حمل الإمام على عاتقه عبء الإصلاح الجذري، ساعيًا إلى إعادة تعريف الممارسة السياسية في ضوء القيم النبوية الأصيلة، وكاشفًا عن التناقض الجوهري بين السلوك السياسي الأموي والمبادئ التأسيسية للإسلام. وتكمن الأهمية التاريخية والفكرية للنهضة الحسينية في قدرتها على إحداث زلزالٍ في البنية السياسية الإسلامية، مما أدى إلى تحولاتٍ عميقةٍ...
مقدمة:
تُمثِّل واقعة الطف (كربلاء) منعطفًا جوهريًّا في تشكيل الوعي السياسي الإسلامي، تجاوز بكثير كَونَها حدثًا تاريخيًّا عابرًا. فموقف الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) في مواجهة السلطة الأموية لم يكن سعيًا وراء مُلكٍ زائلٍ أو سلطةٍ دنيوية، بل كان تجسيدًا لمشروع تجديدي ضخم يحمل في طياته استمرارية الرسالة المحمدية.
لقد حمل الإمام على عاتقه عبء الإصلاح الجذري، ساعيًا إلى إعادة تعريف الممارسة السياسية في ضوء القيم النبوية الأصيلة، وكاشفًا عن التناقض الجوهري بين السلوك السياسي الأموي والمبادئ التأسيسية للإسلام.
وتكمن الأهمية التاريخية والفكرية للنهضة الحسينية في قدرتها على إحداث زلزالٍ في البنية السياسية الإسلامية، مما أدى إلى تحولاتٍ عميقةٍ طالت مفاهيم الشرعية والطاعة والقيادة. هذه التحولات لم تكن آنية فحسب، بل أسست لمرجعية دائمة في نقد السلطة وتقييم شرعيتها.
أبرز التحوّلات السياسية المنهجية:
1. تفكيك شرعية النظام الأموي (اسقاط القداسة السياسية):
أحدث رفض الحسين (عليه السلام) البيعة ليزيد بن معاوية قطيعةً ابستمولوجيةً مع مفهوم "الشرعية الدينية" التي ادعتها السلطة الأموية. فلم يكن الرفض مجرد خلاف سياسي، بل كان حكمًا قيميًّا على انحراف النظام عن جوهر الإسلام. فمثلا: تصريحه "إن مثلي لا يبايع مثله" يشكل معيارًا فاصلاً بين نموذجين: "الإسلام النبوي" القائم على القيم، و"الإسلام السلطاني" الذي وظّف الدين لخدمة أغراض الحكم.
ومن هنا فقد تحوّل هذا الموقف إلى سابقةٍ تاريخيةٍ وفقهيةٍ دائمة، جردت الحكم الأموي (ومن حذا حذوه من الأنظمة المستبدة التي تلبس لباس الدين) من أي غطاءٍ شرعيٍ ديني حقيقي، وكشفت اغتصابه لرمزية الخلافة.
2. إعادة تشكيل مفهوم الشرعية السياسية (التحول من مفهوم القوة الى مفهوم القيم):
قلبت النهضة الحسينية المعايير السائدة للشرعية رأسًا على عقب. فبعد أن كانت القوة المادية وتوفير الأمن الظاهري كافيين لمنح الشرعية في نظر البعض، أصبحت الشرعية تُقاس بمدى التزام الحاكم بالحق والعدل وتمثيله لمنهج النبوة.
ولذا كان من اثار الثورة الحسينية ان الحسين (عليه السلام) استطاع إعادة تفعيل مبدأ "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" في أبعاده السياسية الجوهرية، مؤكدًا أن طاعة الحاكم ليست مطلقةً، بل هي مشروطةٌ بالتزامه بالمعروف واجتنابه المنكر. وهكذا، أصبحت القيم الأخلاقية والدينية هي المقياس الحقيقي لشرعية السلطة، لا القدرة على البطش أو الإغراء.
3. تحرير مفهوم الإمامة من احتكار السلطة (التمييز بين الزعامة والقدوة):
فقد كشفت النهضة الحسينية الفصل الحتمي بين مفهوم "الإمامة" الروحية والفكرية القائمة على العلم والعدل والتقوى والورع، وبين مفهوم "الخلافة" أو "المُلك" السياسي القائم على القوة والقهر والوراثة. فقد بيّن الحسين (عليه السلام) بفعله أن الإمامة منصبٌ إلهيٌ يتحدد بالكفاءة المعنوية والأخلاقية والعلمية، لا بالتعيين السياسي أو الغلبة العسكرية.
وقد أسّس هذا لفهمٍ جديد للقيادة في الوعي الإسلامي، حيث أصبحت القيادة الحقيقية هي القائمة على الهداية والقيم، وليس على التربع على العروش وإصدار المراسيم.
لقد حوّل الحسين الإمامة من موقع سلطوي إلى موقع أخلاقي ومرجعي.
4. تأصيل ثقافة المقاومة ورفض الاستكانة:
حوّلت كربلاء "الوقوف في وجه الظلم" من فعلٍ اختياريٍ إلى واجبٍ أخلاقيٍ وسياسيٍ ملزم. فقد جسّد الحسين وأصحابه أن الصمت على الباطل هو تواطؤ، وأن الثمن مهما عَظُمَ فهو أدنى من ثمن الذل والضياع.
ومن هنا امكننا القول: لم تكن كربلاء نهاية، بل كانت ميلادًا لـ"فكرة المقاومة" كحالةٍ دائمةٍ في الضمير الجمعي للأمة. تحولت الشهادة فيها إلى منبعٍ لا ينضب للإلهام الثوري، تجلّى في حركات التوابين، وثورة المختار الثقفي , وثورات العلويين، وامتد عبر التاريخ ليغذي نضال المستضعفين ضد الطغاة، مؤكدةً أن الثورة الحسينية مشروعٌ فكريٌ وروحيٌ يتجدد.
5. كشف تناقض الإسلام الرسمي (الإسلام السلطاني):
فضحت الواقعة التناقض الصارخ بين الممارسات الوحشية للنظام الأموي (قتل سبط النبي، سبي عياله، انتهاك الحرمات) وبين ادعائه تمثيل الإسلام. أثبتت أن "الإسلام" الذي تروّجه وتستند إليه السلطة القائمة ليس هو إسلام الرسالة، بل هو أيديولوجيا مُزيّفة تُستخدم لتبرير الاستبداد وتثبيت أركان العرش.
أنشأت هذه المفاصلة وعيًا نقديًّا دائمًا في العقل المسلم، يميّز بين "الإسلام الرسالي" المتجذر في القيم النبوية، و"الإسلام الرسمي" أو "الدين المؤسساتي" الذي يخدم مصالح السلطة. وأسست لمبدأ محاسبة الحكام بمقياس العدل والمبدأ، لا بمجرد مظاهر التدين أو فرض الطاعة.
6. ترسيخ الحسين كمرجعية عليا للشرعية الثورية:
تمثل الإنجاز الأعمق لكربلاء في تحويل الحسين (عليه السلام) إلى "رمز خالد" و"معيار ثابت" للحق والشرعية الثورية. لقد أصبحت تضحيته المِحك الذي تُقاس به المواقف عبر العصور: أين تقف من العدل والظلم؟ من الصدق والزيف؟ من التضحية والاستسلام؟ من الجوهر والمظهر؟
تحوّلت شخصية الحسين من شخصية تاريخية إلى نموذجٍ سامٍ يتعالى على الزمن، يصبح هو الحاكم على التاريخ ومواقفه، وليس العكس. فأصبح سؤال "أمع الحسين أم مع يزيد؟" سؤالًا وجوديًّا يتجدد في كل محنة.
وهذا ما يمكن ان نصطلح عليه: (سيادة الرمز على التاريخ).
وختاما نقول:
تتجاوز دلالات النهضة الحسينية فكرة الصراع المسلح المحدود؛ فهي في جوهرها صدامٌ بين رؤيتين متضادتين للسلطة والدين: رؤية تجعل الدين أداةً لخدمة السلطة وتبريرها (الإسلام الأموي/ السلطاني)، ورؤية تجعل السلطة وسيلةً لتحقيق مقاصد الدين القائمة على العدل والإحسان (الإسلام النبوي/ الرسالي).
لقد كانت كربلاء لحظةَ يقظةٍ كبرى في الضمير الإسلامي، لحظةً أطاحت بشرعية المستبدين وزرعت بذور النقد والمقاومة والتجديد. فبينما سقط جسد الحسين (عليه السلام) على رمضاء كربلاء، نهض منه رمزٌ خالدٌ للحرية والعدالة والشرعية الحقيقية، يمد كل حركة إصلاح صادقة بمشروعية تاريخية وأخلاقية، ويضيء لكل وعي نقي طريق التحرر من عبودية الطغيان. فدم الحسين (عليه السلام) لم يُسفك، بل تحول إلى حبرٍ يكتب به تاريخُ المستضعفين نضالَهم من أجل كرامتهم.
اضف تعليق