الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي

 * شاكر سعيد

الشيرازي بحر متلاطم الامواج ليس من السهولة سبر اغواره لما عرف عنه سعة العلم وشفافية الاسلوب ووقوفه على علوم انسانية مختلفة وكثرة مؤلفاته التي ناهزت 1200 كتاب حتى لقب بنابغة الدهر وسلطان المؤلفين. وهذا البحث باوراقه المعدودة ليقصر عن الاحاطة بفكرة شمولية راودت الشيرازي وسخر الكثير من وقته لاجلها ودبجها بيراعه الشريف، الا وهي التنوير، والتي آثرنا ان نعطيها سمة (المفهومية) اشارة إلى مضامين الفكرة في كلماته رضوان الله عليه.

اسلمة الثقافة وثقافة الاسلام

كان طموح الشيرازي (قدس سره) وشاغله الاساس هو اجراء عملية قلع لجذور الجهل بكافة اشكاله ونزع الاقنعة الثقافية الفاسدة التي غطت المجتمع الاسلامي، ماانعكس على مكونات ذلك المجتمع بافراده وجماعاته وقيمه واعرافه. لذا ومن منطلق المرجعية المسؤولة دأب سماحته على ترويج المفاهيم الاسلامية عن طريق التعبئة الثقافية الشاملة للجماهير باجراء عملية توعية مكثفة تعتمد برامج مخطط لها وصولا إلى الاممية الثقافية الاسلامية.فمما لاحظه من احداث ووقائع المجتمعات الاسلامية ابتعادها عن روح الاسلام الحقيقي وتمسكها الفخري بهوية اسلامية (الاسلام العبادي أو اسلام العبادات) المنحصرة في الصوم والصلاة... (فاغلب المتدينين اليوم يكتفون بالصلاة والصيام ولايعلمون عن سائر الشؤون الاسلامية الا نزرا يسيرا.وبذلك انحسر المد الاسلامي الاصلاحي عن النفوس، كما انحسر المد الاسلامي القانوني عن المشاكل والقضايا. والعاقبة مشاكل الدنيا وخسران الاخرة (كلمة 291)) وانحسار المد الاصلاحي يعني ان القيم التي نزل بها القران وشرعت السنة النبوية إلى تطبيقاتها لم تصل إلى نفوس المسلمين لاسباب تتعلق بالطرف المتلقي (اي المسلم) وكونه ماخوذا بعالم الدنيا مع تشبثه بخيوط (العبادة) نحو الاخرة. ومنها مايتعلق بقادة الفكر وحملة الثقافة الذين يطمحون نحو الشهرة أو الاضوائية كما يسميها ببراعة السيد الفقيد.

وقصور قادة الفكر في هذا المنحى اصبح يتلون بالوان عديدة منها: نقد القيم الاسلامية وفق مقتضيات ومفاهيم الثقافة الغربية أو الفكر المعلب كما يرتاي تسميته. والنقد وان كان مطلوبا بحد ذاته ولكن ليس على حساب وضع الشكوك وثقافة الارتياب في ذهنية المسلم. وانما النقد يطلب لتطوير منهجية صالحة في الوصول إلى تقريب المفاهيم الاسلامية بنقائها وتشذيبها من مواطن الفساد وادغال الاسرائيليات والاخباريات الكاذبة.. لذا (يلزم ان تعود إلى الحياة الاقتباسات الاسلامية والتي تركت مكانها فارغا للصمت أو لدخول المصطلحات الدخيلة والكلمات الفارغة (كلمة 323)) ومنها واهمها قصور حملة الفكر الاسلامي عن الترويج للثقافة الاسلامية.فهناك من يلتزم بثقافته الاسلامية خطا واحدا مهملا أو متناسيا بقية الخطوط. كالاهتمام والتبحر في علوم الفقه والاصول والحديث وتناسي حاجة المسلم إلى ربط تلك العلوم بما يخدم العملية الاصلاحية. فـ (يجب علينا ان نتعامل مع متطلبات العصر بحسب التقدم والتطور.. والذي لايدرك ذلك يكون قد شارك في صب المصائب على المسلمين (كلمة 240)) كما اكد سماحته بضرورة (ربط الاستاذ والطلاب بالعالم المعاصر والاحداث الجارية على الساحة الاسلامية والعالمية ليكون طلبة العلوم الدينية ورجال الدين على بصيرة فيما يحتاجون اليه من الارشاد والهداية والتوجيه (كلمة 481)) فضلا عن ان العلوم الفقهية والاصولية قد دأب المسلمون على عدم فهمها بسبب اسلوبها المعقد ومصطلحاتها الصعبة. فكان الشيرازي يدعو إلى تبسيط الثقافة الاسلامية كي يتمكن المسلم من الاخذ بها ويغرف من اعماقها بدلا من وقوفه على الشاطئ.ذلك الوقوف الذي سبب الحيرة والجهل وصولا إلى الارتياب ومن ثم العبودية للسلطات الجائرة.لنتمعن في قوله (ينبغي ان تعلق في المساجد والحسينيات وامثالها نشرات تكتب فيها مختلف المقالات الاسلامية في اسلوب جذاب يقراها من يرتاد هذه الاماكن (كلمة 230)) بل وصل (قدس) إلى حد الدعوة إلى استعمال الاساليب الروائية بسبب جاذبيتها ونفوذها إلى النفوس لغرض ادخال المفاهيم الاسلامية (كلمة 214) واعتاد الشيرازي بنفسه على هذا الاسلوب في سائر كتبه معترفا انه اختار الاسلوب البسيط ليجعل من الكتاب (كالتكلم) في التفاهم والسلاسة حتى ينفذ إلى الاعماق (النبأ ص 171). وبناء على الفهم الاسلامي للانماط الذهنية البشرية (مخاطبة الناس على قدر عقولهم) فقد ركز الشيرازي على فهم المثقف والعالم لمجتمعه من الناحية العقلية. فـ(على العالم ان يمرن نفسه على اسلوب الكلام وصب المعاني في القوالب المناسبة. فكما ان اجسام الناس مختلفة، يجب ان نعلم ان اقدار اذهانهم واذواق افكارهم ايضا مختلفة (كلمة 459)) فيستطيع المثقف، المبلغ، الداعية ان يقترب من اذهان الجميع باساليب خطابية مختلفة.وان يكون الخطاب الثقافي هدفيا موجها.

وانصب اهتمام الشيرازي على تهيئة قادة الفكر بالشكل الذي يجمع بين روح الاسلام ومتطلبات العصر كي تفهم فئات القاعدة من المجتمع الاسلامي ان الاسلام يجاري التطور بكافة الوانه بما يجلب المنفعة ويدفع المفسدة وفق الاصول والمسائل الفقهية المالوفة.

فقد حرص سماحة الفقيد على الحاجة إلى المثقف والعالم (العامل): (المسلمون ناموا ثم جمدوا، وحيث ان الاسلام مبدا حي، فلا بد له من يقظة جديدة، وهذه تحتاج إلى طائفة من المفكرين يحيون الاسلام من جديد وذلك بكسر طوق الجمود. ولايكون ذلك الا بالتكتل والعمل الجاد والتضحية (كلمة 322)) وان (من اسباب قوة المسلمين قوة الكتاب والعلماء عندهم (نبا 182)) فالمسلم القوي خير من المسلم الضعيف كما هو ماثور في الحديث الشريف. والقوة هنا لاتنحصر في الجسد فقط وانما تاخذ امتدادها نحو ضبط النفس (ليس القوي قوي الصرعة انما القوي من ملك نفسه عند الغضب -الحديث-) والثقافة والمران الذهني.فعن الامام الصادق (ع) انه رغب في سوط يضرب به من لايتفقه في امور الدين والدنيا كي لايصدم بالحرام.

ويفهم الشيرازي ان العراقيين استطاعوا ان ينتصروا على اعظم امبراطورية في العالم في ثورة العشرين بسبب قوة ثقافتهم النابعة من ثقافة الدين والفضيلة والقران والسنة واتباع القيادة المرجعية رغم انهم لم يكونوا يملكون العدة الكافية والاسلحة المتطورة (السبيل 22). ويضرب الشيرازي مثلا على قوة المثقف المطلوبة له كي يكون قدوة ومنارا لجمهور القاعدة الاجتماعية ما حدث في موقف لجده الميرزا الشيرازي في كربلاء والذي رفض زيارة الحاكم العسكري البريطاني كوكس له كونه يمثل الجهة المستعمرة المناوئة للاسلام. فاضطر كوكس إلى زيارته بدون اعلام سابق وتكلم مع الميرزا ولم يحصل على اي جواب منه. فشعر كوكس بالخجل والغضب وخرج من دار الميرزا دون ان يحظى بالاحترام الكافي (السبيل 23).

المثقف العامل والمجتمع

ولكونه مطلعا بكفاية على الابحاث الاجتماعية فقد اراد من المثقف والعالم الديني ان يكون كالباحث الاجتماعي في فهمه لواقع المجتمع الذي يعيش فيه. وهي الطريقة الامثل للاحساس بمشاكل والام الناس. (ان غربة عالم الشريعة عن المجتمع اوجبت انفصال عالم الشريعة عن الناس انفصالا كاملا...فالنبي (ص) والائمة (ع) كانوا افرادا من المجتمع في كل امورهم. ولذا تمكنوا من قيادتهم (كلمة 447)) وسوسيولوجيا تسمى هذه الطريقة في مناهج البحث بـ (الملاحظة بالمشاركة).وتتطلب من المثقف والعالم النزول من عليائه وذخيرته النظرية ليلاحظ عن قرب مواطن القوة والضعف والمشاكل والمصاعب في المجتمع فيتمكن من تشخيصها ومعالجتها. اذ (يحتاج العالم إلى اكبر قدر من حسن المعاشرة، فانه يعاشر مختلف الفئات والاتجاهات والميول والرغبات (كلمة 458))ويطرح المثقف بمفهوم الشيرازي عمله نحو المجتمع لتعميم الفائدة وسهولة نفاذ المفاهيم الاسلامية ولايكون ذلك الا بانسلاخه من الذاتية والاضوائية (اعلى درجات العقل ان يغلب الانسان هواه وينتصر في داخله العقل الجمعي. وذلك بان يفكر من منظار المجموع وضمن مصالح الجماعة وليس من منظار الذات ومصالحه الشخصية (كلمة 195)).

واخذ المثقف العامل حيزا من اهتمام الفقيد فاشار إلى خلوص النية وهدفية العمل وتهذيب السلوك. فان (اول ما يهتم به المبلغ هو تقديم سلوكه الشخصي، وان يبدا بنفسه يراقبها ويحاسبها ويرى نفسه هل هو فعلا يجسد شخصية الانسان المؤمن العامل ام لا (كلمة290)). و (ينبغي للشخص الذي يتبنى مهمة التبليغ وارشاد الناس ان يبدا بنفسه ويطهرها من الرذائل إلى الحد الذي يكون معه مجسدا لكلمة انسان. حتى تكون شخصيته وسلوكه مصداقا لما يقوله ويامر به الاخرين. عندها يكون عمله خالصا لوجه الله تعالى ويكون تاثيره على المتلقي تاثيرا مباشرا و فاعلا (كلمة 284)).

المجتمع والثقافة

كما ادرك الشيرازي موقف المثقفين (الطرف المرسل للثقافة) ادرك ايضا موقف المجتمع الاسلامي (الطرف المتلقي) والواقع الذي يعيش فيه، ماجعله– اي الطرف المتلقي– مشاركا في تقدم أو تخلف عمل التنوير واستمرارية المد الثقافي. ويراعي الشيرازي منطق الواقع الاجتماعي في فهمه لهذا الطرف الضعيف عادة. فهناك اسباب ونتائج وحلول، وعالج المشكلة الثقافية من الزاوية التي ارغب بتسميتها بـ (المشكلة ومحيط المشكلة). فالمشكلة الثقافية تحيطها ظروف متنوعة تتشارك فيما بينها للضغط على ذهنية الفرد.

فمن الظروف الداخلية: الجهل والاستبداد السياسي والفقر وقلة أو انعدام الوعي بالحياة وضعف العلاقة بالكتاب. اما الظروف الخارجية فهي الهيمنة الثقافية الغربية والعولمة..

لقد راى الشيرازي ان من اهم عوامل الفقر هو الاستبداد السياسي الذي يكبح الطاقات ويعطل العقل المبدع، المخطط، المخترع، ويشل حركة المجتمع والافراد كما يقوم المستبد بتقريب المتطفلين والامعات وابعاد ذوي العقليات الكفوءة (كلمة 199- 198) مما ينتج افقارا للثقافة وقيم العلم وهجرة الادمغة. لذا يدعو الشيرازي المثقفين إلى هجرة (بلاد الخنق) ابتعادا عن التورط في مشاركة المستبدين بطغيانهم. وفضل لهم العيش في (بلاد الحرية) واستثمار تلك الحرية في نصرة الاسلام (كلمة 414- 417).

هذا من جانب الحكومات، اما من جانب الفرد والمجتمع فان الجهل وعدم الوعي (من اهم اسباب تولد الطاغوت (كلمة 208)) والعبودية له. لذا انصب اهتمام الشيرازي على مسائل فهم الحياة والوعي بها. فـ (الفهم ميزان العمل (كلمة 200)) و (الوعي على انواع: وعي بالعقيدة ووعي بالمعاملة...والى جوار ذلك كله: الوعي بامور الحياة وفهم الحياة (كلمة 231)). والوعي بالحياة هي تجربة ثقافية ذاتية رغب الشيرازي في استدعائها من قبل المسلمين بعد السبات الطويل الذي مهد للغرب ان يستعمر بلادهم مما جعلهم شركاء في هذا البلاء. (نحن لانضع اللوم كله على اعداء الاسلام من الغرب والشرق. بل يجب ان نضع بعضه على انفسنا نحن فنوبخها لاننا بانفسنا وبايدينا عبدنا الطريق للمستعمرين لغزو بلادنا الاسلامية بتركنا العمل باوامر الله تعالى، فسلبوا واغتصبوا ماتزخر به بلادنا من ثروات، بل انهم تمكنوا ان يجردوا الانسان المسلم من شخصيته الاسلامية. وقد تم لهم ذلك عن طريق محو الشخصية الاسلامية وطمس وتشويه الثقافة الاسلامية الصحيحة (كلمة174)).

صورة الغرب

والامام الشيرازي كواحة ثقافية تكمنت ذهنيته من استيعاب مفهوم الغرب من عدة اعتبارات:

1- اعتباره كـ آخر. وهذا المفهوم انسل الينا من تجارب النهضة العربية في القرن التاسع عشر.

2- ان هذا الغرب – الاخر متقدم على العالم الاسلامي لا لاسباب كامنة فيه وانما لعلتين: الاول تمكنه من استغلال طاقته لمنفعته والتي كان من اهمها التفريغ الثقافي. والعلة الثانية هي التقهقر الذي اصاب ولايزال المجتمعات الاسلامية ثم في محورها - الانا - المسلمة.

3- ان هذا الاخر اصبح مستبدا بسبب تقدمه اخذ يتحكم بتفاصيل الحياة الاسلامية عن قرب وعن بعد بسياسات ذكية جدا. واستغل خنوع وجهل العالم الاسلامي بذلك.

4- ان المسلمين قادرين على كبح الاستبداد الغربي باستعادة الهوية والانا الاسلامية.

 وقد حشد امامنا جزءا كبيرا من حياته ومؤلفاته لهذا الغرض. ومن دواعي افكار الامام في النهضة الثقافية للمسلمين امرين اثارا اهتمامه واخذا جل وقته هما: الاستبداد الثقافي للغرب – الاخر، الانحطاط الثقافي للانا الاسلامية.فالكثيرين حسب رايه يحملون الهوية الاسلامية ويقيمون الطقوس العبادية لاجل التقرب إلى الله لكن ليس هناك وعي بحقيقة المشكلة أو المشاكل التي تعصف بالعالم الاسلامي والاخطار المحدقة به. ولذا فهو يشدد النكير على النخب الثقافية التي لم تؤدي الدور المطلوب في توعية القاعدة العريضة من المجتمع والتي اعتاد ان يسميها (الجماهير) والتي وضعها كحجر اساس لعملية التغيير الجذري. فمن مقارناته المعهودة في كتاب (كيف السبيل إلى انهاض المسلمين) يذكر بان المجتمعات غير الاسلامية لها اهتمام منقطع النظير بالمكتبات التي يصل تعداد كتب احداها إلى ملايين بينما نجد المكتبات في مدن الاسلام لاتصل محتوياتها إلى 100 الف كتاب (السبيل 12-13). ومن هنا ندرك ضخامة العدد في مؤلفاته حتى قيل عنه سلطان المؤلفين.

التخطيط للثقافة 

التخطيط بشكل عام ومختزل هو الحصر الكمي للموارد البشرية والطبيعية ودراسة حاجة المجتمع منها في المستقبل اعتمادا على التنبؤ المستقبلي لاعداد السكان والنقوصات الحاصلة في الموارد بشكلها الاني. الشيرازي لفت انتباه (القادة) إلى ان حاجة المجتمع لاتقتصر فقط على كفايته من الموارد الطبيعية والعمل بل ان الموارد الذهنية وتوسيع المدارك تقترن بما سبق في عملية تخطيط شاملة. فيلزم على القادة الاسلاميين (ان تكون لهم رؤية كاملة للمستقبل. فان المستقبل له موازين خاصة...فاذا عرف الانسان المستقبل تمكن أن يضع الخطوط العريضة له لكي يامن من النكسة والتجمد والسقوط (كلمة 541)) منطلقا من الفهم المعنوي للتخطيط وهو الانسان اولا (ان اول التغيير إلى الصلاح أو الفساد هو الانسان (كلمة 340)). ثم ياخذ التخطيط الثقافي حسابه الكمي في فكر الشيرازي بصورة تقترب جدا من التخطيط بتعريفه الانف الذكر.يقول فقيدنا (قدس سره) (على من يريد تعميم الثقافة الاسلامية ان يلاحظ النسبة بين ما يتطلبه الوضع الراهن من الثقافة وبين المقدار الموجود منها حاليا. كما عليه وضع خطة شاملة للحصول على وسائل الثقافة الحاضرة والهيمنة عليها سواء ما كان منها منحرفا ام محايدا (كلمة 184)). فهناك اذن دعوة ضمنية من قبل السيد الشيرازي لاشراك المثقفين في عملية التخطيط (بخاصة الخطط بعيدة المدى) جنبا إلى جنب مع المخطط الاقتصادي والحضري والزراعي...وربما كانت التنمية الذهنية للجماهير (تنمية العقول (كلمة 228)) اهم من التنمية الاقتصادية أو بتعبير اخر سابقة لها. فما هي الفائدة من تشييد المباني وزيادة الدخل القومي وتطوير المشاريع لبشر متخلف وامي لايفهم الحياة وتسيطر على ذهنيته رواسب الماضي واساطير الاولين. ومن هنا وضمن حرصه وهمه الثقافي اولى سماحة الفقيد اهتماما بالتخطيط لـــ:

