الخطاب الثقافي ليس مجرد انعكاس للمجتمع، بل أداة قادرة على إعادة تشكيله وتحفيز وعيه الحقوقي، وكلما كانت الثقافة حرة، متنوعة، ومنفتحة، كلما ساهمت في ترسيخ حقوق الإنسان كممارسة يومية وليست فقط كنصوص قانونية، ولذا، فإن بناء ثقافة حقوقية يبدأ من الاستثمار في الخطاب الثقافي بكل أشكاله، بما يجعله حاملاً...

لم تعد قضايا حقوق الإنسان مجرد إعلانات قانونية أو معاهدات دولية، بل باتت تعتمد بشكل أساسي على القبول المجتمعي والممارسة اليومية. وفي هذا السياق، يُعد الخطاب الثقافي أحد المحركات الأساسية التي تؤثر في تشكيل الوعي العام تجاه الحقوق والحريات. 

فاللغة، والأدب، والفن، والدين، والإعلام، جميعها مكونات لهذا الخطاب، تسهم إما في تكريس مفاهيم حقوق الإنسان أو تقييدها، تهدف هذه المقالة إلى دراسة دور الخطاب الثقافي في ترسيخ قيم حقوق الإنسان، مع تحليل آليات التأثير والتحديات، واقتراح سبل توظيف الثقافة في خدمة العدالة والكرامة الإنسانية.

الخطاب الثقافي هو النتاج الرمزي للمجتمع، ويشمل الأفكار والمعتقدات والممارسات التي تعكس القيم السائدة ووظيفته الأساسية نقل القيم وإعادة إنتاجها، إيجاباً أو سلباً، يشمل هذا الخطاب:

- الخطاب الديني: التفسيرات والممارسات المستندة للنصوص الدينية.

- الخطاب الإعلامي: الرسائل التي تنقلها وسائل الإعلام الجماهيرية.

- الخطاب الأدبي والفني: الروايات، الشعر، السينما، المسرح.

- الخطاب التعليمي: المناهج والمفاهيم التي تُبث في المدارس والجامعات.

وعلى الرغم من أن حقوق الإنسان وُلدت في إطار قانوني دولي، إلا أنها لا تُصبح فاعلة إلا حين تتحول إلى قيم مجتمعية تُحترم وتُمارس، مثل احترام الكرامة الفردية، والمساواة بين الجنسين، وحرية الرأي والتعبير، وكذلك الحق في التعليم والصحة والعيش الكريم، وهذا لا يتحقق بالقانون فقط، بل عبر تطويع الخطاب الثقافي ليتبناها ويدافع عنها.

أما دور الخطاب الثقافي في دعم حقوق الإنسان فهو متجسد في التربية على التسامح والمساواة لأن الخطاب الثقافي الإيجابي يُرسّخ قبول الآخر ورفض التمييز، سواء على أساس الدين أو العرق أو النوع، كذلك هو يسهم في تفكيك الصور النمطية فالأدب والفن والإعلام قادرون على تفكيك الصور النمطية التي تكرّس التمييز ضد النساء، والأقليات، وذوي الإعاقة، ليس هذا فقط انما يدعو لخلق وعي جماهيري عبر روايات وسينما ومسلسلات تُظهر قضايا حقوق الإنسان بشكل إنساني معتدل، قابل للتعاطف والتفكير، واخيرًا يُمكن من نقد السلطة والتقاليد الظالمة حيث يمكن للخطاب الثقافي أن يكون صوتاً ناقداً للتقاليد المجحفة أو السياسات القمعية، ويحفّز على الإصلاح.

ولكن ما سبق رهينة ما هو آت من المعوّقات التي تواجه الخطاب الثقافي والتي لا تعدو عن الهيمنة السياسية في استخدام الخطاب الثقافي الرسمي لتبرير الانتهاكات وتوجيه الرأي العام بعيداً عن المطالبة بالحقوق، وكذلك في الرقابة والقيود المفروضة عبر تقييد الإبداع الثقافي والفني، وحظر بعض المواضيع المرتبطة بالحرية أو المساواة، وللأسف من المعوّقات هو التأويلات المتشددة للنصوص الدينية التي قد تُستخدم لتبرير التمييز أو العنف، بدلاً من الدعوة إلى الكرامة والعدالة، وأخيرًا فالجهل وضعف الوعي مع غياب التثقيف القانوني والثقافي يجعل الجمهور عاجزاً عن التفاعل النقدي مع الخطابات السائدة.

ولأجل تفعيل سبل الخطاب الثقافي في خدمة حقوق الإنسان والقانون في المجتمع فيجب هنا تحفيز الإبداع الثقافي الحر عبر دعم الإنتاج الأدبي والفني الذي يُعالج قضايا حقوق الإنسان، كذلك مراجعة المناهج التعليمية لترسيخ مفاهيم العدالة والكرامة والمساواة، ودعم الإعلام المستقل والمسؤول الذي يسلط الضوء على الانتهاكات ويدافع عن الحقوق دون تحيّز، وبالتأكيد تمكين المؤسسات الثقافية والمدنية كالجمعيات والمراكز الثقافية في تنفيذ برامج توعية مجتمعية.

ختاما- إن الخطاب الثقافي ليس مجرد انعكاس للمجتمع، بل أداة قادرة على إعادة تشكيله وتحفيز وعيه الحقوقي، وكلما كانت الثقافة حرة، متنوعة، ومنفتحة، كلما ساهمت في ترسيخ حقوق الإنسان كممارسة يومية وليست فقط كنصوص قانونية، ولذا، فإن بناء ثقافة حقوقية يبدأ من الاستثمار في الخطاب الثقافي بكل أشكاله، بما يجعله حاملاً لقيم الكرامة، المساواة، والعدالة.

* الدكتورة جمانة جاسم الأسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية في جامعة كربلاء

اضف تعليق