من أهم وظائف الدولة الوظيفة الاجتماعية بوصفها الحامي لأفراد المجتمع والموجه للقوى المؤثرة فيه، تحقيقاً للغاية الأسمى بالوصول إلى دولة للرفاه الاجتماعي والاقتصادي، وان الفهم الدقيق لوظائف الدولة غير السياسية لاسيما الاجتماعية، منها ينصرف وبحسب التعبيرات السائدة اليوم في الأدبيات المتداولة بتحقيق التنمية أو النماء أو الازدهار، وكلها...

الدولة لما تأسست منذ آلاف السنين كانت مرتبطة في بادئ الأمر بالحاكم وتكرس كل إمكانياتها لملذاته وأهوائه، لذا زالت الكثير من الحضارات والدول التي استمرت لقرون لأنها لم تتمكن من الخروج عن المعنى الشخصي للدولة، أو أن تنتقل إلى المعنى الموضوعي المتمثل بوظائف محددة لها بموجب الدستور والقانون، وان يكون الحاكم مجرد موظف ملزم بالقيام بواجباته لغرض الوصول إلى دولة المواطن والمواطنة.

 ومن أهم وظائف الدولة الوظيفة الاجتماعية بوصفها الحامي لأفراد المجتمع والموجه للقوى المؤثرة فيه، تحقيقاً للغاية الأسمى بالوصول إلى دولة للرفاه الاجتماعي والاقتصادي، وان الفهم الدقيق لوظائف الدولة غير السياسية لاسيما الاجتماعية، منها ينصرف وبحسب التعبيرات السائدة اليوم في الأدبيات المتداولة بتحقيق التنمية أو النماء أو الازدهار، وكلها كلمات تشير إلى التحرك المنظم الواعي نحو صنع حياة أفضل للناس جميعاً على المستوى المادي أو المعنوي.

 يقول تعالى في محكم كتابه المجيد ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ))، وأشار الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام في عهده لمالك الأشتر رضي الله عنه ((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَـهُمْ، وَالْـمَسَاكِين وَالْـمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فَإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَمُعْتَرّاً، وَاحْفَظْ لِـلّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَـهُمْ قِسْمَاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسْمَاً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ، فَلاَ يَشْغَلنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ، فَإِنَّكَ لا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهِ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْـمُهِمَّ. فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَـهُمْ، وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ، وَتَحْقِرُهُ الرِّجَالُ، فَفَرِّغْ لِأُولئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْـخَشْيَةِ وَالتَّوَاضُعِ، فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ، ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِم بِالإِعْذَارِ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ تَلْقَاهُ، فَإِنَّ هؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ)).

والنص المتقدم يشير إلى معنى عميق يتصل بالوظيفة الحقيقية للحاكم المسلم في رعاية الناس والنظر بشؤونهم لاسيما الفئات الأكثر ضعفاً، ونستفيد من النص أيضاً أهمية تدخل الدولة في الشأن العام سواء (السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، أو الثقافي) لتحقيق الحياة الحرة الكريمة للناس، ولعل الإمام علي عليه السلام لا يشير إلى معنى التكافل ومد يد العون للضعفاء بل يلزم الحاكم بضرورة جعلهم أقوياء بالتمكين من سبل العيش والأخذ بيدهم ورعاية شؤونهم وتعيين من يتولى ذلك من موظفين من ذوي التقوى، حيث ينظر الإمام علي عليه السلام إلى كل فرد بأنه مصدر قوة ومنعة للأسرة والمجتمع والدولة بعكس الفلسفات الغربية ومنها على سبيل المثال الليبرالية التي تنظر للفرد الجديد في المجتمع على أنه عبء ثقيل يتطلب مؤونة فتلقي به في لهوات العمل والاستنزاف بغض النظر عن أحواله أو ظروفه الخاصة.

ولمساعدة الدولة في النهوض بوظيفتها الاجتماعية شرعت الكثير من النصوص التي تسهم في زيادة إيراداتها العامة كالزكاة والخمس وغيرهما في الإسلام والضرائب والرسوم في القوانين الحديثة، وكذلك جرى منع الكثير من الممارسات التي من شأنها ان تسهم في سوء الحال للفرد أو المجتمع ففي الإسلام حرم الربا كونه كسب بلا عمل ومنع الإثراء بلا سبب في القوانين الحديثة، وانطلقت بعض النصوص الدستورية والقانونية تلزم الدولة بتحقيق التكافل الاجتماعي وأقرت بعض التشريعات مزايا لدعم العمل التطوعي إذ يسهم ما تقدم في تخفيف القيود والالتزامات على المنظمات ذات النفع العام.

 ومن المضامين المهمة لبلوغ حالة الاستخدام الأمثل للموارد المتاحة ينبغي توظيف الموارد البشرية بشكل جيد لضمان وصول ذوي الاختصاص والكفاءة إلى الوظائف العامة لتمكينهم من تقديم الخدمات على نحو من العدالة والمساواة بين جميع الأفراد بلا أي تمييز ولأي سبب كان.