1- المفكر الناضج: وتهيئة من يتحملون اعباء المسؤولية الثقافية بشكل ينائ عن الشهرة والاضوائية التي ترددت كثيرا في كلماته، مثل (الشهرة افة) (الاضوائي يختفي في وعي الناس (كلمة 245)) (من يريد الهدف لايريد الاضواء (كلمة 246)). واهاب الشيرازي بطلابه ومريديه الابتعاد عن التكسب بثوب الثقافة وعدّه تخلفا للمثقف نفسه ولمجتمعه. واراد للنخب الثقافية ان تكون اجتماعية لتحقيق الاهداف الكبيرة على مستوى المجموع. ووصف هؤلاء المثقفين -الكسبة بانهم لاياتون بجديد سوى انهم يعتبرون هذا العمل مهنة رابحة لاوظيفة اجتماعية وحيوية تنويرية. ويتناسون القضايا المهمة للامة. والنتيجة الطبيعية ان يظل المسلمون في تاخرهم وسيطرة الاقلية على الاكثرية (كلمة 473).

فالمفكر في مفهوم الشيرازي هم نخبة ونوعية خاصة من الناس لايختلفون عن الناس الا بطبيعة تفكيرهم وفهمهم للحياة التي قد تؤدي احيانا إلى نزاعات مع الجهلة وذوي العقول الفارغة (ان المفكر له تخطيط ووجهة نظر خاصة يريد ان تسير الحياة وفقها. وحيث ان هكذا اناس لابد من مصادمات ونزاعات مع مختلف التجمعات. فلا بد من ان يفكر المفكر في مسند يستند اليه في بث افكاره والا كان نصيبه الاضطهاد (كلمة 421)).

وقد تبنى الشيرازي فكرة البطل التاريخي وطبعها على دور المثقف وامكانيته في التغيير الاجتماعي (الثقافة تنبعث اول ما تنبعث من فكر انسان واحد عادة ثم تنتشر وتتوسع حتى تعم قطرا أو اقطارا وقد تكتسح العالم باجمعه (كلمة 182)). وكي يزرع بذور مثل هؤلاء المثقفين يهتم الشيرازي بالانسان (المثقف -العامل) بهويته الاسلامية وعصريته الحضارية. فالمثقف العامل (يخطط ويوزع اعماله. فان للتخطيط اهمية كبرى في النجاح في الوصول إلى الهدف. والتخطيط لابد ان يسبقه التفكير الناضج (كلمة 257)). والغاية من اعداد المثقف بهذه النوعية هو ضرب المنافذ التي تدخل منها الافكار (المنحرفة) والوقوف ضد التشدد الاستشراقي التي ازدادت مناوئتها للفكر الاسلامي بسبب الهيمنة المعلوماتية والعولمة الثقافية. فـ (يلزم على العاملين لاجل النهضة الاسلامية الثقافية فضح المفاهيم المستوردة التي سببت اكبر المشاكل للمسلمين (كلمة 175)) وان يكون التصدي للخرافات والمفاهيم المنحرفة التي بنت لها اعشاشا في الادراك الاجتماعي من مبدا اسلامي قائم على التحاور والحكمة والموعظة الحسنة – كلمة 482-.

2- الثقافة النافذة: بعد فهم دور المثقف العامل وضمن عملية تدشين مفاهيم جديدة على الساحة الثقافية، نحت لنا الشيرازي مفهوم الثقافة النافذة كتعبير عميق عما يدور في ذهنه اساسا ولما يمكن ان يحققه في ترويج الثقافة بكافة مفاصلها.

 في الفكر التنويري للشيرازي فان (الثقافة النافذة هي اول شرط في التغيير (كلمة 173)) وهو وان لم يتبحر كثيرا في تفسير هذا المصطلح الا انه ضمنه في احاديث يمكن الاستفادة منها للتعبير عن مفهومه الجديد. من ذلك تعميم الثقافة، اذ (يلزم على العاملين في حقول التثقيف الاسلامي تعميم الثقافة الاسلامية بمختلف اللغات على ان يكون ذلك ضمن تخطيط شامل (كلمة 180)). والهيمنة الثقافية للاسلام (التي لاتكون الا بان تدخل نظريات الاسلام في الاقتصاد والسياسة والحقوق والتربية والاجتماع في كتب المدارس.. (كلمة 178))وراينا كيف ان الفقيد قد اشبع الشارع الثقافي بمؤلفاته في الميادين المذكورة فضلا عن تخصصه الاساس كمثقف فقهي. وهو نداء إلى رجال الدين بعدم الاقتصار على الكتابة الفقهية وتوسيعها أو تطعيمها بالميادين الانسانية الاخرى.

