الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا

المجتمع المدني الكوكبي

الشيخ علي عبد الحسين كمونة

اكتسب المجتمع المدني في السنوات الأخيرة أهمية كبرى في مجال السياسات الدولية وبخاصة بعد الأحداث العنيفة والتظاهرات الصاخبة التي صاحبت انعقاد بعض المؤتمرات الدولية حول الأوضاع الاقتصادية والسياسية في العالم كما حدث في سياتل وغيرها من المدن.

ومع انه لا يكاد يوجد شك حول الدور المهم الذي يضطلع به المجتمع المدني في الدول المتقدمة أو الدور الذي يمكن أن يقوم به في التعريف بأصول ومبادئ الديمقراطية التي يجب أن تسود مجتمعات العالم الثالث، فإن ثمة بعض التساؤلات إن لم يكن الشكوك حول مدى أحقية كثير من المؤسسات المدنية في الادعاء بأنها تتكلم باسم المجتمع المدني، وتزعم أنها تمثل شرائح أو فئات معينة من الناس، وتعطي نفسها الحق في الدفاع عن مصالحهم والمطالبة بحقوقهم، إلا أن هذه التساؤلات والشكوك لا تمنع من أن المجتمع المدني يحقق وبصفة مطردة مكاسب متزايدة في مجال توجيه السياسات العالمية، وان آراء ومواقف مؤسساته تؤخذ بعين الاعتبار بشكل صريح أو مستتر أثناء مناقشة القوانين والتشريعات والاتفاقات الدولية، وذلك على الرغم من أن المجتمع الدولي ليس في ظاهره على الأقل سوى مجرد شبكة من العلاقات والروابط والارتباطات غير الرسمية التي أفلحت في أن تؤلف كيانا مستقلا ومتمايزا عن النظم الحكومية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى المهيمنة على سياسات واقتصاديات العالم.

ويبدو أن فكرة المجتمع المدني أصابها بمرور الزمن شيء من التراجع نتيجة لتغير الظروف والأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم. ولكن لم يلبث الاهتمام بأحياء الفكرة والمفهوم إن عاد بعد الحرب العالمية الثانية، وبلغ ذلك الاهتمام ذروته ابتداء من التسعينات نتيجة لازدياد الاتجاه نحو الديمقراطية وتمرد الشعوب على الحكومات الديكتاتورية ونظم الحكم الشمولي بكل ما ينطوي عليه من طغيان وفساد. بل إن فقدان الثقة في بعض الحكومات الديمقراطية، والشعور بالإحباط العام من هذه السياسات التعسفية ونمو شعور التمرد ضد ابتزاز الشركات الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال الضخمة واستغلالهم لطبقات الشعب الفقيرة، أسهمت هي أيضا في إثارة الاهتمام من جديد بالمجتمع المدني ومؤسساته كأداة للتجديد الاجتماعي. وساعد على انتشار هذا الشعور في كل أنحاء العالم الثورة المعلوماتية التي أتاحت الفرصة لتوافق وتقارب الآراء وأضفت من ثم على المواطنين والأهالي في كل أنحاء العالم قوة وفاعلية لم يكونوا يتمتعون بهما من قبل حتى في المجتمعات المتقدمة. فالمجتمع المدني على هذا الأساس هو تصور أو مفهوم اكبر وأوسع وأعمق من الدولة ويرتكز على أسس أخلاقية وإنسانية اسبق في وجودها على قيام الدولة كتنظيم سياسي.

لقد حققت مؤسسات المجتمع المدني المتمثلة في المنظمات الأهلية غير الحكومية كثيرا من النتائج الباهرة في عدد من المجالات الحيوية التي لها صلة مباشرة بحياة الإنسان، مثل مشكلات البيئة وحقوق الإنسان وبخاصة فيما يتعلق بالتمييز العرقي حقوق الأقليات ووضع المرأة وحماية المستهلك والتصدي للفساد وغيرها. ولكن هذا لا يعني أن المجتمع المدني مرادف للجمعيات الأهلية أو اللاحكومية العاملة في هذه المجالات وحدها، فالمفهوم أوسع من هذا بكثير ويشمل (كما يرى الكثيرون) كل التنظيمات والمؤسسات المستقلة عن الدولة بما في ذلك الأحزاب السياسية والنقابات والاتحادات العمالية والمهنية بل والنوادي الرياضية والاجتماعية واتحادات الطلاب والمؤسسات الثقافية والأكاديمية والتنظيمات الدينية والحركات والفعاليات الاجتماعية، مما يدل على مدى اتساع وتنوع الأنشطة والخدمات التي يقوم بها المجتمع المدني والدور الذي يؤديه للارتقاء بأعضاء المجتمع والجنس البشري بوجه عام، وذلك فضلا عن دوره في ممارسة الضغوط على الدولة للاهتمام بتلك الأمور إلى جانب المطالبة باسم الشعوب بالمشاركة في اتخاذ القرار وتنفيذه تحقيقا لمبادئ الديمقراطية وأصول الحكم الديمقراطي.

فأنشطة المجتمع المدني أنشطة طوعية تختلف من هذه الناحية اختلافا جوهريا عن أنشطة الحكومات، كما إنها تختلف عن الأنشطة الاقتصادية والمالية المتعلقة بأخلاقيات السوق لأنها تبحث وراء الخير والصالح العام وليس وراء الربح المادي، ولذا فكثيرا ما يشار إلى المجتمع المدني بأنه (القطاع الثالث).

ولكن الأمر قد يبدو مختلفا عن ذلك تماما في رأي بعض الباحثين في شؤون المجتمع المدني والمهتمين بما سوف يكون عليه الوضع في المستقبل، خاصة أن هناك بعض الدلائل التي تؤخذ كمؤشرات على تراجع المجتمع المدني في دول العالم، ويرد هؤلاء الباحثون المتشككون حول مستقبل المجتمع المدني تخوفهم إلى التغيرات التي طرأت على مواقف بعض الحكومات من الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعتبر أمورا عادية ومألوفة ومباحة في الحياة اليومية، وتدخل الحكومة المتزايد في ملاحقة أصحاب الفكر المتحرر أو المناوئ للسياسات الحكومية وحجب كثير من المعلومات التي تعتقد الحكومة أنها في غير صالح كبار المسؤولين وأصحاب القرار وتقليص أنشطة القطاعات الطوعية عما كان عليه الحال حتى عهد غير بعيد، وخفض تمويل الدولة للجمعيات الأهلية لممارسة أنشطتها المختلفة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية وغيرها كل ذلك يثير الخوف لدى بعض المتشككين من تراجع دور المجتمع المدني، وبالرغم من أن هذه الانطباعات لا تستند إلى وقائع دقيقة ولكنها انطباعات لها دلالاتها ومؤشراتها، كذلك يجب أن نلاحظ أن مؤسسات المجتمع المدني في كثير من دول العالم تعاني شيئا من القصور في أدائها وإنها كثيرا ما تخرج أو تنحرف عن متابعة وتحقيق الأهداف التي قامت من أجلها. فالكثير من منظمات الشباب تقصر نشاطها الآن على البرامج الترفيهية متناسية رسالتها الأساسية نحو تكوين أجيال من المواطنين الصالحين القادرين على العمل من اجل الارتفاع بمستواهم الشخصي ومستوى الوطن ثقافيا واجتماعيا وأخلاقيا، والكثير أيضا من مؤسسات الإعلام الجماهيري أصبحت اكثر ميلا إلى تقديم البرامج والمعلومات السطحية الهزيلة التي تداعب المشاعر والعواطف والغرائز بدلا من تقديم برامج جادة عميقة تثير الفكر وتعرض بالتحليل المشكلات الحياتية الكبرى.

والشيء نفسه يمكن أن يقال عن الأحزاب السياسية بل وعن التنظيمات الدينية التي قد تدعو إلى التعصب وكراهية العقائد الأخرى بدلا من أن تحمل رسالة التسامح والسلام، وهذه كلها أمور وأوضاع من شأنها أن تثير الشكوك حول مستقبل المجتمع المدني ومدى قدرته على الصمود بالرغم من كل ما يقال حول ضرورة تفعيل مؤسساته والتغني بميزاته ودوره في إرساء قواعد الديمقراطية الصحيحة والسليمة.

وعلى ذلك فانه بصرف النظر عما يثيره من شكوك أعداء ومناوئو المجتمع المدني الذين يرون فيه تهديدا لمصالحهم الخاصة، وبصرف النظر أيضا عما يعتري بعض المنظمات غير الحكومية وبعض مؤسسات المجتمع المدني من قصور وانحراف عن الهدف فان الدعوة إلى تقوية هذا المجتمع تلقى كثيرا من الترحيب والتأييد ليس فقط من شعوب العالم فقط بل ومن بعض المؤسسات الدولية أيضا وكذلك من بعض الشركات الكبرى التي قد تتعارض مصالحها الاقتصادية الخاصة مع المبادئ والقيم التي ينادي بها المجتمع المدني.فالبنك الدولي على سبيل المثال طلب من مجموعة العمل الخاصة بالجمعيات الطوعية دراسة افضل الطرق لتطوير العلاقة بين البنك والمجتمع المدني مع تحديد الدور المستقبلي الذي يمكن أن يقوم به البنك في مجال التعاون مع المؤسسات والمنظمات غير الحكومية وخطوات تنفيذ هذا التعاون.

وهذا احد الأمثلة على ارتفاع الأصوات التي تنادي بضرورة نبذ نمط التفكير الذي يشايع ويؤيد فكرة الحكومة التي تعمل بمعزل عن جماعة المواطنين، كما تشير إلى ازدياد الاتجاه نحو المشاركة في التنظيمات المدنية على كل المستويات وانه يجب النظر إلى المجتمع المدني كمشارك أو شريك وليس كبديل عن الأجهزة الحكومية.

لقد اصبح من الواضح الآن أن مصير العالم لم يعد رهينة الصراع بين القوى العظمى التقليدية والمعروفة للجميع (الدول العظمى) بل إن هناك قوة عالمية ثالثة لها القدرة على التصدي لنفوذ وهيمنة قادة العالم السياسيين والاقتصاديين والحد من هذا النفوذ وتلك الهيمنة، وهذه القوة الثالثة هي المجتمع المدني الذي بدأ يوحد صفوفه على مستوى العالم ويتخذ بذلك طابعا عالميا تتكتل تحته المنظمات والمؤسسات والجمعيات والاتحادات وكل التنظيمات غير الحكومية في كل أنحاء العالم بحيث ظهر تعبير جديد يعبر عن واقع الحال وهو المجتمع المدني الكوكبي.

وقد عمدت منظمات المجتمع المدني الكوكبي في تنظيم علاقتها وتوحيد مواقفها وحملاتها منذ عام 1988 إلى الاعتماد على شبكات الانترنيت وكان لذلك أثره في تجمع الصفوف بحيث شارك في مسيرات الاحتجاج الجماعي ضد منظمة التجارة العالمية أثناء مؤتمر سياتل أكثر من خمسين ألف ناشط من مختلف دول العالم وكان يقف وراءهم بغير شك ملايين من الناشطين الآخرين الذين لم يتمكنوا من الذهاب بأنفسهم إلى مقر انعقاد المؤتمر.

والجديد والمهم هو الأسلوب المبتكر في التواصل وتبادل الأخبار والمعلومات من خلال الانترنيت، فعصر المعلومات يهيئ الفرصة إذن لقيام مجتمع مدني عالمي أو كوكبي يمثل ملايين البشر الذين ينتمون إلى عدد كبير جدا من المنظمات والمؤسسات والجمعيات غير الحكومية ذات الطابع العالمي والعابرة لكل الحدود الدولية والإقليمية.

ويبدوان القادة السياسيين والاقتصاديين في الدول الكبرى وفي المنظمات العالمية المهيمنة اصبحوا الآن أمام أحد أمرين لا ثالث لهما فأما أن يتقبلوا المجتمع المدني الكوكبي بكل متطلباته ويعملوا على تنفيذ ما هو معقول ومشروع منها بعد التفاوض والاتفاق وبما يحقق الصالح العام للجنس البشري، وأما أن يتجاهلوا هذا المجتمع المدني الكوكبي ويسقطوا من اعتبارهم ما يتقدم به من مطالب ومشروعات وما يعرضه من آراء وفي ذلك خطورة كبرى على بقائهم هم أنفسهم وعلى استمرار منظماتهم ومؤسساتهم الدولية الكبرى في الوجود.


* (نص الكلمة التي ألقاها الشيخ علي عبد الحسين كمونة في المؤتمر الأول لمنظمات المجتمع المدني في كربلاء المقدسة)

الاولى

جريمة تدمير ضريحي الإمامين

الاساءة ملة واحدة

رؤية مقترحة للتعاطي مع نزعة التجاوز

إطلالة على سامراء التاريخية

لمحات من سيرة الامامين العسكريين (ع)

قطاف الكلام

التنوير العراقي بين جدلية الدولة

الإصلاح المنقوص

مفهومية التنوير في فكر الامام الشيرازي

التسامح الديني في الإسلام

لغة الارقام

غرانيق في سماء الاستشراق

حوار مع الاستاذ زكي الميلاد

حرب قصف العقول وكسب القلوب

إشكالية الديمقراطية

المجتمع المدني الكوكبي

واحة الحياة

الأ بعاد الروحية للشعائر الإسلامية

واقعة كربلاء.. سفر الخلود

عاشوراء في الذاكرة

سيادة الحق والعدل الاجتماعي

علوم وتقنية

الوعي والثقافة القانونية

اثر السنة والشخصية

محمد علي شمس الدّين وألـفـة المكان الشّعري

شعر اقباسك طاهرة

مذكرات من جنوب العراق

إذا قام الإسلام في العراق للإمام الشيرازي

اصدارات

متابعات

الاخيرة  

الصفحة الرئيسية

الأعــداد السابقــة

فهرست العــدد

إتصــلوا بـنـــا