إصلاح التعليم حيث يجب التحول من التعليم القائم على التلقين إلى التعليم القائم على التساؤل والتحليل، مع تعزيز مهارات التفكير النقدي في مختلف المراحل الدراسية، والعمل على إعلام تنويري على وسائل الإعلام أن تتحمل مسؤولياتها التثقيفية، وتعيد الاعتبار للبرامج الفكرية والعلمية، وأن توازن بين الترفيه والمعرفة...

تُعد ظاهرة تسطيح العقول من التحديات الثقافية والفكرية التي تعاني منها العديد من المجتمعات المعاصرة، ولا سيما في البيئة العربية، ويقصد بتسطيح العقول عملية تفريغ الوعي من مضامينه النقدية والتحليلية، وتعويد الأفراد على استهلاك المعرفة السطحية والسريعة دون تدبّر أو فحص، هذه الظاهرة لا تنشأ فجأة، بل هي نتاج تراكمات اجتماعية، وسياسية، وتعليمية، وإعلامية تؤثر بشكل مباشر في بنية الوعي الجمعي، وتسطيح العقول هو تقليص قدرات الأفراد على التفكير النقدي والتحليلي، وتحويلهم إلى متلقين سلبيين للمعلومة دون مساءلتها أو التأمل فيها، إنه تغريب للفكر عن عمقه، وتحويل الإنسان إلى مستهلك للمعرفة السهلة، بدلاً من أن يكون منتجًا لها أو ناقدًا لها.

تذهب أسباب تسطيح العقول في البيئة العربية إلى عدة أمور منها النظام التعليمي التقليدي في الجامعات والمعاهد حيث تعاني أغلب الأنظمة التعليمية العربية من الجمود والتلقين، ويتم التركيز على الحفظ والاستظهار بدلًا من التفكير النقدي والابتكار، وهذا يكرّس لدى المتعلمين عقلية الانقياد والتبعية، ويضعف من قدراتهم التحليلية.

كذلك الإعلام الاستهلاكي حيث تسهم وسائل الإعلام، لا سيما المرئية منها، في نشر محتوى سطحي وموجه يخاطب العاطفة أكثر من العقل، ويركز على الترفيه والمشاهد السريعة بدلاً من النقاش المعرفي العميق، هذا النمط الإعلامي يُخدّر الوعي ويمنع نضوج الفكر، بالإضافة إلى الخطاب الديني والسياسي الموجه فغالبًا ما يُوظف الخطاب الديني أو السياسي في بعض الدول لخدمة مصالح معينة، ويعتمد على التلقين وتغييب النقد، مما يُعزز ثقافة الطاعة العمياء ويُقلّص من مساحة التفكير الحر، ومن الاسباب ضعف الثقافة العامة في العديد من المجتمعات العربية، لا يُنظر إلى الثقافة والمعرفة على أنها ضرورة حياتية، بل هي في أحسن الأحوال ترف نخبوي، ويُعاني الكثير من الشباب من غياب الحافز للقراءة أو متابعة النقاشات الفكرية العميقة.

يمكن القول أنّ تداعيات تسطيح العقول تعود إلى جمود المجتمعات وتخلفها عن ركب التقدم العلمي والفكري، وانتشار الخرافات ونظريات المؤامرة والشائعات، وانخفاض الوعي السياسي والاجتماعي، وسهولة التلاعب بالرأي العام، كذلك ضعف روح المبادرة والابتكار والإبداع.

والحلول والمقترحات كثيرة في هذا السياق وهي في مجملها تنطلق من إصلاح التعليم حيث يجب التحول من التعليم القائم على التلقين إلى التعليم القائم على التساؤل والتحليل، مع تعزيز مهارات التفكير النقدي في مختلف المراحل الدراسية، والعمل على إعلام تنويري على وسائل الإعلام أن تتحمل مسؤولياتها التثقيفية، وتعيد الاعتبار للبرامج الفكرية والعلمية، وأن توازن بين الترفيه والمعرفة، بالإضافة إلى دعم الحريات الفكرية فلا يمكن تنمية العقول في بيئة تقمع حرية التعبير أو تجرّم التفكير المختلف. ينبغي توفير بيئة حاضنة للرأي الآخر وتشجيع الحوار المفتوح، كذلك في تعزيز دور المثقف فعلى النخب المثقفة أن تخرج من أبراجها العاجية وتشارك بفعالية في تنوير المجتمع، من خلال الكتابات العامة، والمنصات الرقمية، واللقاءات التفاعلية.

ختامًا- تسطيح العقول في البيئة العربية ليس قدَرًا حتميًا، بل هو ظاهرة يمكن مواجهتها إذا توفرت الإرادة السياسية والثقافية، وسعت المؤسسات التربوية والإعلامية والدينية إلى إحداث تغيير حقيقي في بنية الوعي الجمعي. فتحرير العقل هو الخطوة الأولى نحو بناء مجتمع ناهض، قادر على الإبداع والمشاركة الفاعلة في الحضارة الإنسانية.

الدكتورة جمانة جاسم الأسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية في جامعة كربلاء

اضف تعليق