واقترانا بما سبق، فقد استفاد الشيرازي من الاية الكريمة (ولقد اتينا ابراهيم رشده) ليضع الثقافة والتنوير في موضع الجهاد بل ويفوقه. والرشد الفكري هو قمة ماكان يطمح اليه السيد الشيرازي للوصول إلى حكومة المليار مسلم. والتي لن تتحقق الا بالتوعية والتثقيف (السبيل، 14).

3- وسائل الاعلام: ولتحقيق الهيمنة الثقافية الاسلامية قبالة الهيمنة الثقافية الغربية فلابد من زيادة الوعي بين كافة شرائح المجتمع، وهذه مسؤولية تقع على عاتق المثقفين انفسهم.يقول الشيرازي (على الكتاب تقع مسؤولية اخرى بعد زيادة الوعي هي نشر الوعي والثقافة بين الناس (كلمة 209)). وان التقصير في هذا العمل يجعل المجتمع نهبا للمكائد والمؤامرات الاستعمارية والتخلف... (كلمة 210). وليس هذا فحسب، فالجهل وقصور الوعي هو سبب رئيسي لولادة الطواغيت والانظمة الاستبدادية (كلمة 208). وقد تنبه الشيرازي إلى دور وسائل الاعلام في التاثير على الراي العام. فكان حريصا على تشكيل راي عام بثقافة اسلامية رصينة. فـ (الراي العام يفرض على افراد الامة احاسيس مشتركة....فاذا تمكنا من التاثير في الراي العام فاننا سنتمكن من اصلاح كل شيئ (كلمة 487)) وهذا يتم باستخدام الوسائل الحديثة في الدعاية والاعلان والصحف والمجلات وبكل لون.: لون الكلام ولون الصورة ولون التمثال... (كلمة 488). ووصل به الامر إلى الدعاية للاسلام في الفنادق والمستشفيات والمقاهي وبمختلف اللغات والبلدان... (كلمة 493) واستغلال اغلفة الكتب والمجلات لهذا الغرض (كلمة 497).

وتجد عند الشيرازي شغفا غريبا بالكتاب ونشره بين العوام فضلا عن المثقفين. فكان يدعو الى (خطة ثقافية شاملة) كما المحنا سابقا. يقول الشيرازي (يلزم انشاء المكتبات الاسلامية في كل مكان: المسجد، المدرسة، الدكان، والنادي وحتى المواصلات (كلمة 427)) وفعل الشيرازي ما كان يدعو اليه بنفسه في كربلاء في كشوانيات المراقد المقدسة والمساجد وعيادات الاطباء والمقاهي... لولا ان حكومة النظام البعثي منعت ذلك فيما بعد. ثم نسخ العمل ثانية في الكويت (النبأ 177.

وهناك ضرورة لمشاركة ابناء المجتمع رسميا وشعبيا في انشاء المكتبات العامة وغرس عادة القراءة وتاسيس دور النشر واللجان المتخصصة التي تعني بالطبع والنشر ومنها دار القران الحكيم التي وصلت فروعها إلى 70 فرعا فضلا عن اصدار مجموعة من المجلات التي تصب في منابع الثقافة الاسلامية. كما شكل العديد من اللجان المختصة بالشان الثقافي منها: لجان التمثيل وتاليف الكتب ولجان ارسال المبلغين ولجان نشر الكتب المجانية.... (النبأ 172- 174).ومن المعروف عنه تشجيعه على الكتابة ليس في مجال العلوم الدينية وحسب بل والاكاديمية ايضا (فكان لابد من تشجيع الطائفتين على الكتابة وتسهيل طبع الكتب لهم) (النبأ 175).

4-الاسرة:  المثقف بمفهوم الشيرازي كما لاحظنا انفا ليس الذاتي والاضوائي بل هو العامل والاجتماعي. ولعضويته الاجتماعية فهو (فاعل) مشارك في (صياغة المجتمع صياغة جيدة (كلمة 466)) ويحاول ان يرفع مستوى الطبقات المتردية اقتصاديا. كما ان عضويته في المجتمع تحتم عليه ان يبين ويطرح الحلول المناسبة (كلمة 415).

والعائلة هي نواة المجتمع كما يقول الشيرازي ولها من الرعاية والمسؤولية حصة بالغة.لذا اخذ الجانب التربوي - الثقافي محلا لاهتمامه وهدفا لبناء مجتمع سليم وفق خطط مرسومة. وقد بدا الشيرازي اهتمامه بتثقيف الاسرة انطلاقا من الاطفال، حيث (توضع لهم الثقافة في الصور والتماثيل الورقية والكرتونية والحلويات... (كلمة 185)). ويبدو ان هذا القول مبسطا للوهلة الاولى ولكن التعمق فيه يدرك الهدف من وراءه.فاهم شيئ في حياة الطفل هو اللعب واستهلاك الصور والحلويات والمشاهد الكرتونية. لذا فوضع بذرات الثقافة تكون عن طريق هذه المنافذ بشكل اسهل من التعليم المنهجي الذي يحتاج إلى فترات طويلة. ولكون الطفل مشهورا بالتقليد والمحاكاة فيمكن جعله لاقطا للثقافة عن طريق تقليده.فـ (لو فتح الطفل عينيه وراى اباه أو امه أو احد اخوانه محتضنا لكتاب يقرا فيه بين الفينة والاخرى فان تلك الصورة لن تغيب عن الابن مطلقا وسيعمل عاجلا أو اجلا على محاكاتها (النبأ 177)).

وحث الشيرازي الاسرة على وضع الحوافز المادية والمعنوية لتشجيع ابنائها على القراءة وانشاء مكتبة خاصة بالطفل تخاطب مستواه العقلي. ومن الرائع (لو عملنا على مكافاة ابنائنا بكتاب بدلا عن قطعة الحلوى التي اعتادوا عليها (النبأ 177)).


* باحث اجتماعي

المصادر:

- الاديب، محمد طالب: رحلة في افاق الحياة.الف كلمة وكلمة للمجدد الشيرازي الثاني، دار العلوم، 2004.

-الشيرازي، محمد الحسيني: كيف السبيل إلى انهاض المسلمين، دار صادق، كربلاء، 2004.

- مجلة النبأ: عدد 65، السنة السابعة.

الاولى

جريمة تدمير ضريحي الإمامين

الاساءة ملة واحدة

رؤية مقترحة للتعاطي مع نزعة التجاوز

إطلالة على سامراء التاريخية

لمحات من سيرة الامامين العسكريين (ع)

قطاف الكلام

التنوير العراقي بين جدلية الدولة

الإصلاح المنقوص

مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي

التسامح الديني في الإسلام

لغة الارقام

غرانيق في سماء الاستشراق

حوار مع الاستاذ زكي الميلاد

حرب قصف العقول وكسب القلوب

إشكالية الديمقراطية

المجتمع المدني الكوكبي

واحة الحياة

الأ بعاد الروحية للشعائر الإسلامية

واقعة كربلاء.. سفر الخلود

عاشوراء في الذاكرة

سيادة الحق والعدل الاجتماعي

علوم وتقنية

الوعي والثقافة القانونية

اثر السنة والشخصية

محمد علي شمس الدّين وألـفـة المكان الشّعري

شعر اقباسك طاهرة

مذكرات من جنوب العراق

إذا قام الإسلام في العراق للإمام الشيرازي

اصدارات

متابعات

الاخيرة  

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا