في البداية لابد أن نتساءل ما المقصود بالمثقف العراقي، ومن هو المثقف العراقي بالتحديد؟، ومن ثم ما هي مسؤولياته، وأي نوع من المآزق تحيط به؟ وكلنا نعرف أن معالجة مشكلة أو مأزق معين، يتطلّب معرفة تلك المشكلة وأسبابها ومن ثم البدء بمعالجتها...
في البداية لابد أن نتساءل ما المقصود بالمثقف العراقي، ومن هو المثقف العراقي بالتحديد؟، ومن ثم ما هي مسؤولياته، وأي نوع من المآزق تحيط به؟
وكلنا نعرف أن معالجة مشكلة أو مأزق معين، يتطلّب معرفة تلك المشكلة وأسبابها ومن ثم البدء بمعالجتها.....
أولا المثقف العراقي ليس المقصود به، ذلك الفرد الذي ينتمي إلى أولئك الأشخاص الذين يكتبون وينشرون ويصدرون كتبا بأسمائهم في الأجناس الأدبية كالقصة والرواية والشعر، فكتابة الأدب وحدها، ونشر قصة هنا أو قصيدة هناك، أو إصدار كتاب هنا وآخر هناك، هذا لا يعني جوهر الثقافة، ولا يمكن أن نعد هذا الكاتب مثقفا لمجرد أنه أصدر كتابا.
الحقيقة تشير بوضوح إلى أن إصدار الكتاب في العراق لم يعد يشكل مشكلة لأحد، ليست هناك ضوابط محددة لنشر الكتاب، وعلى الرغم من أن هذه الميزة جيدة على عكس المنع والقمع والتقييد في النشر، إلا أن غياب الضوابط والشروط والمحددات، أيضا هو واحد من المآزق التي تحيط بالثقافة والمثقفين والأدباء في العراق.
الربح والخسارة والارتزاق
ولكن ما نريد أن نصل إليه هو قضية إمكانية نشر كتاب لأي شخص كان، فقد بات هذا الأمر ممكنا للجميع، لأن سوق الطباعة (ودور النشر المختلفة) صار بمقدورها أن تصدر كتابا لأي شخص يريد أن يطبع كتابه في هذه الدار أو تلك.
ولأن سوق الطباعة صار من ضمن ما يدور ويجري اليوم في أسواق العراق وما يحكمها من قوانين التجارة والربح والخسارة والارتزاق، فلهذا ليس هناك ما يمنع دور الطبع من طباعة الكتب للأشخاص الذين يرغبون في ذلك، حتى أن دور النشر (إلا ما ندر)، لا توجد لديها ضوابط على الكتب، ولا مراجعات، ولا تدقيق في المضامين والأفكار وسواها.
هذه الأمور باتت غير محببة، لأنها تذكرنا بالإرث القمعي ومقص الرقيب والرقابة الصارمة على طباعة الكتب، لهذا فنحن نعيش اليوم في ما يمكن أن نسميه (بحبوحة الطبع)، حيث يمكنك أن تطبع كتابا في الموضوع الذي يهمك وتختاره أنت ولا أحد يراجع بعدك، لهذا باتت الإصدارات كثيرة جدا، والمهم هنا في قضية الطباعة مسألتين هما:
أولا: أن يحصل الشخص على كتاب أو مؤلَّف يحمل اسمه، ليعلن أمام الملأ وعلى رؤوس الأشهاد بأنه أصدر كتابا يحمل العوان الفلاني وبالتالي فهو دخل (مملكة المثقفين) شاء من شاء وأبى من أبى، فهو يعتقد بأن مجرد ظهور كتاب باسمه هذا يعني أنه انتمى إلى (جمهورية المثقفين) بلا تدقيق ولا تمحيص ولا اعتراض.
أرباح بلا نتيجة
المسألة الثانية: قضية الربح المالي للدار التي تطبع هذا الكتاب أو ذاك، حيث باتت قضية الطباعة مهنة وعمل يربح منه صاحب الدار، لكن المشكلة ليست هناك حدود، ولا ضوابط، والمهم في هذا الجانب ما يحصل عليه صاحب الدار من أموال، في ظل رغبة جامحة لصاحب الكتاب كي يحصل على مطبوع يحمل اسمه.
أليست هذه مجموعة من المآزق تحيط فعلا بالمثقف العراقي؟، ثم هل يعني حقا أن إصدار هذا المطبوع أو ذاك وتسجيله باسم شخص معين يمكن أن يمنحه صفة الانتماء إلى المثقفين؟
الجواب المباشر والمعروف أن حصول الفرد أو الشخص على كتاب مطبوع باسمه، لا يعني مطلقا أنه شخص مثقف، وإلا فإن كل الأشخاص الذين يمتلكون أموالا فائضة يمكنهم أن يصبحوا مثقفي المطبوعات التي لا تعني بأنهم مثقفون فعلا، ذلك أن المثقف ليس بالمطبوع وحده، وإنما هنالك شروط مهمة أكبر بكثير من قضية المطبوع.
أهم شرط من شروط الانتماء للمثقفين، أن يكون الشخص مؤثرا وفاعلا وذا فكر إنساني نبيل ومؤثر، وأن يكون له دور فعال في التنمية الفكرية والأخلاقية تنعكس على المجتمع، وعلى العقلية الجمعية للنسيج الاجتماعي، ولكن نحن نعرف تمام المعرفة، أن هناك أشخاصا لديهم إصدارات عديدة في مجالات الأدب أو العلوم، ولكنهم غير مؤثرين بالناس.
هل هذا هو المثقف؟
بالطبع لا يمكن أن يكون إصدار كتاب هو المفتاح الذي يفتح أبواب الانتماء للثقافة والمثقفين، بل الشرط الأهم والأعظم، مدى فاعلية وتأثير ذلك الإنسان في محيطه الاجتماعي أو العملي أو حتى العائلي.
مأزق إصدار الكتب
لهذا باتت قضية إصدار المطبوعات من ضمن المآزق التي تحيط بالمثقفين الحقيقيين، مما يجعلنا نتساءل حقا، من هو المثقف الفعلي؟
والجواب يأتي هنا من مجموعة آراء لمجموعة من المفكرين خاضوا في هذا المجال وحسموا الأمر في عدة أجوبة تلتقي مع بعضها، ومن ضمن هؤلاء الكاتب الشهير غرامشي في تعريفه وتوصيفه للمثقف العضوي، فالمثقف الحقيقي لا يتم تحديده بإصدار المطبوعات، ولا يشكل أي مطبوع هوية الانتماء للثقافة والمثقفين.
الثقافة هي فعل أولا، وتطبيق، لأفكار، على أن تتصدر الإنسانية مواقف هذا المثقف، والأخلاق، والحفاظ على القيم، ونشر القيم العظيمة التي ترتقي بعقول البشر وتطور سلوكياتهم، بحيث يصبحون أخيارا وأساتذة ومعلمين للخير والطبائع الإنسانية التي ترتفع عاليا بكرامة ومكانة الإنسان.
المآزق التي تحيط بالمثقف الحقيقي كثيرة، ولكن من المهم أن نتفق على أن المثقف هو الذي يتصرف بين الناس بما تفرضه عليه الثقافة الصادقة الحقيقية التي تحفظ حقوق الناس ومكانتهم وكرامتهم، وليس الادعاء بأنه مثقف، ولا إعلانات هنا وهناك يقوم بها أشخاص كي ينتموا للثقافة والمثقفين وأول هذه الأفعال إصدار الكتب التي باتت ممكنة وسهلة لدرجة أن كل من يمتلك مبلغا معينا من المال يمكنه.
خلاصة القول، مجتمعنا العراقي بات غارقا في ظواهر تنتقص من الثقافة والمثقفين، وتخلط الأوراق، فيضيع المثقف المزيف مع المثقف الحقيقي، لهذا لابد من الفرز، وتقليل المآزق الكثيرة التي تحيط بالمثقفين الحقيقيين، وهذا يتطلب نوعا من التدقيق تقوم به المنظمات الثقافية، وتشترك فيه دور الطباعة والنشر التي يجب عليها منع ظاهرة امتلاك الكتاب لكل من هبّ ودب، وبالتالي فالمثقف عليه أن يدرك بأن مآزقه كثيرة وأنه المعني الأول بالكشف عنها ومعالجتها بصوت عالٍ وبأفكار لا تتوقف.
اضف تعليق