 وكذا ينبغي التركيز على تنمية العنصر البشري في المجتمع وفق الآتي:

1- العناية بالحالة الذهنية للفرد والمجتمع وتنمية العقول وتخليصها من كل الأفكار السلبية التي تحرفها عن مسارها في اتجاه تحقيق الغاية المثلى في بناء المجتمع، ولعل ما تقدم تضطلع به الدولة مع المؤسسات المتخصصة كالمؤسسة الدينية، بيد ان الوزارات المعنية بالدجة الأساس هي وزارة التربية والتعليم العالي والبحث العلمي ووزارة الصحة ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية، حيث ينبغي لها إعداد استراتيجية لمواجهة الأفكار الضالة والظواهر التي من شأنها ان تضييع الفرد كالمخدرات والتدخين، بيد ان ظاهر الأمر عدم وجود تنسيق أو رؤية واضحة للمؤسسات المذكورة لانتشال المجتمع من هذه الآفات الخطيرة.

2- تحديد الأولويات الاجتماعية وتقديم الأهم فالأهم فالدولة بمسيرتها اليومية تمر في الكثير من الأحيان بمشاكل أو عقبات لذا ينبغي تضافر الجهود وتوجيهها نحو الأولويات الضرورية في حماية الفرد والمجتمع ويشار إلى ان المشرع الدستوري بين ذلك في المادة (30/ ثانياً) بالنص على أن ((تكفل الدولة الضمان الاجتماعي و الصحي للعراقيين في حال الشيخوخة أو المرض أو العجز عن العمل أو التشرد أو اليتم أو البطالة، وتعمل على وقايتهم من الجهل والخوف والفاقة، وتوفر لهم السكن والمناهج الخاصة لتأهيلهم والعناية بهم، وينظم ذلك بقانون)).

3- الحرص على تحقيق عدالة التوزيع في الدخول لضمان الحياة الحرة الكريمة لجميع الفئات، وفي هذه النقطة بالتحديد يبرز دور هيئة الحماية الاجتماعية المؤسسة بالقانون رقم (11) لسنة 2014 التي ألزمتها المادة التاسعة من القانون بأن تتولى (تدريب القادرين على العمل في الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة لغرض إكسابهم الخبرة والمهارة وترسيخ ثقافة العمل، دراسة أوضاع أفراد الأسرة وتشخيص القادرين على العمل ولو جزئياً وزجهم في العمل لزيادة موارد الأسرة وتوظيف قدراتهم في بناء المجتمع وإدماجهم في سوق العمل)، والنص المتقدم في صياغته جميل إلا ان تطبيقه على أرض الواقع مشوه إلى حد كبير جداً فوزارة العمل والداخلية والأمن الوطني وغيرهم من الجهات القطاعية يغضون البصر عن شركات وأفراد باتت تستقدم الملايين من العمال الأجانب ممن حلوا محل العمال العراقيين في القطاعين العام والخاص على حد سواء ما يمثل خطراً اجتماعياً محدقاً فضلا عن مخاطره الأمنية والاقتصادية الفادحة.

4- الاستمرارية في الأنشطة اليومية المقصودة في تحقيق التغيير الاجتماعي الإيجابي كتوفير التعليم والخدمات الصحية على نحو من الكفاءة والوفرة لوصول المجتمع إلى أهدافه في الرفاه والعيش الكريم حيث يشير المشرع الدستوري العراقي في المادة (30) إلى أنه ((تكفل الدولة للفرد والأسرة وبخاصة الطفل والمرأة الضمان الصحي والاجتماعي والمقومات الأساسية للعيش في حياة حرة كريمة)).

5- الشمولية في الخدمات العامة: فالمساواة بين الأفراد وعدم التمييز لأي سبب كان وتنويع قاعدة الحماية الاجتماعية تجعل من تحقيق أهداف الدولة الاجتماعية أقرب والى ذلك أشار الدستور العراقي للعام 2005 بالمادة الرابعة عشر ((العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي)) وقريب من هذا ما أشارت إليه المادة (16) من قانون رعاية ذوي الإعاقة رقم (38) لسنة 2013 والتي ألزمت بالآتي: ((تخصص الوزارات والجهات غير المرتبطة بوزارة بما فيها الشركات العامة والمتعاقدين معها وظائف لذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة بما في ذلك العقود والإجراء اليوميين نسب لا تقل عن 5%، ويلتزم صاحب العمل في القطاعين المختلط والخاص باستخدام عامل واحد من ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة...).

