الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

غرانيق في سماء الاستشراق

حسن عبيد عيسىٰ

ملخّص:

من بين السبل التي دأب المستشرقون على اتباعها بهدف تشويه صورة الإسلام، البحث المعمق في المسائل الخلافية، وتقصّي المسترذل من الأخبار، والمستقبح من الروايات وعدها أساسا لبناء مغرض، وكانت فرية (الغرانيق العلى) التي وردت في تراثنا ضعيفة مستقبحة، نسب واضعوها إلى النبي (ص) إضافة قول إلى التنزيل وضعه (إبليس) على لسانه الكريم، وبعد أن تكثفت الردود على أباطيل المستشرقين، فقد استحدثوا وسيلة تكاد تكون مقبولة، وهي أن يقولوا ما يريدون على لسان من تتلمذ لهم من المسلمين، فردد ذلك (سلمان رشدي) في آياته الشيطانية، وناصَرَه (صادق جلال العظم) في إطرائه على جهود زميله الهنــــــدي، حتى باتت فرية (الغرانيـــــــق العلى) التي ردها جمـــــــع من خيــــــــــــار المفســـرين والمؤرخين الإثبــــات، مادة نقاشية جديدة تثار من قبل مفكريـــن ومؤرخيــــــــن وأدبـــاء مسلميــــن، يريــــــــدون بها ما قصــــده المستشــرقون من قبــــل.

مهما حاول المستشرقون والمدافعون عنهم، الادعاء بانطواء أدائهم على نيات طيبة تجاه الدين الإسلامي والشعوب التي تعتنقه، فإن ذلك يبقى موضع شك وريبة، فالضرر الذي لحق الدين والأمة جراء ذلك الأداء لا يترك فرصة للقبول بمثل ذلك الادعاء، حتى بات المستشرق المنصف عملة نادرة يصعب الحصول عليها، وإن وجد، فإن تساؤلات عن دوافع عدالته تُطرح أكاديميا أو فضولا. وكان نتاج أداء الجمهور الأكبر من المستشرقين مادة جاهزة في صراع أسسوا له تحت عنوان (صراع الحضارات)، أرادوا من ورائه إلغاء الطرف الآخر فيما تصوروه صراعا.

وإذا ما كان (لويس ماسنيون) سيدا بين المستشرقين، احتفى به مثقفونا وخصّوه بمكانة مرموقة بين المستشرقين المنصفين، خصوصا وانه انتفع كثيرا من إطراء من تتلمذوا له من (العرب خاصة والمسلمين عامة)، فانه مارس هوايته الاستخباراتية وهو يطوف في بوادي (العراق) تمهيدا للحرب العالمية الأولى، فاستطلع باحثا عن كل ما يزيد من الاستعدادات ويرفع من التحضيرات للحرب المرتقبة بذريعة الكشف الآثاري، بينما تجسس على عوامل الفرقة وتحرى جراثيم الضعف في بدن الأمة، فتعمق في دراسة ألوان الطيف الإثني، وألوان الطيف الديني. ولم يشبع نهمه الكم الغفير الذي خرج به من المعلومات الاستخباراتية الدقيقة حتى دس انفه في الجذور يتوسل أصول القوة في الكيان المستهدف تسهيلا للانقضاض عليه، فتوقف عند أشخاص معينين محولا النقاط الساخنة في سِيَرِهِم إلى تُهَم لصقها بالإسلام، وإذا به يُعْلي من شأن (الحلاج) الذي صار بنظره البطل الحقيقي للإسلام حتى استوقف ذلك الإعجاب (إدوارد سعيد) الذي قال (وكان بطل الإسلام بنظر ماسنيون أعظم المستشرقين الفرنسيين شهرة وتأثيرا، لا محمد أو ابن رشد، بل الحلاج القديس المسلم الذي صلبه المسلمون لجرأته على شخصنة الإسلام) (1). بينما راح مستشرقون غيره يثيرون الشكوك في أمور أعمق مثل السيرة النبوية الشريفة، فشككوا في عُمْر الرسول (ص) وكذا فعلوا مع اسمه الكريم، وربما تجاوز البعض تلك الأمور ليشكك بوجوده أصلا، في حين تخصص آخرون في جمع النتف المنبوذة والأخبار المرذولة ليخرجوا منها بسيرة جديدة تخدم هدفهم الأعلى إلى الحد الذي اضطر فيه بعض المترجمين الغُيارى على دينهم وعقيدتهم إلى تعمَد (تعديل) ما يترجمونه من كتابات بعض المستشرقين الحاقدين بما له علاقة بالسيرة النبوية الشريفة حيث أفصح (الدكتور إبراهيم احمد العدوي) عن ذلك وهو يترجم كتاب (الحضارة العربية) للمستشرق (ي. هل) إذ قال في مطلع أحد فصوله (اقتضى هذا الفصل تعديلا في الأسلوب، ولاسيما في بعض الفقرات التي عالج فيها المؤلف شخصية الرسول ودعوته إلى الإسلام، إذ تحمل تجنيا يكشف عن تعصب المؤلف ووقوعه في الخطأ الذي تردَى فيه كثير من غلاة المستشرقين، ضيقي الأفق) (2).

حداثة الاستشراق

       ما فاقم من حجم المشكلة الاستشراقية، هو سوء فهم بعضنا لطريقة أداء الجمع الغفير من المستشرقين، فعدهم ذلك البعض منصفين وأصدقاء ناصحين وما هم على ذا الوصف، فصار طرحهم بما يتضمن من تحديث من بين الأمور التي رددها وعمل على إشاعتها ذلك البعض، حتى بدا نفر من (ذلك البعض) ببغاوات وأدوات تنفيذ منقادة يُنَفّذ المستشرقون ما يسعون إلى تنفيذه عن طريقهم، وعندما غزا صيت (الحداثة) الوسط الثقافي فقد اختلط الأمر على ذلك البعض وظنها تحديثا وما هي كذلك (إلا من كان عامدا إلى العمل بها وهو مدرك لمغزاها)، فهي مرحلة ما بعد التحديث والتي تعقبها مرحلة (ما بعد الحداثة)، فانزلق راضيا قانعا نحو منزلق خطير يريد به جر تراثنا إلى مقصلة الحداثة بعدّها تحديثا لازما لكل ما أكل عليه الدهر وشرب.. فالتحديث هنا ليس كما توحي المفردة المجردة، فهو هدف علماني يعمل على تغيير الإنسان وبيئته ويمتد التغيير ليشمل الطبيعة بمعزل عن الضوابط (الدينية والأخلاقية) بحيث يصير العقل هو المرجعية المتفردة التي تتحكم بتعديل أو (تحديث) النص المقدس (القرآن مثلا وكذلك السيرة النبوية الشريفة إلى حد ما) وهو الأمر الذي سنناقش بعضا من جوانبه في هذه الورقة. أما المرحلة التالية فهي (الحداثة) التي تعرف بأنها (نمط حضاري جديد يضع نفسه في مواجهة النمط التقليدي، إنها تحول جذري على المستوى المعرفي، وعلى صعيد فهم الإنسان لذاته وتصوره للطبيعة ولعلاقته معها. إن الحداثة موقف فكري وعملي شمولي إزاء التاريخ، فإذا ما لامست الحداثة البُنى الاجتماعية التقليدية التي استنفذت مسوغات وجودها، فإنها تقوم بالتدريج في ممارسة ضرب من التفكيك عليها، بعد أن تكون قد نزعت القداسة عنها) (3) وليس بعيدا عن ذلك محاولات المستشرقين تغيير الأبجدية العربية إلى اللاتينية، وكان (ماسنيون) قد تزعم حملة لهذا الغرض منذ العام 1930 عندما مثّل الاستشراق في مجمع اللغة العربية في (القاهرة) (4)، ولو إن ذلك حصل لكان الدمار قد عم تراثنا، ولما سلم القرآن الكريم من الأذى الخطير ناهيك عن تغيير معانيه لو كتب بأبجدية أخرى أو على الأقل لانتهى التواصل الروحي بينه وبين المتلقين0 لذا فان التفكيك وانتزاع القداسة من بين الأمور التي سيقدم عليها تلاميذ الاستشراق وهم يجرون تراثنا إلى المنزلق الناعم الذي أعده أساتذتهم، فهل نحن بحاجة إلى كل ذلك التفكيك وانتزاع القداسة لنضمن حصولنا على هوية الانتماء إلى العصر؟

عموما فقد تعهد مثقفون يحملون الهوية الإسلامية بتنفيذ تلك المهمة بأمانة وإخلاص، وكان في مقدمتهم (صادق جلال العظم) كمفكر، و (سلمان رشدي) كأديب، وآخرون صاروا أعلام اتجاه حداثوي أو تفكيكي يبثون سمومهم بقصد وتعمد لتدمير الأسس التي قام عليها تراثنا بما فيه المقدس.

إن ما أبكى (العظم) في واقعنا بله ماضينا، هو غياب ملحمة الحداثة عن (الزمن الإسلامي الراهن كما غابت بطولات المعاصرة وفروسية الفعل وواقعية النثر وشاعرية الشعر) فنحن (أمام هجاء تهكمي مرير لحاضر إسلامي هلامي باهت لا حضور له لأنه مازال يعيش ملحمة ماضيه وبطولاتها على مستوى الخيال) الأمر الذي دفع (رشدي) إلى معارضة الملحمة المحمدية الإسلامية التاريخية الكبرى متعمدا (5).

لقد عمد (سلمان رشدي) إلى التلاعب الآثم بالسيرة النبوية الشريفة مترجما ما قرره المستشرقون الذين حاولوا بناء السيرة على المردود من الأخبار والمرفوض من الروايات، فقد ( غالى كثير من المستشرقين في كتاباتهم في السيرة النبوية، واجتهدوا في إثارة الشكوك في السيرة، وقد أثاروا الشك حتى في اسم الرسول، ولو تمكنوا لأثاروا الشك حتى في وجود النبي. وطريقة مثل هذه دفعتهم إلى الاستعانة بالشاذ، والغريب فقدموه على المعروف المشهور، استعانوا بالشاذ ولو كان متأخرا أو كان من النوع الذي استغربه النقدة وأشاروا إلى نشوزه، تعمدوا ذلك لان هذا الشاذ هو الأداة الوحيدة في إثارة الشك) (6) كما حصل عندما أشار المبشر السير (وليم موير) إلى رواية (الغرانيق العلى) في كتابه (حياة محمد وتاريخ الإسلام) وحاول أن يبرر وقوعها، و (كارل بروكلمان) الذي نهج على درب (موير) فذكر الرواية المردودة في كتابه (تاريخ الشعوب الإسلامية) عادا إياها واقعة مؤكدة وصحيحة وقد أسس على تلك الفرية، ولم يتخلف عن استثمارها (مكسيم رودتسون) في كتابه (محمد)، ولهذا المستشرق مساهمة مماثلة بعنوان (حياة محمد والمشكلة الاجتماعية المتعلقة بأصول الإسلام) نشرت في مجلة (ديوجين) لليونسكو في العام 1961، وسار على ذات النهج المغرض، المستشرق (مرسيا الياد) الذي أرّخ للأفكار الدينية في موسوعة من عدة أجزاء تحمل عنوان (تاريخ الأفكار الدينية) 1984. فالتعمق في النماذج المنتقاة من تلاميذ الاستشراق (رشدي والعظم) ذات قيمة راقية في مجال بحثنا، فالأول وظّف السيرة الشريفة على وفق ما كتبه المستشرقون، فكان (المسلم الجائزة) التي فاز بها دهاقنة الاستشراق ليبثُّوا سمومهم عن طريق قلمه، والثاني دؤوب منذ ما يزيد على جيل من الزمان على شن الحرب على الإسلام بدعوى (نقد الفكر الديني)، وما رأيت تأثيرا لتهافت طروحاته ومن تماهى معه غير تأجيج وتفعيل للروح الإسلامية في مجتمعنا عكس ما كان يرنو، ومقارنة بسيطة بين جذوة المشاعر الإسلامية عندما نقد (العظم) الفكر الديني قبل جيل من عمر الزمان حيث أصدر كتابه (نقد الفكر الديني) وما هي عليه الآن تبين اندحار أفكار الرجل وفشله سواء سلّم بتلك النتيجة أم أخذته العزة بالأثم. وليس ذانك النموذجان المتهافتان غير علامات بائسة في نهج حداثوي يستخدم التفكيك وانتزاع القداسة في نقد التراث بل في تدميره بقصد إشاعة حالة ضياع وفراغ فكري يلغي خصوصيتنا ويحط من شأننا في ميدان الصراع الحضاري الذي أسسه الغرب، لنَصِير مجرد توابع مسوخ وطيعة في النظام العالمي الجديد الذي تحكمه العولمة وتقوده (أمريكا).

المصيبة تكمن في أن ما يكرس تهافت أطروحات (العظم) انه لا يعد رد الفعل الإسلامي تجاه الأفكار المأجورة أمرا طبيعيا إذ يعزوه إلى مصالح خاصة، فهو يرى في الرفض الإسلامي العارم لرواية (آيات شيطانية) التي تسيء إساءة بالغة إلى شخص الرسول (ص)، دوافعا مصلحية تتمثل في تصفية حساب قديم بين السلطات الحاكمة في (الهند) متمثلة برئيسة الوزراء الراحلة (انديرا غاندي) وعائلتها من جهة و (رشدي) من جهة أخرى لأن (رشدي) أساء إلى (انديرا) في عمل أدبي سابق، وصراع نفوذ بين (الخميني) وملك (السعودية) للهيمنة على العالم الإسلامي من جهة أخرى (وقت صدور الرواية عام 1988)(7)، وبذا فقد ألغى مشاعر كل المسلمين الرافضة للرواية ممن لا يرون في تلك الصراعات المزعومة حقيقة قائمة، والتي لم تتولد نتيجة لتينك الصراعين.

التأسيس المغرض

لم أجد مستشرقا أقدم من المبشر الانكيليزي (السير وليم موير) اهتم بإبراز فِرْيَة (الغرانيق) وبناءً عليها بناءا مغرضا، فالرجل المولود في العام 1819 والذي عمل موظفا استعماريا في ديار المسلمين (مدينة أكرا الهندية التي تحتضن تاج محل) وتعلّم لغتهم وغاص في تراثهم وناصبهم شديد العداء وهو لما يبلغ العشرين من عمره، أصدر باكورة نتاجه الفكري كتابا بعنوان (شهادة القرآن على الكتب اليهودية والمسيحية) والذي نشره في تلك المدينة في العام 1856 وكان يهدف من ورائه إلى إثبات إن القرآن اعترف بأسفار العهدين القديم والجديد بشكلهما الحالي وعلى المسلمين أن يأخذوا بهما على وفق نصوصهما المتداولة ثم تفرغ لدراسة السيرة النبوية الشريفة فألف مما استنبط من ضعيف الخبر ومردود الرواية وسقط الكلام ما ألف به كتابه (حياة محمد وتاريخ الإسلام)، وهو كتاب ضخم في حجمه محشو بالمغالطات والأكاذيب، صدر في (لندن) 1856-1861 بعد أن كان نفث ما فيه من سموم على صفحات (مجلة كالكوتا)، وفيه تمسك بفرية (الغرانيق) مبررا عودة الرهط الأول من المهاجرين الذين كانوا في (الحبشة) إلى (مكة) وتفضيلهم العيش فيها على جوار (النجاشي) وما فيه من نعمة أمان تمتعوا بها طيلة ثلاثة اشهر، بأنهم كانوا قد اطمأنوا إلى إسلام المشركين بعد (أن وقعت) قضية (الغرانيق) ولقد كان في طليعة مصادره كتابا (تاريخ الأمم والملوك) للطبري و (الكامل في التاريخ) لابن الأثير(8).

بينما يزعم (كارل بروكلمان) إن النبي (ص) في السنوات الأولى من بعثته وعندما كان يتلو آيات من سورة (النجم) أثناء الصلاة (اعترف على ما يظهر بآلهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله. ولقد أشار إليهن في إحدى الآيات الموحاة إليه بقوله: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتضى. أما بعد ذلك حين قوي شعور النبي بالوحدانية فلم يعتبر بغير الملائكة شفعاء عند الله) ويتعمق في التضليل ابعد ليقول (ولم يستطع التقليد المتأخر أن يعتبر ذلك التسليم إلا تحولا أغراه به الشيطان) (9). وإذا ما أصخنا السمع إلى (بروكلمان) وهو يفصح في مقدمة كتابه الذي تضمن هذا الهراء (تاريخ الشعوب الإسلامية) عن مصادره المعتمدة في كتابة ما يتعلق بالسيرة نجد إنه اعتمد على المستشرق الإيطالي (الأمير كايتاني) الذي لم يتورع (الدكتور جواد علي) عن اتهامه بالولع (بالخبر الغريب، والأخذ بالروايات المتأخرة الضعيفة التي لا نجد لها أصولا في كتب السيرة القديمة، وأبدى فيها آراء مبنية على العاطفة في الغالب، فوقع من ثم في تلك الأغلاط) (10). ولا شك فإن (بروكلمان) الذي وقف على ذلك قد تصرف بما تنطوي عليه ذاته، فعدّ الفرية حقيقة وبنى عليها.

أما (الياد) فيقول وهو يتكلم عن اللات والعزى ومناة (وكان يُنظر إليها على إنها بنات الله، وكانت تتمتع بشهرة واسعة، حتى إنه في بدء الدعوة أخطأ محمد[وقد صحح خطأه فيما بعد]، ومدح وظائفها باعتبارها وسائط إلى الله وانه بعد الآية (فرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة) جاءت آيات فيها: تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ولكن محمدا بعد ذلك تنبه إن هذه الكلمات من وحي الشيطان فبدّلها على النحو الآتي [ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذن قسمة ضيزى. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وإباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان0 أن يتبعون إلا الظن وما تهوي الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى) (11). ولم يجرؤ أحد من المؤرخين على تناول موضوع الغرانيق بالصيغة التي أسس عليها، إلا أن تناولا خجولا من قبل (خليل مطران) حمل ملمحا إلى انه قصد بهن الشاب الجميل، حتى بلغ عدد الأبيات التي ذكر فيها (مطران) الغرانيق، نصف مجموع الأبيات العربية التي ذكرتها منذ الجاهلية وحتى الآن فهي لا تتجاوز عشرة أبيات، ولست أدري سبب اختياره لها بعد أن كان المستشرقون قد أغدقوا عليها كثيرا من الاهتمام وبنوا عليها الآمال الكبار حيث يقول:

وكفقدهم فقـد الغرانيـق العلى علم الهـدى للفتيـة النجبـاء

وقوله: ما راع قلبك في الغرانيق العلى إلا كـرام عرضـوا لنـكال

وقوله: تغدوا لفراسة في الغرانيق العلى دربا على الإسراج والإلجام

وقوله: ونيس الغرانيق زين الشبـاب وشيخ الشباب المهيب الرحيما

وقوله: فأوتي ذخرا من غوالي دروسه غرانيق فازوا في الحياة وفتيان

فالهند في عهد الاحتلال البريطاني، سواء في زمن سيادة (شركة الهند الشرقية) أو بعد تشكيل ما يسمى (بحكومة الهند) قبل الاستقلال عاشت فترة هوس استشراقي- تبشيري لاعتقاد (الانكيليز) بهشاشة المجتمع المسلم هناك وسهولة تفتيته خصوصا وان (السلطة كانت بيد الانكيليز تدار وتدبر كيفما يشاؤون ضد المسلمين.. وكانت جماعات وفرق المبشرين والمسيحيين (يقصد المستشرقين) تجوب أطراف الهند، وتبث الدعاية المسمومة ضد المعتقدات الإسلامية، وتنشط القسيسون بعقد الاجتماعات والحلقات والحفلات في الأماكن العامة والهجوم على المساجد والمدارس وإجبار المسلمين بقبول الدين المسيحي) (12) وكان من بين نتائج ذلك كله بروز حركات هدامة كالقاديانية التي أسسها عميل الانكيليز (الميرزا غلام احمد بن غلام القادياني) المولود في (البنجاب) في العام 1853م. ولقد انبثقت عن ذلك الجهد المحموم مؤسسات ثقافية كبرى ودور نشر وصحف ومجلات. تمخض ذلك الظرف المزدحم بالصراع المفروض من الخارج عن بروز فئة قوية من مسلمي تلك البلاد (ممن استفاد من الوجود الانكيليزي فائدة مصلحية) تدعو إلى الالتحاق بركب الحضارة الغربية والتمسك بكل تفاصيلها، وكانت تلك الفئة ترتكز في قوامها ودعاواها على الدعم الأجنبي، وقد فعّلت أنشطتها بالتزامن مع انجراف (تركيا) نحو الغرب بقيادة (كمال أتاتورك) ومحاولة (رضا بهلوي) جر (إيران) إلى ذات الاتجاه، ولم يفلح القسم الأكبر من مسلمي (الهند) في إيقاف تلك المحاولات التي نجحت في كسب عوائل عديدة رأت في (الغرب) المنقذ والوسيلة الوحيدة للتطور والرقي.

وعندما ولد (سلمان رشدي) في (بومباي) عام1947 (عام استقلال الهند) لواحدة من تلك العائلات، فقد حظي بتربية تتناغم مع ذلك الاتجاه، وأكمل المسيرة التغريبية بهجرة عائلته إلى (انكلتراا)، ما سهل له الالتحاق بجامعة (كامبرج) ليدرس التاريخ حيث سلَّحَه أساتذته هناك (بأجوبة جادة تماما عن مشاكل العالم) ولكنه يدعّي انه هو الذي سلّح نفسه بتلك الأجوبة، وعلى الرغم من الثقة العالية بالنفس التي كان يتمتع بها، (إلا إن ما حدث بعد ذلك) على وفق تحديده مما لا نفهم كنهه، تَرَكه (اقل ثقة بوجود أية حقيقة) فتولدت عنده (الشكوكية) كما يزعم، وبهذه الروحية كتب روايته الأولى (العار)، ثم الثانية (أطفال منتصف الليل) التي حظيت بجائرة ثقافية محترمة في (انكلترا) هي جائزة الناشرين لعام 1981. بعد ذلك فاجأ المؤرخ الذي ماهن الأدب، العالم وخاصة المسلمين، بروايته الأشهر (آيات شيطانية) التي كانت ثمرة الإعداد والتدريب الاستشراقي الذي خضع له.. واليوم هو مواطن (نيويوركي) يعبّر عن مواطنته بالمواقف المتغربة، وبأعمدة يكتبها في الصحف الأمريكية، منها ذلك العمود الذي حمد الله فيه لأن إفرازات الحادي عشر من أيلول 2001 كانت لصالح الوحدة الوطنية الأمريكية.

لقد تناول (رشدي) السيرة كما مر بنا، على وفق ما كتبه المستشرقون (بدافع الحرص على الإسلام!!) تحت تأثير الحداثة، فكان ما كان من ذكر غير مؤدب لشخص الرسول (ص) مستهدفا إزالة الحواجز بين الشرق والغرب ولكي لا يبقى الشرق شرقا والغرب غربا. ومن بين الأمور التي تناولها باستهزاء فرية (الغرانيق العلى).

وعندما يتناول القلم (تلميذ نجيب) آخر هو (صادق جلال العظم) ليدافع عن زميله (رشدي) الذي يتماها معه بدفع وتأثير العوامل الفكرية والمرجعية المشتركة، فانه يصرف انتباه قرائه عن مصادر (رشدي) الاستشراقية ويوجهه صوب مصادر إسلامية حصيفة محترمة، إنها كتابات (الطبري) وخاصة تاريخه الأشهر (تاريخ الأمم والملوك) حيث تنقلب الأمور لصالح (الحداثة الإسلامية) عندما يتحول (تاريخ الطبري للحديث الذي لا تاريخ فيه أو له، إلى رواية رشدي للحديث نفسه فهي التاريخ بذاته) (14)،فان (تاريخية إعادة السرد هذه وتناصّها عند رشدي هي التي تجعل أحداث وقائع حديث الغرانيق وشخوصه تبدو متحولة متناقضة ومتزامنة ومتوترة ومتصارعة ومتكاملة في وقت واحد) (15) فماذا فعل (رشدي)، من وجهة نظر زميله (العظم)؟انه لجأ إلى آليات خاصة لهذا الغرض (من أبرزها توحيده الشكل الجديد بالمضمون القديم بحيث يستبدل نص الطبري الوصفي- الإخباري بنص روائي- أدائي يعبّر بأسلوبه وتراكيبه وحركته وبزته ذاتها عن الرسالة نفسها التي لم يكن النص الأول يطمح إلى أكثر من وصفها وصفا والأخبار عنها إخبارا) (16). إذن فلقد جاهد (رشدي) كما حاول مناصره (العظم) إظهاره، من أجل تقديم خدمة إلى التاريخ الإسلامي يفترض أن يشكر عليها وتقبّل أياديه البيضاء على ما قدّم!!

كل هذا الجهد الفني والإبداع الأدبي من اجل توظيف قضية يستسخفها ذوو الأمر أساسا حيث يصفها (العظم) خصوصا عندما تساءل (كيف أتعامل في نهاية القرن العشرين مع هذه الكمية الهائلة من الروايات الإسلامية والقصص القرآنية والمنقولات التراثية.. الخ المليئة بالخوارق والعجائب والمفارقات واللا معقولات مثلا: عيسى وهو يتكلم في القرآن قبل أن يخرج من رحم أمه، عصى موسى التي تحولت إلى حية تسعى، إبليس وهو يوسوس للنبي نفسه بحديث الغرانيق.. الخ) (17). فما داعي تعاملك معها أساسا؟.

أي حب للإسلام وأي إخلاص له يحملان (سلمان رشدي)على البحث في قضايا خلافية ظهر بطلانها وبان معدن واضعيها، وإذا ما سكت الناس عن(رشدي)فان زميلا له في مدرسة الاستشراق،هو(صادق جلال العظم)حاول إن يكرس الفرية ويجمل الصورة المسخ ويلمّعها سائرا على خطا سلفه، انه التخريب والتحطيم لا التحديث،وهو ما اخذ يعمل على تهافت الكثير من تلاميذ الاستشراق للافصاح عن الدواخل التي حشاها أساتذتهم بكراهية الإسلام عملا على تشويه حقيقته ومسخ صورته.

أي حب للإسلام وأي إخلاص له يحملان (سلمان رشدي) على البحث في قضايا خلافية ظهر بطلانها وبان معدن واضعيها، وإذا ما سكت الناس عن (رشدي) فان زميلا له في مدرسة الاستشراق، هو (صادق جلال العظم) حاول إن يكرس الفرية ويجمل الصورة المسخ ويلمّعها سائرا على خطا سلفه، انه التخريب والتحطيم لا التحديث، وهو ما اخذ يعمل على تهافت الكثير من تلاميذ الاستشراق للافصاح عن الدواخل التي حشاها أساتذتهم بكراهية الإسلام عملا على تشويه حقيقته ومسخ صورته.


الهوامش

1- ادوارد سعيد، الاستشراق ـ ترجمة كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت 1981ص127

2- ي. هل، الحضارة العربية، ترجمة د. إبراهيم احمد ألعدوي، مراجعة د. حسين مؤنس، الانجلو مصرية1956ص22.

3- سليمان خالد المخادمة، بحث (الفكر العربي واشكالية الحداثة) مجلة المنارة، جامعة (آل البيت) الأردن م4 ع3أيار1999ص373.

4- د. موسى بناي ألعليلي، بحث (الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية بين المستشرقين والعرب)، مجلة كلية الفقه، الكوفة 1979ص267.

5- صادق جلال العظم، ذهنية التحريم- سلمان رشدي وحقيقة الأدب، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي

 قبرص ودار المدى دمشق. ط3 1997ص273.

6- د. جواد علي، تاريخ العرب في الإسلام (السيرة النبوية)، مطبعة الزعيم، بغداد1961ص9.

7- العظم، (مصدر سابق) ص237.

8- لمزيد من تفاصيل سيرته، راجع (موسوعة المستشرقين) للدكتور عبد الرحمن بدوي، دار العلم للملايين، بيروت1984ص404.

9- كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة:نبيه أمين فارس ومنير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت 1979ص34.

10- د. جواد علي (المصدر السابق) ص10 -11.

11- د. عبد العزيز كامل، بحث (وللسيرة النبوية علينا حق) مجلة العربي، الكويت عدد 374يناير1990ص73 أما الآيات فهي من سورة النجم وكما يلي: (أفرأيتم.. الآيات 19 ـ 20). (ألكم.. الايات21 ـ22).

12- رحمة الله بن خليل الرحمن العثماني الكيرانوي، إظهار الحق، المكتبة العصرية، صيدا، بلا ج2ص7.

13- جي. أي. فون كرونباوم، (محرر) الوحدة والتنوع في الحضارة الإسلامية، ترجمة د. صدقي حمدي، مراجعة د. صالح احمد العلي، مكتبة دار المتنبي، بغداد1966 ص240.

14-15-16 صادق جلال العظم، ما بعد ذهنية التحريم، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، قبرص ط1.

 1979ص121

17- العظم، ذهنية التحريم (مصدر سابق) ص247.

الاولى

جريمة تدمير ضريحي الإمامين

الاساءة ملة واحدة

رؤية مقترحة للتعاطي مع نزعة التجاوز

إطلالة على سامراء التاريخية

لمحات من سيرة الامامين العسكريين (ع)

قطاف الكلام

التنوير العراقي بين جدلية الدولة

الإصلاح المنقوص

مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي

التسامح الديني في الإسلام

لغة الارقام

غرانيق في سماء الاستشراق

حوار مع الاستاذ زكي الميلاد

حرب قصف العقول وكسب القلوب

إشكالية الديمقراطية

المجتمع المدني الكوكبي

واحة الحياة

الأ بعاد الروحية للشعائر الإسلامية

واقعة كربلاء.. سفر الخلود

عاشوراء في الذاكرة

سيادة الحق والعدل الاجتماعي

علوم وتقنية

الوعي والثقافة القانونية

اثر السنة والشخصية

محمد علي شمس الدّين وألـفـة المكان الشّعري

شعر اقباسك طاهرة

مذكرات من جنوب العراق

إذا قام الإسلام في العراق للإمام الشيرازي

اصدارات

متابعات

الاخيرة  

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا