الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

مفاهيم ومصطلحات

الإصلاح المنقوص

معن حمدان علي

عرفت البلاد العربية في الفترة الممتدة من أوائل القرن التاسع عشر الميلادي إصلاحيين ومتنورين كثيرين، ويمثل رفاعة رافع الطهطاوي (1801-1873) وخير الدين التونسي (1810-1890) الإرهاصات الأولى للإصلاح.

فقد رشح شيخ الأزهر حسن العطار (1766-1835) تلميذه النبيه رفاعة إماما مرافقا لبعثة دراسية في فرنسا، طالبا منه تدوين يومياته، نجح الطهطاوي في إتقان اللغة الفرنسية، ويقال فإنه أتقنها قبل وصوله إلى فرنسا، مما أهله لدراسة الفلسفة والجغرافيا والمنطق، والاطلاع على مؤلفات رواد النهضة الأوربية أمثال فولتير وروسو، وقد انعكس ذلك على مؤلفه (تخليص الإبريز إلى تلخيص باريز) الذي هو دعوة إلى الأخذ بالنظام الديمقراطي وإشاعة التعليم ونشر العلم من خلال مدحه وتبيانه لإيجابيات النظام السياسي الفرنسي والتقدم العلمي.

أما خير الدين التونسي فقد انشأ المدرسة الصادقية لتعليم الفنون والعلوم الحديثة ضمن إطار القيم الإسلامية، بعد خطة شاملة للإصلاح ضمنها كتابه (أقوم المسالك في تقويم الممالك)، الذي حث فيه السياسيين وعلماء عصره على انتهاج كل السبل الممكنة من اجل الارتقاء بالأمة محذرا من مغبة رفض تجارب الأمم الأخرى وخاصة أوربا، معتبرا أن الحكم المطلق الشمولي سبب التخلف ودمار الشعوب.

ثم ظهرت اخطر شخصية في العصر الحديث هو جمال الدين الأفغاني (1838-1897) الذي تميز بصلابة وتمسك بمنهج إصلاحي سبب له أن يعيش طريدا ما بين القاهرة والآستانة وطهران وبطرسبورغ، فعلاوة على الإصلاح الاقتصادي والسياسي- كما يرى الأفغاني- لا بد من إصلاحات أولية في فكر وثقافة المسلمين، ولابد من تصحيح الرؤية التقليدية للدين التي تؤكد على الجمود، واعطاء التصحيح رؤية إسلامية أصيلة، تعتبر الحركة والتكامل من اجل تحقيق الأهداف أمرا حياتيا، وفي الواقع لا بد من ثورة فكرية وثقافية على صعيد المجتمع تسبق أي ثورة سياسية أو اقتصادية، ثورة لتصحيح الرؤية التقليدية الميكانيكية الجامدة، واستعاضتها برؤية تبحث بجد عن حلول للمعضلات بالاعتماد على الإسلام الأصيل، والتصدي بوعي إلى الدعوات التغريبية المقلدة بشكل أعمى.

وفي هذا الخصوص يؤكد على الرؤية الصحيحة للأيديولوجيا والعمل في إطار الاعتماد على البناء الثقافي والمعنوي للمجتمع والأمة، فيقول (لا أمة بدون أخلاق، ولا أخلاق بدون عقيدة، ولا عقيدة بدون فهم).

ورغم كل الحشد من الآراء المتضاربة حول الأفغاني فإن ما هو متفق عليه أن هذه الشخصية غير عادية، وجدت في زمن وظرف غير عاديين.

وخلال إقامته في مصر مارس جمال الدين ابلغ التأثير على لفيف من التلامذة الذين أتيح لهم أن يتأثروا بأفكاره ويسيروا على نهجه، وكان أشهرهم الشيخ محمد عبده (1849-1905) الذي ما أن اتصل بالأفغاني حتى انطلق من أفق طلاب الأزهر المحدود إلى حيث استشراق آفاق أستاذه.

اسهم في الثورة العرابية من موقع معتدل، ثم نفي فعاش زمنا في باريس يحرر (العروة الوثقى)، ومنها إلى بيروت حيث ولدت (رسالة التوحيد)، والتعليق على (نهج البلاغة) و (مقامات الهمداني)، ويرد على فرح أنطوان بكتاب (الإسلام والنصرانية بين العلم والمدنية).

سمح له بالعودة إلى القاهرة بشرط هجرة العمل السياسي، فانكب على إصلاح الأزهر والأوقاف والقضاء، فاصطدم بالخديوي عباس حلمي، فضلا عن الجامدين من شيوخ الأزهر مما أعاق جهوده فمات كمدا، ولا بد من الإشارة إلى أننا نعيش الذكرى المئوية لوفاته في عامنا هذا.

في نفس الفترة تقريبا تألق نجم آخر لا يقل بريقا عن الأفغاني وعبده، وهو الشيخ عبد الرحمن الكواكبي (1849-1903) الذي سخر جهوده بالدرجة الأولى لفضح الاستبداد، وذلك المرض المزمن في العالم الإسلامي والذي يحدده بالانقلاب الأموي ابتداء، لغاية يومنا هذا، معتبرا إياه سبب كل المشاكل في كتابيه (طبائع الاستبداد) و (أم القرى) ملخصا في النهاية إلى أن التخلف وأمراضه بالاستبداد وأنظمة الحكم الجائرة.

تأثر بالرعيل الأول من الإصلاحيين (الأفغاني وعبده والكواكبي) جملة من المثقفين لكنهم اقل تألقا واخبأ نورا، مثل رشيد رضا وعبد الله النديم ومحمد فريد وجدي وطاهر الجزائري وعبد القادر المغربي والطاهر بن عاشور ومحمد الخوجة وشكيب أرسلان وغيرهم.

وكانت الإشكالية الأساسية لدى الرعيل الثاني من الإصلاحيين المتنورين هي إثبات الذات في وجه الهجمة الحضارية الغربية التي بهرت الأبصار والبصائر، علاوة على التبشير، وعلى المستوى السياسي مقاومة الاستعمار، لذلك خفت المشروع الحضاري جزئيا.

آلَ الإصلاح والتنوير الذي تزعمه الرعيل الأول والمتأثرين به، وفي امتداد زمني منسق إلى مشروعين إسلامي مثلته حركة الأخوان المسلمين والتيارات التي تمخضت عنها، وقومي شوفيني تزعمه ساطع الحصري، وكلا التيارين تكلما لغة واحدة تقريبا كدعوة إحيائية معاصرة، وان كان تمجيد الماضي يحتل مكانة مركزية فيها، مما دفهم مستقبلا أن يشاركوا في تزوير التاريخ العربي الإسلامي، وإظهار حكامه وشعوبه بشكل مثالي مطلق.

والسبب واضح هو أن العالم العربي عرف متنورين وإصلاحيين لكن لم تنشأ في ربوعه حركة تنويرية إصلاحية جذرية مثل التي عصفت في أوربا مثلا، حيث عجز هؤلاء عن صوغ مشروع إصلاحي متكامل، أو حتى تفكير إصلاحي شامل، لذلك لم يظهر على السطح تيار إصلاحي واضح المعالم، بقدر ما ظهر كرد فعل على اللبرالية والمشروع التغريبي الذي بدأ يزدهر تحت ظل حكومات العالم العربي والإسلامي، والأحزاب السياسية التي أخذت المبادرة آو بآخر، فضلا عن اصطدام الإصلاح بالعقل الشرقي وبنيته.

قاد المشروع الإسلامي حركة (الإخوان المسلمين) بتيارها الرئيسي السلطوي ثم التيارين السلفي والتكفيري، فالسلطوي عاش بين مد وجزر بين نضال سلبي وإيجابي، وهو يختلف في الرؤية والمتبنيات حسب اجتهاد كوادره، فالفرع السوري يرى العنف الثوري مثلا طريقا للتعبير بينما تمثل الفروع الأخرى النضال السلمي، والواقع أن للظروف اثر كبير في تجديد مسارات الحزب وفروعه.

ومن اطرف مواقف الفرع المصري للإخوان انه سارع وأيد الثورة الإسلامية في إيران، ودعا الحكومات العربية والإسلامية والشعوب إلى مساندتها والوقوف إلى جانبها، ولما خفتت حرارة الموقف تبين للقيادة منهم أن القائمين بهذه الثورة هم (روافض)، فتبدلت لغة الخطاب واتخذت موقفا آخر إزاء المعلومات الخطيرة التي وقفت أخيرا عليها، فأسست في الأردن مركزا سريا يقع على عاتقه تحويل الثوار الروافض إلى سنة.

والتيار السلفي ما زال يعمل حثيثا لإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء، أما التيار التكفيري فلا يحتاج إلى تعليق لان التجربة المعاصرة التي نكتوي بها تغني عن التعليق، ففي سبيل إرجاع حكومة الخلافة الراشدة وإنشاء دولة إسلامية فلا باس بسجن الحليق إلى أن تكون لحيته قبضة يد، كما في جمهورية طالبان الإسلامية في أفغانستان، أو ذبح (العصاة) من أبناء الوطن في الجزائر، أو تفجير المجمعات السياحية كما في مصر، أو (يجوز قتل الترس ففي ذلك مصلحة كلية وجزئية) كما في العراق، والترس من يتترس بهم العدو، من حلاقين في محلاتهم، أهل الأفران في مخابزهم، والأساتذة في جامعاتهم، أو أعمال البناء في أماكن تجمعاتهم... وهكذا دواليك، وقتلهم مباح، ويتم وفق الطريقة الإسلامية، قطع رؤوس، وبقر بطون، وتمثيل بالجثث.

وهذا العنف ناشئ من إفلاس فكري متوهم بامتلاك الحقيقة المطلقة، ينتج نكوصها إلى البدائية في الرد على الرأي الآخر، لذلك فهو إلغاء وتهميش حاد للثقافات الأخرى، وهو في هذه الحالة لا يختلف جوهريا عن الأيديولوجيات الشمولية التي غص بها العالم الثالث، وان تلفعت بألف بزة تقدمية ومظهر متطور.

وقبل الانتقال إلى فقرة المشروع القومي لا بد من الإشارة إلى أن العراق حالة استثنائية عربيا في مجال المشروع الديني، حيث الأغلبية الشيعية التي تتوفر لها مرجعية دينية مقرها النجف الأشراف، (إن الظاهرة الوحيدة الجديرة بالانتباه تتصل بالإسلاميين العراقيين، إذ وفرت لهم عبقرية محمد باقر الصدر إجابات على أسئلة متواترة، وقدم هذا المفكر لحركته ما قدمه سيد قطب للإخوان المسلمين، وبليخانوف للشيوعيين، والحصري للقوميين، سوى فرق واضح أن الإسلاميين العراقيين من جميع التيارات السياسية قد تمتعوا بمفكر عراقي، وهو الأمر الذي لم يحصل لمنتسبي التيارات السياسية الأخرى التي بقي مفكروها اسما كبيرا، ولكن من خارج العراق) (1).

وأخيرا المشروع القومي الشوفيني الذي تزعمه ساطع الحصري، وكان للعراق فيه حصة كبيرة، فقد تمثل الحصري بالشخصية العلمانية حين أقصى الإسلام عن برامج التعليم باعتباره مديرا للتعليم العام في وزارة المعارف العراقية، ولكنه تصرف بشوفينية حين رفض فتح مدرسة للمعلمين في الحلة لكي لا يستفيد منها الشيعة العراقيين، كما رفض فتح مدرسة للمعلمين في الموصل لكي لا يستفيد منها المسيحيون، وكأنهم نزلاء طارئون على بلدهم، كما صرح بذلك في مذكراته التي كشفت عن شخصية هشة و (عقلية عثمانية) ليست هي بالحجم الذي قدمته لنا الكتب المدرسية وبعض المصادر القومية.

مع انه استلهم أفكار الكتاب الألمان، واعجب بفخته وهرود وموريس ارنت وماكس نورداو، فاستنسخ أفكارهم، إلا انه لم يقف حيث وقف كل منهم أمام آداب أمته ولغته، فعاش الحصري قوميا بلا تراث قومي، وعربيا بلا لغة عربية.

وانه خلال ستين عاما لم يستشهد مرة بحادثة من التراث العربي، ولم يرد في كتاباته بيت من شعر العرب ولا آية قرآنية، ولا عرف حديثا للنبي (ص).

 (وعندي أن عروبة المفكر الإسلامي الهندي محمد إقبال أوضح أسمى واصدق وانظف من قومية المفكر الحصري في فهمه لتاريخ العرب، والدفاع عن مصالح العرب، اسمعه يقول:

أنا أعجمي اللون لكن خمرتـي

كرم الحجاز ونبعها الفينان

إن كان لي نغم الهنود ولحنهم

لكن هذا الصوت من عدنان (2)

وتبعا لذلك نشأ الفكر قومي غرائزي غير معقلن فكريا، طائفي المسار سياسيا، يستخف ويزدري بأغلبية الشعب العراقي من عرب الجنوب وأكراد الشمال فضلا عن المسيحيين وغيرهم من مكونات الشعب العراقي.

أما على المستوى العربي فنجد أن الأقطار ذات التوجه القومي هي النموذج الأمثل للنظام الشمولي والاستبداد والنمو البطيء على مختلف الأصعدة.


الهوامش:

1- عدنان الأمير بقية الصوت دمشق دار المدى 2000م.

2- المصدر نفسه.

الاولى

جريمة تدمير ضريحي الإمامين

الاساءة ملة واحدة

رؤية مقترحة للتعاطي مع نزعة التجاوز

إطلالة على سامراء التاريخية

لمحات من سيرة الامامين العسكريين (ع)

قطاف الكلام

التنوير العراقي بين جدلية الدولة

الإصلاح المنقوص

مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي

التسامح الديني في الإسلام

لغة الارقام

غرانيق في سماء الاستشراق

حوار مع الاستاذ زكي الميلاد

حرب قصف العقول وكسب القلوب

إشكالية الديمقراطية

المجتمع المدني الكوكبي

واحة الحياة

الأ بعاد الروحية للشعائر الإسلامية

واقعة كربلاء.. سفر الخلود

عاشوراء في الذاكرة

سيادة الحق والعدل الاجتماعي

علوم وتقنية

الوعي والثقافة القانونية

اثر السنة والشخصية

محمد علي شمس الدّين وألـفـة المكان الشّعري

شعر اقباسك طاهرة

مذكرات من جنوب العراق

إذا قام الإسلام في العراق للإمام الشيرازي

اصدارات

متابعات

الاخيرة  

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا