق الى آفاق النهضة الحسينية وأهدافها، والراحة في الدنيا والآخرة.  

اضف تعليق