6- أولوية الدولة في المجال الاجتماعي في التعامل مع من يرتكب جريمة معينة هي إصلاح الفرد وليس العقوبة، فالعقوبة سواءً أكانت جزائية أم مدنية أم انضباطية الفلسفة من وراءها تحقيق حالة من العدالة والتوازن بين المصالح سواءً منها العامة أو الخاصة، الحالة أو المستقبلية، لذا يفترض بالعقوبات التي تفرض على الفرد ان تكون غائية تستهدف إصلاح الفرد ورده إلى المجتمع فرداً صالحاً والى هذا أشار الدستور العراقي للعام 2005 بالمادة التاسعة عشر بالقول أنه ((لا يجوز الحبس أو التوقيف في غير الأماكن المخصصة لذلك وفقا لقوانين السجون المشمولة بالرعاية الصحية والاجتماعية والخاضعة لسلطات الدولة))، لذا ينبغي ان تأخذ السلطات المختصة بوزارتي العدل والعمل والشؤون الاجتماعية بنظر الاعتبار أهمية إعداد برامج تأهيلية وإصلاحية لإعادة الفرد إلى المجتمع مؤهلا للعيش المشترك وقادراً على استرداد كرامته الإنسانية والبدء بحياة جديدة إذ تنص المادة (3) من قانون إصلاح النزلاء والمودعين رقم (14) لسنة 2018 على ان من أهداف القانون (تقويم النزلاء والمودعين الذين تصدر بحقهم أحكام بعقوبات أو تدابير سالبة للحرية وذلك بفحصهم وتصنيفهم وتأهيلهم سلوكياً ومهنياً وتربوياً).

7- أهمية مبادئ الحكم الديمقراطي وسيادة تطبيقاتها فمن شأنها ان تعزز المواطنة الإيجابية وتحقق الانسجام والقبول لقرارات السلطات العامة في المجالات كافة ومنها الاجتماعية لاسيما في الأزمات والظروف الاستثنائية حين تضطر الدولة إلى اتخاذ قرارات خطيرة وكبيرة ولها تبعات معينة، فالنهج الديمقراطي أيضاً من شأنه ان يفتح الباب واسعاً أمام الحوار الاجتماعي لمواجهة المعضلات الوطنية والمواقف إزاء نظيرتها الإقليمية أو الدولية.

8- التأسيس للقواعد الاقتصادية في الدولة على أسس العدالة الاجتماعية بوصفها المقوم الأوحد القادر على تحقيق التغيير الإيجابي فالحق بالعمل على سبيل المثال بوصفه واحدً من أهم الحقوق الاقتصادية ان لم يؤسس على العدالة الاجتماعية سيكون منحازاً وبعيداً عن الموضوعية ولذا تنص المادة الثانية والعشرين من الدستور العراقي إلى أنه ((ينظم القانون، العلاقة بين العمال وأصحاب العمل على أسس اقتصادية، مع مراعاة قواعد العدالة الاجتماعية))، وتشير المادة (2) من قانون التقاعد والضمان الاجتماعي للعمال رقم (18) لسنة 2023 إلى أن القانون يهدف بالدرجة الأساس إلى:

((أ- تحقيق العيش الكريم للمشمولين بأحكامه.

ب- تعزيز قيم التكافل الاجتماعي والوصول إلى معادلة منصفة تضمن عدالة توزيع الدخل بين أفراد الجيل الواحد والأجيال المتعاقبة 

ج- ضمان وصول مضلة الضمان إلى فئات أكثر.

د- توفير استقرار نفسي ومادي للعاملين والمتقاعدين وخلفهم....).

وتتمة لدور الدولة في المجال الاجتماعي لابد ان تنهض الدولة بتقديم الخدمات المجانية أو المدعومة للفئات الأقل دخلاً والأكثر تأثراً بالمشكلات الاقتصادية أو الاجتماعية ومنهم ذوي الاحتياجات الخاصة، النساء ممن تعد أرملة، أو مطلقة، أو مهجورة، أو زوجها مفقود، أو البنت البالغة غير المتزوجة، و كذلك اليتيم، أو الطالب المتزوج، وغيرهم كثير ممن ضمن لهم قانون الحماية الاجتماعية العراقي رقم (11) لسنة 2014 ضماناً يتمثل بإعانات على شكل رواتب ومنح ومساعدات أخرى إذ تشير المادة (7) إلى أن دائرة الحماية تلتزم بـ(منح الفئات المحددة مبلغ إعانة نقدية إذا لم يكن لهم دخل فإن كان لهم دخل ثابت فيمنحون الفرق بين دخلهم ومستوى الدخل الوارد بالقانون) كما أضافت المادة (9) ان من أخص واجبات هيئة الحماية الاجتماعية (ان تتولى بالتنسيق مع الوزارات والجهات ذات العلاقة تقديم الخدمات الاجتماعية إلى الفرد والأسرة المشمولة بأحكام القانون:

أولا: المساعدة في الدخول إلى سوق العمل من خلال:

أ‌- التدريب والتعليم المهني وبناء القدرات.

ب‌- المساعدة في الحصول على فرص العمل أو على قرض أو منحة لإقامة المشاريع الصغيرة المدرة للدخل.

ثانياً: في مجال التعليم والصحة والسكن.

ثالثاً تقديم برامج توعوية في بناء الأسرة والسلوك الاجتماعي.

رابعا: في مجال رعاية الطفولة والصغار والأحداث وتهيئة الأجواء البيئية السليمة لهم.....)

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق