الوصول إلى النجاح والتفوّق، وإرضاء الله والناس جميعًا، يتوقّف على توفير عنصرين: غيبيّ وظاهريّ؛ فلو اجتمعا، نجحنا وتميّزنا وتفوّقنا وأفلحنا، وكسبنا الذِّكر الحسن دون شكّ، إنّ الخدمة وقضاء الحوائج والإحسان، تعتبر من أهم الاستراتيجيات التي توفّر العامل الغيبيّ للنجاح والتميز ورضا الله تعالى، وتضمن البركة في الأعمال والأنشطة والمؤسّسات...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّ هذا أَخي‏ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنيها وَعَزَّني‏ فِي الْخِطابِ * قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى‏ نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي‏ بَعْضُهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَليلٌ ما هُمْ)[1].

وقال جل اسمه: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[2].

الأسئلة الأربعة

الحديث يدور حول الإجابة على الأسئلة الأربعة التي لا بُدّ أنّها تُؤرّق كلَّ إنسان في فترةٍ من فترات حياته، ولعلّها تُؤرّق بعض الناس طوال حياتهم، وهي:

1- كيف يمكننا أن ننجح في أعمالنا كلّها، سواء أكنّا أطباءً، أم مهندسين، أم محامين، أم صحفيّين، أم مزارعين، أم تجّارًا، أم موظفين، أم أساتذة جامعة، أم أساتذة حوزة، أم خطباء ومؤلّفين ومربّين ومبلّغين ومؤسّسين ومدراء... إلخ؟

2- كيف يمكننا أن نتميّز ونتفوّق على الآخرين وعلى جميع المنافسين؟

3-4- كيف يمكننا أن نُرضي الله تعالى والناس جميعًا؟

كيف يمكن تحقيق هذه الأهداف الأربعة في وقتٍ واحد، في أيّ عملٍ دخلنا فيه، أو نشاطٍ اضطلعنا به، أو أيّة صنعةٍ أو حِرْفةٍ امتهنّاها؟

والجواب عن ذلك: إنّ الوصول إلى النجاح والتفوّق، وإرضاء الله والناس جميعًا، يتوقّف على توفير عنصرين: غيبيّ وظاهريّ؛ فلو اجتمعا، نجحنا وتميّزنا وتفوّقنا وأفلحنا، وكسبنا الذِّكر الحسن دون شكّ، وسنشير إليهما في فصلين:

الفصل الأول: شروط النجاح والتفوق الغيبية

إنّ الخدمة وقضاء الحوائج والإحسان، تعتبر من أهم الاستراتيجيات التي توفّر العامل الغيبيّ للنجاح والتميز ورضا الله تعالى، وتضمن البركة في الأعمال والأنشطة والمؤسّسات والشركات، كما تستحوذ على رضا الناس دون شكّ؛ إذ الناس يُحبّون العالِم، ورجل الأعمال، والطبيب، والمزارع، والشاب... إلخ، الذي يخدم متطوّعًا، ويقضي حوائجهم مسارعًا، ويُحسن إليهم متواضعًا.

ويدلّ على ذلك الحديث الآتي، فقد ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق (عليه السلام): (تَنَافَسُوا فِي‏ الْمَعْرُوفِ‏ لِإِخْوَانِكُمْ، وَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنَّ لِلْجَنَّةِ بَاباً يُقَالُ لَهُ – الْمَعْرُوفُ، لَا يَدْخُلُهُ إِلَّا مَنِ اصْطَنَعَ الْمَعْرُوفَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَمْشِي فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُوَكِّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلَكَيْنِ: وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ، وَآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، يَسْتَغْفِرَانِ لَهُ رَبَّهُ، وَيَدْعُوَانِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ، لَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَسَرُّ بِقَضَاءِ حَاجَةِ الْمُؤْمِنِ إِذَا وَصَلَتْ إِلَيْهِ مِنْ صَاحِبِ الْحَاجَةِ)[3].

والحديث يتركّب من مقاطع ثلاثة:

المجتمع المتنافس

1- (تَنَافَسُوا فِي‏ الْمَعْرُوفِ) ولنتصوّر أنّ المجتمع كلّه (أو العشيرة، أو الحزب، أو المؤسّسة، كلٌّ في حدوده)، لو تحوّل إلى مجتمع متنافس في أعمال البرّ، والمعروف ومعونة بعضهم بعضاً، فأيّة جنّة كانت ستكون الأرض؟! أو أيّة سعادة كانت ستُخيّم على اتباع تلك المرجعية أو على التيار أو الحزب أو العشيرة التي تلتزم بذلك؟!

ذلك أنّ التنافس في المعروف يعني أنّك إذا وجدتَ أخاك أو جارك أو زميلك أو الجمعية أو المنظمة الفلانية قد تَكفّلت مثلاً عشرة أيتام (من أمواله، أو عبر التوسّط وتشويق هذا وذاك)، فتسعى أنت، أو جمعيتك ومنظمتك، لتتكفّل عشرين، ويسعى ابن عمّك ليتكفّل ثلاثين... وهكذا، وتعود حلقات السلسلة، ليسعى الأوّل ليتفوّق على من تفوّق عليه... وهكذا الحال في التنافس على إغاثة الفقراء، وتزويج العزّاب والعازبات، وقضاء ديون الناس، وبناء المساجد والحُسينيّات والمكتبات والمدارس والمياتم ودُور الضيافة... إلخ، وكذلك إصلاح ذات البين، فلو أصلح صاحبك أو مؤسسته في هذا الأسبوع بين شخصين في قضيّة، أو زوّج شخصين، تسعى ومؤسستك للإصلاح بين مجاميع أكثر... وهكذا.

من فقه اصطناع المعروف

وقوله: (اصْطَنَعَ الْمَعْرُوفَ) ذو دلالة بالغة؛ فإنّ (اصْطَنَعَ) تتميز على (صنع)، فإنّ زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى، وباب الافتعال يدلّ على بذل الجهد وتجشّم العناء في تحصيل المطلوب والمقصود، فإن اكتسب العلم، تعني: بذل جهدًا حتّى كسبه، وكذا اكتسب المال، عكس كسب... وهكذا المعروف، عليك أن تقوم به وإن كلّفك جهداً ووقتاً ومالاً، وباب المعروف مخصّص لمن يبذلون الجهد، كماء الوجه في الوساطة لدى هذا وذاك، خاصةً وأنّ بعض المسؤولين أو الأثرياء يستخفّ بالوسطاء، بل قد يهتك حرمة الوسيط، أو على الأقل يهمله، أو يتجاهله، ومن الجهد الركض في مختلف دوائر الحكومة لإنجاح معاملة شخص مؤمن ومطلق السعي الحثيث لإنجاح أعمال الآخرين.

2- (فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَمْشِي فِي حَاجَةِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، فَيُوَكِّلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلَكَيْنِ: وَاحِداً عَنْ يَمِينِهِ، وَآخَرَ عَنْ شِمَالِهِ، يَسْتَغْفِرَانِ لَهُ رَبَّهُ، وَيَدْعُوَانِ بِقَضَاءِ حَاجَتِهِ...).

وهنا تكمن البركة والجوانب الغيبية، إذ إنّه إذا مشى في حوائج الناس، وكّل الله به ملكين يستغفران له (فيرضى عنه الله تعالى)، ويدعوان له بقضاء حوائجه (فتتيسّر له أعماله، وتَتذلّل له العقبات التي تحول دون نجاحه في مَعمله، أو مصنعه، أو مؤسّسته، أو خطابته، أو تدريسه...).

الرسول (صلى الله عليه وآله) أَسَرُّ بقضاء حاجة المؤمن، منه!

3- والغريب أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يَسَرُّ بقضاء أيّ واحدٍ منّا لحاجة أيّ مؤمن، أكثر من أن يُسرّ بها صاحب الحاجة نفسه!، فلو سعيتَ لإطلاق سراح مسجون فأطلقته، أو في تزويج أعزب أو عزباء فزوّجته أو زوجتها، أو في بناء دارٍ لفقيرٍ أو يتيمٍ فبنيتها، فمهما بلغ سرور صاحب الحاجة بذلك، فإنّ سرور رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يكون أعظم وأعمق.

والسّرّ في ذلك هو قوله تعالى: (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَريصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنينَ رَؤُفٌ رَحيمٌ)[4]، وأنه الوالد الرحيم، والأب الشفيق وأكثر، وقد ورد: (الْإِمَامُ الْأَنِيسُ الرَّفِيقُ، وَالْوَالِدُ الشَّفِيقُ، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ، وَالْأُمُّ الْبَرَّةُ بِالْوَلَدِ الصَّغِيرِ، وَمَفْزَعُ الْعِبَادِ فِي الدَّاهِيَةِ النَّآدِ.

الْإِمَامُ أَمِينُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَحُجَّتُهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَخَلِيفَتُهُ فِي بِلَادِهِ، وَالدَّاعِي إِلَى اللَّهِ، وَالذَّابُّ عَنْ حُرَمِ اللَّهِ.

الْإِمَامُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُبَرَّأُ عَنِ الْعُيُوبِ، الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ، الْمَوْسُومُ بِالْحِلْمِ، نِظَامُ الدِّينِ، وَعِزُّ الْمُسْلِمِينَ، وَغَيْظُ الْمُنَافِقِينَ، وَبَوَارُ الْكَافِرِينَ...)[5].

ومن أروع القصص في هذا الحقل، القصتان التاليتان:

تاجر يتبرع بحديد جميع المساجد والحسينيات!

الأولى: إنّ أحد التُجّار في إحدى المدن المهمّة ذات الملايين من النفوس، كان يمتلك مصانع صلب وحديد، فأخذ على نفسه أن يتبرّع لكل مسجد يُبنى أو حسينية تُبنى في تلك البلدة، بالحديد كلّه، (والذي يُكلّف قسطًا كبيرًا جدًّا من حجم أجور البناء)، وأعلن عن ذلك... وتتالت عليه الطلبات...

والرائع في الأمر أنه وفى بوعده والتزم بكلمته... وقد بُنيت المئات من المساجد والحسينيات وشُيِّدت طوال عدّة عقود، وحديدها بأكمله من تبرّع هذا الرجل، وقد بارك الله في أعماله ومصانعه، فتطوّرت وازدهرت.

والغريب: أنّه منذ أن توفّي قبل حوالي خمسين سنة وإلى الآن، فإن أولاده ثمّ أحفاده استمرّوا على المنهج نفسه حسب وصيّته مع أنه يقلّ أن يكون الأبناء فالأحفاد كالأب في التقوى والصلاح والبذل والعطاء... والغريب أيضًا: أنّ المصانع والمعامل والشركات، في بلادنا، عادةً تضعف إن لم تُغلق تمامًا بعد وفاة المؤسّس الرائد، الذي يتميّز عادةً بكفاءات استثنائيّة حيث صنع من الصفر مصانع ناجحة إلا أنّ الأبناء عادةً ليسوا بتلك الكفاءة، فإن كانوا كذلك، فإن الأحفاد ليسوا بتلك الكفاءة.

ولكنّ الله تعالى، وكجزء من الأجر على صلاحه وعطائه، بارك في أعماله ومصانعه وأولاده وأحفاده، حتى استمرّت مصانعه ناجحة حتّى يومنا هذا، وقد استمرّت بتزويد كل حسينيّة جديدة أو مسجد جديد، بالحديد!

وهذا يعني أنّ عامل الغيب قد يتدخّل وبوضوح لصالح من يعمل الصالحات، ليكون ناجحاً في دنياه ومفلحاً في آخرته كذلك.

تاجر مشهور بالبخل الشديد، يكتشف الناس انه قديس!

الثانية: عن أحد العلماء في مدينة أصفهان، المشهور بقضائه لحوائج الناس، في مقابل أحد كبار التُجّار المشهور ببُخله الشديد جدًّا.

والقصة هي: إنّ أحد كبار التُجّار كان معروفًا بالبخل، فلم يكن يقصده صاحب حاجةٍ إلا ورفض مساعدته، سواء أكان فقيرًا، أم يتيمًا، أم أرملة، وسواء أكان المبلغ الذي يحتاجه قليلاً أم كثيرًا، حتى أصبح حديث المجالس في بخله... وساءت سُمعته لدى الناس... ولعلّه أصبح مكروهًا، يُتندَّر به في المحافل.

وفي المقابل، كان أشهر علماء أصفهان، وهو السيد حسين الخادمي (وإلى جوار السيد عبد الحسين الطيب) الذي توفّي سنة 1405هـ (أي قبل 41 سنة)، معروفًا بتأسيسه المؤسّسات، وقضائه لحوائج الناس، وتكفّله للفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، إضافة إلى إدارة شؤون الحوزة والطلاب[6].. وكان العديد من الناس يضغط على السيّدَين ليُحدّثا ذلك التاجر وينصحاه، لكن الجواب كان من قبيل: إنّ الكلام معه لا يُغيّر من الواقع شيئًا! (وكانت في العبارة تورية خفيّة لا يفطن لها إلا من يعرف واقع الحال، ولكنّ واقع الحال لم يكن يعرفه أحد!).

ومضت السُّنون، والناس تنتقِصُ من ذلك التاجر في كلّ مكان، ولكنه كان كالجبل الراسخ، لا يلين أبدًا، ولا يُغيّر من سيرته أصلًا!

ثم توفّي التاجر... فلم يحضر جنازته إلّا القليل جدًّا من الناس، نظرًا لبُخله الشديد.

لكنّ السيد الخادمي أبلى بلاءً حسنًا في تشييع الرجل، حتى لحده في قبره، ممّا أثار استغراب الكثيرين!

وهنا كانت المفاجأة: فقد أخبر السيد بعد وفاة هذا التاجر، أنّ هذا التاجر (المشهور بالبُخل)، كان في الواقع هو المصدر الأكبر لتمويل جميع أعماله الخيرية، من رعاية أيتام، ومساكين، وبناء مساجد، ومكتبات، وإدارة شؤون الحوزة... إلخ.

ولكنّ السبب الأساس في الكتمان المطلق، هو أنّ ذلك التاجر كان قد أخذ على السيّد العهود والمواثيق، بأن لا يُخبِر أحدًا بأنّه يدفع له شيئًا، وأن يتكتّم على الأمر أشدّ التكتّم، وأنّه يحتسب كلام الناس ضدّه، في ميزان أعماله... إذ كان ذلك التاجر يؤمن بصدقة السرّ، وبأن لا يُخالط عمله رياءٌ أو سُمعة أبدًا... لذا ابتكر هذه الطريقة الفريدة.

وكم حزن الناس إذ علموا ذلك... وكم ترحّموا عليه... والأهم من ذلك كله: أنّه نال رضا الله سبحانه... كما أنّ الله تعالى بارك في أسرته وفي أمواله، إذ كانت تزيد ولا تنقص، رغم ضخامة ما كان يدفعه للسيّد.

وموطن الشاهد: أنّ التُجّار، بل وعامّة الناس، لو تعلّموا من هذا التاجر منطق الإعطاء والبذل بدون حدود، ومن دون توقّعٍ لأي مردود اجتماعي أو غيره أبدًا، إلّا رضا الله تعالى وبركة صاحب الأمر (عجّل الله فرجه الشريف)... وأنّهم جميعًا، لو انتهجوا منهج: (تَنَافَسُوا فِي‏ الْمَعْرُوفِ‏ لِإِخْوَانِكُمْ، وَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ)، واتخذوا مسيرة المشي في حوائج المؤمنين دأباً وديدناً، أما كانت الأرض، أو تلك البلدة أو الجماعة التي تلتزم بهذا المنهج، تتحوّل إلى جنّة غنّاء؟ وأما كان كلّ واحدٍ من أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ينجح في أعماله: إمّا بجهده لو أمكنه، أو بمؤازرة إخوته المؤمنين لو لم يمكنه أو متى ما تعثر؟

الفصل الثاني: شروط النجاح والتفوّق: الانضباط والإنتاجية و...

إنّ شروط نجاح أيّ إنسان في أيّ عمل يدخل فيه، سواء أكان تجارةً، أم زراعةً، أم صناعةً، أم فتح مطب ومصنع ومعمل، أم تدريسًا وخطابةً وتربيةً، أم تأسيس مؤسسات... إلخ، من الناحية الظاهرية هي: العمل الشاق، والانضباط، وزيادة الإنتاجية، وغير ذلك ممّا سيأتي.

وعلينا أن نعتبر من الآخرين، ومن الأمم المتطوّرة التي إنّما تطوّرت، ظاهريًّا، بسبب هذه العوامل الثلاثة الأساسيّة.

القيم البروتستانتية وراء صعود الحضارة الغربية

ولنستعرض هنا حالة الحضارة الغربية ماضياً وحاضراً، حيث كان الغربيّون في العصور الوسطى في أدنى درجات سُلّم الحضارات، وكانوا يعيشون التخلّف الكبير والجهل والتشرذم، وكان المسلمون في الأندلس هم أكثر دول العالم تطوّرًا، حتى كان الغربيّون يتوافدون إلى جامعات الأندلس للتزوّد من علوم المسلمين في الفيزياء، والكيمياء، والصناعة... إلخ، الأمر الذي يحدث عكسه الآن،...

ولكنّ الذي حدث أنّه في القرن السادس عشر، الـمُسمّى بـعصر الإصلاح الديني، نفخت البروتستانتية في نفوس المسيحيّين هذه المبادئ الثلاثة، حيث ساهمت الأخلاق البروتستانتية، خاصة الكالفينية، في تعزيز قيم العمل الشاق أو الجاد، والانضباط، والتقشّف وعدم الإسراف، وفي المقابل الادخار الفعّال لبناء رأس مال يصلح للاستثمار في مشاريع مستقبلية، واعدة، بدلاً من الاستهلاك الـمُفرِط.

وبذلك، دعمت السياسات الرأسمالية التي شجّعت بقوّة على مبادئ الحرية الفردية والمبادرة، وعلى حرّية السوق المتحرّرة من التدخّل الحكومي، وذلك كلّه لزيادة الإنتاج من جهة، وزيادة الإنتاجيّة من جهةٍ أخرى، والتي تعني الحصول على كميّات أكبر أو أفضل من المخرجات من نفس المدخلات السابقة، فلو كنت تحصل على طنٍّ من البرتقال مثلًا من هذه المزرعة، فإنّ زيادة الإنتاجيّة تعني أن تحصل من نفس هذه المزرعة على طنَّين من البرتقال، عبر تحسين جودة التربة، وجودة الريّ، وجودة الأسمدة الكيماويّة، وجودة استخدام المبيدات الحشريّة، وشبه ذلك.

أو إذا كنت مؤلفاً تُنتج في 8 ساعات، 8 صفحات، فإنّ زيادة الإنتاجيّة تعني أن تُطوّر آليّاتك لكي تكتب في نفس الثماني ساعات 16 صفحة مثلًا، أو تكتب في نفس الـ 8 ساعات، 8 صفحات لكن بمستوى أرقى، عبر تطوير مهارات الكتابة، والتفكير، واستخدام أدوات تكنولوجيّة أرقى.

والعِبرة في الأمر: إنّ كلّ حضارة، أو أمة، أو شعب، أو تيّار، أو جماعة، أو مؤسّسة، أو أسرة، أو فرد أرادت النجاح والتفوق، فلا بدّ لها من التمسك بهذه القيم الثلاثة: العمل الجاد، الانضباط، زيادة الإنتاجيّة (عبر إلغاء الإسراف والتبذير، وعبر تحسين جودة العمل والتفكير... إلخ) - والتي سبق القرآن الكريم والروايات الشريفة إلى التأشير عليها والتأكيد عليها، كما سيأتي في مقال قادم بإذن الله تعالى.

فرجلُ الدين، على سبيل المثال، لا يمكن أن يصبح خطيبًا بارعًا، أو كاتبًا مرموقًا، أو أستاذًا مميزًا، أو داعيةً مُبرَّزًا على مستوى العالم، إلّا بـالدراسة والمطالعة الجادّة ليل نهار، والانضباط، بالالتزام بالمواعيد في أوقاتها، والسيطرة على شهوة النوم، والرغبة في الكَعدة، والنُزهة، واللاانضباط في المواعيد والبرامج وغيرها، وبزيادة الإنتاجيّة عبر مختلف السبل، كالتدريب على المطالعة السريعة (بشروطها، وقد كتبت فيها كتب)، والتدريب على طريقة التفكير السداسي الأبعاد (حسب نظرية القبعات الست)، والتقييم رباعي الأضلاع (عبر معادلة S.W.O.T) وغير ذلك.

وكذلك الطبيب، والمهندس، والمحامي، والمزارع، والمسؤول، وهكذا.

ولكن كيف تولدت الرأسمالية المتوحشة؟

ولكن، وفي المقابل، فإنّ الحضارة الغربيّة، المتأثّرة بقيم البروتستانتيّة السابقة، افتقدت قيمًا أخرى غاية في الأهميّة، لم تُعِره لها البروتستانتيّة بالًا؛ كالإحسان وقضاء حوائج الإنسان بما هو إنسان والعدالة الاجتماعية، وقد تحدّث عنها مفكّرو الغرب قبل غيرهم، ولأجل افتقادها اسموا الرأسمالية بالرأسماليّة المتوحّشة، حيث التركيز الـمُفرط على الأرباح على حساب الإنسان، وحيث تصنيم الحرية الفرديّة والسوق الحرّة، حتى لو أدّت، وهي عادةً تؤدّي، إلى سحق حقوق الآخرين، وإهمال التوزيع العادل للثروة، وشطب العدالة الاجتماعيّة، وحقوق العمال، والأجور العادلة من القائمة، ونظائرها...

ولا شكّ أن القوى الأخرى، الكاثوليكية مثلاً، كانت تدفع باتجاه هذه القيم، والصدقة على الفقراء، والإحسان، لسبب أو لآخر، (على تفصيل في الفرق بين الرؤوس الفاسدة الانتهازيّة، وملايين الأتباع الذين اقتنعوا بذلك وفعلوا) لكنّ قطار الحضارة الغربية مضى باتجاه منطق الغاب، بل نظّر منظّروهم الاقتصاديّون وقالوا: بإنّ الصدقة وأعمال الخير تشوّه الاقتصاد!، وأنّه: دَعْهُ يعمل، دَعْهُ يسير بلا حدود، ولا ضوابط، ولا كوابح...

ويكفي لنتعرّف على طريقة التفكير الغربيّة هذه (كي لا نُبتلى بمثلها، ونكتفي بتعلّم الإيجابيّات)، أن نقرأ كلمة تشرشل: (يجب أن يُعهد بالحكومات العالميّة إلى الأمم الشبعى، فهي لا تبغي لنفسها أكثر مما عندها!!. ولَئِن أضحت الحكومة العالميّة بين يدي الأمم الجوعى، لواجه العالم أخطارًا على الدوام...)[7].

وهذا مِثَل أن يقول الثريّ البرجوازيّ: دع مليارات أخرى تُضاف إلى أرصدتي الملياريّة كي أدّخرها، (فإني لا أبغي لنفسي أكثر مما عندي)، ولا تدعها تذهب إلى ملايين الفقراء الذين يكادون يموتون من الجوع، وإلّا لاشتروا بها أطعمة فأكلوها، فنفدت مليارات الدولارات، وانعدمت في أيام!

واللافت أنه يتحدث عن (الحكومة العالمية) التي يبدو أنهم كانوا يخططون لها منذ عشرات السنين والتي تسارعت خطواتها أخيراً أكثر فأكثر.

ويكفي أن نعرف أيضًا أن من نتائج محوريّة الأنا هذه، أن القرن العشرين شهد مقتل 187 مليون إنسان في الحربَين العالميّتَين أو بسببها ونظائرها.

مؤسس مدرسة شيكاغو يهودي يقف وراء منطق الغاب الاقتصادي

كما يكفي أن نعرف أن أهم مؤسّسي مدرسة شيكاغو الاقتصاديّة هم من اليهود ففي كتاب، "عقيدة الصدمة ورأسماليّة الكوارث"، يوثق الباحثان كيف قامت قوى الهيمنة الخفية الأميركيّة بتتويج مهندس التوحّش الرأسمالي، ملتون فريدمان، مؤسّس مدرسة شيكاغو، كواحد من أبطال أميركا، في قرار صدر عن الكونغرس وهو الذي شكّل مع سوروس، المعروف بكونه مهندس الثورات الملوّنة وفيلسوف البورصات (وكلاهما يهوديّ من أصول مجريّة) أخطر ثنائي يواجه حركات التحرّر في العالم كلّه – حسبما يقوله الكتاب.

وكما يقول بعض الباحثين: فقد ارتبط اسم فريدمان أولًا بـجامعة شيكاغو، قسم العلوم الاقتصاديّة، الذي تولّى إعداد موجات من خبراء الاقتصاد وصندوق النقد الدولي، لفرض الخصخصة وفلسفة السوق المطلقة المتوحّشة، الغابة، بمعنى الداروينيّة الاجتماعيّة والاختيار الطبيعي للأقوى. كما ارتبط هو وأستاذه وشريكه، فريدريك فون هايك، من المدرسة النمساويّة ثانيًا، بتيّارات مماثلة في جامعة هارفارد، وخصوصًا دانيال بيل.

ونالا، كلاهما، جائزة نوبل، بعد عام واحد من تأييدهما المذبحة الدمويّة التي قادها الانقلاب العسكري عام 1978 في تشيلي، بدعم وتدبير من الاستخبارات الأميركيّة وعدد من الشركات هناك.[8].

صعود ممثلي الشركات إلى سُلّم القيادة السياسية في أمريكا

ويكفي أن نعلم أيضاً ما ذكره الباحث من انه: مع صعود الولايات المتحدة بعيد الحرب العالمية الثانية، صعد ممثلو الشركات إلى القمة السياسية في واشنطن، مثل الأخوين دلاس في وزارة الخارجية وإدارة الاستخبارات. وكانا يديران مكاتب محاماة كبرى لشركات، مثل النيكل ومورغان وسوليفان.

- كان كسينجر الأبرز في تاريخ الخارجية الأميركية، في ملفات الصين والتحضير لكامب ديفيد والإشراف على أكثر من انقلاب عسكري دموي، كما حدث في تشيلي، وكان، في الوقت نفسه، يملك عدداً من الشركات، مثل شركة كسينجر أسوشيتس، ويمتلك حصصاً كبيرة في شركات كوكا كولا، وفيليور لإعادة الإعمار، وتريريم للخدمات الأمنية، وآي تي تي التي شاركت في انقلاب تشيلي المذكور.

- وزير خارجية آخر، هو جيمس بيكر، يملك شركة كبرى للمحاماة وتمثيل مصالح العائلة السعودية وشركة هاليبرتون، بالإضافة إلى حصص كبيرة في مجموعة كارلايل للأنظمة والاتصالات الدفاعية.

- الفريق الأميركي لغزو العراق من وزراء خارجية ودفاع:

- شولتز، رئيس لجنة تحرير العراق، عضو مجلس إدارة في شركة بكتل.

- ديك تشيني، رئيس مجلس إدارة هاليبرتون، التي وقعت مع الجيش الأميركي عقودا للبنية التحتية واللوجستية وتأمين الأسلحة والجنود والمرتزقة.

- رامسفيلد، رئيس شركة بيوتكنولوجية، هي شركة جلياد ساينسز، من نتاجها براءة اختراع أدوية تسبب الهلوسة ونزعة الانتحار. وكما هو معروف فإن رامسفيلد هو مهندس خصخصة الجيوش لمصلحة الشركات الخاصة، حتى أنه ألغى الدعم الصحي العسكري للجيش الأميركي نفسه.

- بول بريمر، مساعد سابق لكيسنجر، وصاحب شركات للخدمات الأمنية.

- جيمس ستيل، قائد أكبر جماعات المرتزقة ومؤسس الخيار السلفادوري للترويع عبر القتل المعلن، وهو نائب رئيس شركة إنرون، ومساعد لبريمر...

وتأكيداً للعلاقة الوثيقة بين الإدارات السياسية الأميركية والشركات الكبرى، كرّست إدارة ترامب (تاجر فنادق وعقارات وكازينوهات) كما غيرها العلاقة السابقة باختياره وزراء ومسؤولين من عالم الأثرياء الكبار، الذين كانوا يمثلون شركات إكسون موبيل في وزارة الخارجية، وجنرال داينمايكس وبوينغ في وزارة الدفاع، ورجال غولدمان ساسكس في أكثر من وزارة، مثل الخزانة والمجلس الاقتصادي، بالإضافة إلى نائبه مايك بينس، من رجال الأعمال المنتفعين من تداعيات العاصفة كاترينا، التي ضربت نيو اورلينانز)[9].

الاستهلاك المفرط والترفيه بدل العمل والادخار

إضافةً إلى ذلك، فقد بدأت الحضارة الغربيّةُ مسيرةَ الانحدار منذ عقود، إذ إنّ عوامل النجاح الماضية بدأت تتآكل فيها؛ حيث اتجه عامّةُ الشعب نحو الاستهلاك الـمُفرط بدل الادّخار والاستثمار، والتقشّف وعدم الإسراف، وحرّضتهم على ذلك الشركات الكبرى، بما تملك من وسائل إعلام عملاقة، إذ أضحت تُغري الناس ليلَ نهار بالاستهلاك المفرط، كما وفّرت المصارف الفرص الكبيرة للناس جميعاً للاقتراض، بل دفعتهم للاستدانة المفرطة لأغراضٍ استهلاكيّة... وهكذا زاد الاستهلاكُ الترفيّ، وتناقص الادّخار والاستثمار، كما اتجه الأطفال والشباب وعامّة الشعب نحو أنواع اللّهو واللّعب والترفيه الضار أو غير النافع بدل العمل الشّاق، وبدأ الانضباطُ يتضاءل، وهكذا... وانخفضت الإنتاجيّة تبعًا لذلك كلّه، ولولا ان عوّضتها التطوّراتُ التكنولوجيّة لوجدتَ تسارع انهيار الحضارة الغربية أكثر.

الاستدراج الإلهي

وهكذا نجد في الغرب، كما نشهد في الشرق، تجلِّيًا واضحًا لكلمة الإمام علي (عليه السلام) الشهيرة: (كَمْ مِنْ مُسْتَدْرَجٍ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ)[10] فإن كثيرًا من الناس، أفرادًا ومنظّمات وشعوبًا وحكومات، تزيدهم النِّعمُ طُغيانًا، وقد غفلوا، أو تغافلوا عن كونها استدراجًا لهم إلى أليم عذاب الله وإلى سيّء العاقبة، إذ استثمروا عطايا الله تعالى لهم، من ذكاءٍ ومالٍ وقوّةٍ وسلطةٍ وعلاقاتٍ و...، في عصيانه، وفي ظلم عباده، وسرقة أموال الآخرين بالرشاوي والربا والاحتيال والتدليس والاحتكار، وبافتعال الحروب، وشِبهها. وقد قال تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلي‏ لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلي‏ لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهينٌ)[11]، و(سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ)[12]، وقال الأمير (عليه السلام) في تتمة الرواية السابقة (وَمَا ابْتَلَى اللَّهُ أَحَداً بِمِثْلِ‏ الْإِمْلَاءِ لَهُ)[13]، وقد قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)[14].

والحل: لا تستَعِنْ بنِعَمِ الله على معاصيه

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إِنْ أَرَدْتَ أَنْ‏ يُخْتَمَ‏ بِخَيْرٍ عَمَلُكَ‏ حَتَّى تُقْبَضَ وَأَنْتَ فِي أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَعَظِّمْ لِلَّهِ حَقَّهُ أَنْ لَا تَبْذُلَ نَعْمَاءَهُ فِي مَعَاصِيهِ)[15].

وعن الإمام علي (عليه السلام): (أَقَلُّ مَا يَلْزَمُكُمْ لِلَّهِ [سُبْحَانَهُ‏] أَلَّا تَسْتَعِينُوا بِنِعَمِهِ‏ عَلَى مَعَاصِيهِ)[16].

وعنه (عليه السلام) – لكميل: (هَا إِنَّ هَاهُنَا لَعِلْماً جَمّاً وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ لَوْ أَصَبْتُ لَهُ حَمَلَةً! بَلَى [أُصِيبُ‏] أَصَبْتُ‏ لَقِناً غَيْرَ مَأْمُونٍ عَلَيْهِ، مُسْتَعْمِلًا آلَةَ الدِّينِ لِلدُّنْيَا، وَمُسْتَظْهِراً بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَبِحُجَجِهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ)[17].

وقال الإمام علي (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ لِيَرَكُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ النِّقْمَةِ فَرِقِينَ، إِنَّهُ مَنْ وُسِّعَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اسْتِدْرَاجاً فَقَدْ أَمِنَ مَخُوفاً، وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ فِي ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ اخْتِبَاراً فَقَدْ ضَيَّعَ مَأْمُولاً)[18].

وفي المقابل: فإنّ استمرار النجاح والتفوق، وهما من النِّعم الكبرى، ورضا الله والناس، منوطة كلها بالعدل والإحسان.

قال الإمام الرضا (عليه السلام): (اسْتِعْمَالُ‏ الْعَدْلِ‏ وَالْإِحْسَانِ‏ مُؤْذِنٌ بِدَوَامِ النِّعْمَةِ)[19]

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (لَا تَدُومُ‏ النِّعَمُ‏ إِلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ: مَعْرِفَةٍ بِمَا يَلْزَمُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِيهَا، وَأَدَاءِ شُكْرِهَا، وَالتَّعَبِ فِيهَا)[20]، فقد قال الإمام علي (عليه السلام): (مَنْ‏ بَسَطَ يَدَهُ‏ بِالْإِنْعَامِ حَصَّنَ نِعْمَتَهُ مِنَ الِانْصِرَامِ)[21]

المعادلة الاقتصادية - الاجتماعية

والمعادلة الاقتصادية – الاجتماعية التالية هي أفضل ما يجسد علاقة النِعم بالإنسان وضمان استمراريتها مع ضريبتها التي عليه أن يدفعها.

فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إِنَّ لِلَّهِ عِبَاداً اخْتَصَّهُمْ‏ بِالنِّعَمِ‏ يُقِرُّهَا فِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا لِلنَّاسِ فَإِذَا مَنَعُوهَا حَوَّلَهَا مِنْهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ)[22].

وقال الإمام علي (عليه السلام): (نِعَمُ اللَّهِ عَلَى الْعَبْدِ مَجْلَبَةٌ لِحَوَائِجِ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَامَ لِلَّهِ فِيهَا بِمَا يَجِبُ عَرَضَهَا لِلدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ فِيهَا بِمَا يَجِبُ عَرَضَهَا لِلزَّوَالِ وَالْفَنَاءِ)[23].

وعنه (عليه السلام): (مَنْ كَثُرَتْ [نِعْمَةُ] نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَثُرَتْ حَوَائِجُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَمَنْ قَامَ لِلَّهِ فِيهَا بِمَا يَجِبُ فِيهَا عَرَّضَهَا لِلدَّوَامِ وَالْبَقَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَقُمْ فِيهَا بِمَا يَجِبُ عَرَّضَهَا لِلزَّوَالِ‏ وَالْفَنَاء)[24].

وعنه (عليه السلام): (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِلَّهِ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ حَقّاً، فَمَنْ أَدَّاهُ زَادَهُ، وَمَنْ قَصَّرَ عَنْهُ خَاطَرَ بِزَوَالِ النِّعْمَةِ وَتَعَجُّلِ الْعُقُوبَةِ، فَلْيَرَكُمُ اللَّهُ مِنَ النِّعْمَةِ وَجِلِينَ كَمَا يَرَاكُمْ مِنَ الذُّنُوبِ‏ فَرِقِينَ‏)[25].

فكلما ازدادت قوة الإنسان وثروته ومكانته الاجتماعية ازدادت حوائج الناس إليه، وعليه حينئذٍ أن يزداد تواضعاً للناس وعطاءً لهم، وإلا عرّضها للزوال، وقد ورد (مَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ اشْتَدَّتْ مَئُونَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَاسْتَدِيمُوا النِّعْمَةَ بِاحْتِمَالِ الْمَئُونَةِ وَلَا تُعَرِّضُوهَا لِلزَّوَالِ، فَقَلَّ مَنْ زَالَتْ عَنْهُ النِّعْمَةُ فَكَادَتْ‏ أَنْ‏ تَعُودَ إِلَيْهِ)[26].

الاستعانة بنعمة السلطة على ظلم العباد

وعلى مستوى الحكومات والمسؤولين وذوي النفوذ يقول (عليه السلام): (وَلَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ‏ وَتَعْجِيلِ‏ نِقْمَتِهِ‏ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللَّهَ [يَسْمَعُ‏] سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ)[27].

وعنه (عليه السلام): (مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَظَلَمَ‏ فِيهَا، إِلَّا كَانَ حَقِيقاً أَنْ يُزِيلَهَا عَنْهُ)[28].

- عنه (عليه السلام): (وَايْمُ اللَّهِ، مَا كَانَ قَوْمٌ‏ قَطُّ فِي‏ غَضِ‏ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا، لِأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ، وَتَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ، فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ، وَوَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ، لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ، وَأَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ)[29].

رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) إلى حاكم الأهواز

ورسالة الإمام الصادق (عليه السلام) للنجاشي – حاكم الأهواز، (وهو جدّ النجاشي – الرجالي المعروف) التالية ترسم خطوطاً واضحة لمسؤوليات المسؤولين والحكام، فإذا وجدناهم قاموا بها فهم السعداء وإلا نالوا غضب الله تعالى والملائكة وكراهية الناس، وسلب الله منهم تلك النعمة وحوّلها إلى نقمة.. ولَئِن أمهلهم فإنه يسلب منهم نور التقوى وطيبة القلوب فيتحولون بمرور الزمن إلى وحوش آدمية ومصاصي دماء.

فعن عبد الله بن سليمان النوفلي قال: كنت عند جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام)، فإذا بمولى لعبد الله النجاشي قد ورد عليه فسلم وأوصل إليه كتابه ففضه وقرأه، وإذا أول سطر فيه:

هل عليك أن تسر بوصولك إلى السلطة أو تحزن؟

(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، إِلَى أَنْ قَالَ: إِنِّي‏ بُلِيتُ‏ بِوِلَايَةِ الْأَهْوَازِ، فَإِنْ رَأَى سَيِّدِي وَمَوْلَايَ أَنْ يَحُدَّ لِيَ حَدّاً، أَوْ يُمَثِّلَ لِي مِثَالًا لِأَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى مَا يُقَرِّبُنِي إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَيُلَخِّصَ لِي فِي كِتَابِهِ مَا يَرَى لِيَ الْعَمَلَ بِهِ، وَفِيمَا أَبْتَذِلُهُ، وَأَيْنَ أَضَعُ زَكَاتِي؟ وَفِيمَنْ أَصْرِفُهَا؟ وَبِمَنْ آنَسُ؟ وَإِلَى مَنْ أَسْتَرِيحُ؟ وَبِمَنْ أَثِقُ وَآمَنُ وَأَلْجَأُ إِلَيْهِ فِي سِرِّي؟ فَعَسَى أَنْ يُخَلِّصَنِي اللَّهُ بِهِدَايَتِكَ فَإِنَّكَ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَمِينُهُ فِي بِلَادِهِ، لَا زَالَتْ نِعْمَتُهُ عَلَيْكَ؟

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ: فَأَجَابَهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام):

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، حَاطَكَ اللَّهُ بِصُنْعِهِ، وَلَطَفَ بِكَ بِمَنِّهِ، وَكَلَأَكَ بِرِعَايَتِهِ، فَإِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ.

أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَاءَنِي رَسُولُكَ بِكِتَابِكَ، فَقَرَأْتُهُ وَفَهِمْتُ جَمِيعَ مَا ذَكَرْتَ وَسَأَلْتَهُ عَنْهُ، وَزَعَمْتَ أَنَّكَ بُلِيتَ بِوِلَايَةِ الْأَهْوَازِ، فَسَرَّنِي ذَلِكَ وَسَاءَنِي، وَسَأُخْبِرُكَ بِمَا سَاءَنِي مِنْ ذَلِكَ، وَمَا سَرَّنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَأَمَّا سُرُورِي‏ بِوِلَايَتِكَ فَقُلْتُ: عَسَى أَنْ يُغِيثَ اللَّهُ بِكَ مَلْهُوفاً خَائِفاً مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (عليهم السلام)، وَيُعِزَّ بِكَ ذَلِيلَهُمْ، وَيَكْسُوَ بِكَ عَارِيَهُمْ، وَيُقَوِّيَ بِكَ ضَعِيفَهُمْ، وَيُطْفِئَ بِكَ نَارَ الْمُخَالِفِينَ عَنْهُمْ).

إيذاء أي ولي لهم يحرمك رائحة الجنة!

وقال (عليه السلام): (وَأَمَّا الَّذِي سَاءَنِي مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ أَدْنَى مَا أَخَافُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْثُرَ بِوَلِيٍّ لَنَا، فَلَا تَشَمَّ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ، فَإِنِّي مُلَخِّصٌ لَكَ جَمِيعَ مَا سَأَلْتَ عَنْهُ إِنْ أَنْتَ عَمِلْتَ بِهِ، وَلَمْ تُجَاوِزْهُ رَجَوْتُ أَنْ تَسْلَمَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)[30].

وقوله (عليه السلام): (تَعْثُرَ بِوَلِيٍّ لَنَا، فَلَا تَشَمَّ حَظِيرَةَ الْقُدْسِ) كلمة خطيرة إلى أبعد الحدود إذ عَثَر به يشمل جميع أنواع الإيذاء والظلم المادي والجسدي والنفسي والروحي.. فأيهما حصل حرم العاثر حتى من شمّ حظيرة القدس فكيف بولوجها والدخول فيها؟.

ولعل السبب في تخصيصه (عليه السلام) الملهوف الخائف بكونه من آل محمد (عليهم السلام) بالذكر، هو أن الحكومات الأموية والعباسية كانت شاهرة السيف ضدهم، وكان حتى اليهودي والمسيحي والملحد في مأمن أما الشيعي فكان مطارداً ملاحقاً.. وكانت السجون ممتلئة بهم.. وكانوا بين شريد وطريد وأسير وقتيل وجريح.

على أن ذلك من مفهوم اللقب فلا مفهوم له.

وقال (عليه السلام): (وَاعْلَمْ أَنَّ خَلَاصَكَ مِمَّا بِكَ مِنْ حَقْنِ الدِّمَاءِ، وَكَفِّ الْأَذَى عَنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَالرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ وَالتَّأَنِّي وَحُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ...).

(وَمَنْ أَدْخَلَ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ سُرُوراً، فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ (عليهم السلام) سُرُوراً، وَمَنْ أَدْخَلَ عَلَى‏ أَهْلِ الْبَيْتِ (عليهم السلام) سُرُوراً، فَقَدْ أَدْخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) سُرُوراً، وَمَنْ أَدْخَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) سُرُوراً، فَقَدْ سَرَّ اللَّهَ، وَمَنْ سَرَّ اللَّهَ فَحَقِيقٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُدْخِلَهُ جَنَّتَهُ).

أرصدة المسؤولين المنتفخة

وقال (عليه السلام): (يَا عَبْدَ اللَّهِ اجْهَدْ أَنْ لَا تَكْنِزَ ذَهَباً وَلَا فِضَّةً، فَتَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الْآيَةِ (الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ‏).

والعجيب أنك ترى كثيراً من المسؤولين في بلادنا تنتفخ حساباتهم وأرصدتهم في المصارف باستمرار، فبعد أن كانوا حفاةً مفلسين إذا بهم قد أصبحوا أثرياء مرفهين يملكون القصور الفخمة والأسواق والمتاجر والمصانع والمعامل والثراء العريض.

إخافة المؤمن في منطق الاستخبارات

وقال (عليه السلام): (يَا عَبْدَ اللَّهِ، إِيَّاكَ أَنْ تُخِيفَ مُؤْمِناً، فَإِنَّ أَبِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ حَدَّثَنِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ نَظَرَ إِلَى مُؤْمِنٍ نَظْرَةً لِيُخِيفَهُ بِهَا أَخَافَهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلِّ إِلَّا ظِلُّهُ وَحَشَرَهُ فِي صُورَةِ الذَّرِّ لَحْمَهُ وَجَسَدَهُ وَجَمِيعَ أَعْضَائِهِ حَتَّى يُورِدَهُ مَوْرِدَهُ).

والغريب أن وزارات الاستخبارات وقوات الأمن بشتى فروعها في عامة البلاد الإسلامية وكذلك المحاكم والمحاكم الخاصة، التي ورثتها بلادنا من الشيوعيين، تبني منهجيتها على إخافة المواطن.. فإذا وقع بقبضتها فلا يكاد المتهم يشمّ رحمة ولا شفقة ولا محامي ولا حسيب ولا رقيب.. والغريب ان الكثير منهم يعذبون المتهم خارج دائرة القانون، وغالباً ما تكون التهمة باطلة، بل حتى لو كانت بحق فإنه لا يجوز تعذيب أحد أبداً.

وقال (عليه السلام): (وَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ آبَائِهِ عَنْ عَلِيٍّ (عليه السلام) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: مَنْ أَغَاثَ لَهْفَاناً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، أَغَاثَهُ اللَّهُ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ وَآمَنَهُ يَوْمَ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ، وَآمَنَهُ مِنْ سُوءِ الْمُنْقَلَبِ).

ألوان من قضاء حوائج الإخوان

وقال (عليه السلام): (وَمَنْ قَضَى لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ حَاجَةً قَضَى اللَّهُ لَهُ حَوَائِجَ كَثِيرَةً مِنْ إِحْدَاهَا الْجَنَّةُ،

وَمَنْ كَسَا أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ سُنْدُسِ الْجَنَّةِ وَإِسْتَبْرَقِهَا وَحَرِيرِهَا وَلَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي رِضْوَانِ اللَّهِ مَا دَامَ عَلَى الْمَكْسُوِّ مِنْهُ سِلْكٌ،

وَمَنْ أَطْعَمَ أَخَاهُ مِنْ جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ طَيِّبَاتِ الْجَنَّةِ،

وَمَنْ سَقَاهُ مِنْ ظَمَإٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ رَيَّهُ،

وَمَنْ أَخْدَمَ أَخَاهُ أَخْدَمَهُ اللَّهُ مِنَ الْوِلْدَانِ الْمُخَلَّدِينَ وَأَسْكَنَهُ مَعَ أَوْلِيَائِهِ الطَّاهِرِينَ،

وَمَنْ حَمَلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ مِنْ رُجْلَةٍ حَمَلَهُ اللَّهُ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الْجَنَّةِ وَبَاهَى بِهِ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَمَنْ زَوَّجَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ امْرَأَةً يَأْنَسُ بِهَا وَتَشُدُّ عَضُدَهُ وَيَسْتَرِيحُ إِلَيْهَا زَوَّجَهُ اللَّهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ وَآنَسَهُ بِمَنْ أَحَبَّهُ مِنَ الصِّدِّيقِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّهِ وَإِخْوَانِهِ وَآنَسَهُمْ بِهِ).

ليقضِ كل مسؤول مائة حاجة يومياً!

وعلى كل مسؤول، بل كل ذي قوة في حزب أو عشيرة أو جماعة أن ينتهج هذا المنهج.. وتصوروا.. لو أنّ كل مسؤول في وزارة الداخلية أو الخارجية أو الدفاع أو الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو غيرها، وكل ذي نفوذ في حزب أو نقابة أو اتحاد، قرّر أن يقضي يومياً، بالمباشرة أو عبر أذرعه، مائة حاجة أو حتى عشر حاجات، أية جنة ستكون الأرض حينئذٍ؟

وهذا مع قطع النظر عن التزامهم بقضاء حوائج الناس في حدود مسؤولياتهم فإنه واجب، وإهمال ذلك خيانة في الأمانة..

والغريب أن المسؤولين أضحوا غير مسؤولين! وأن أحدهم لا يقضي لك حاجتك القانونية، كرخصة بناء أرض أو تأسيس شركة أو معمل ضمن الشروط القانونية، إلا برشوة يأخذها المسؤول الأول التابع للجهة الفلانية، فإذا تقدم المواطن خطوة.. فاجأه مسؤول آخر من الجهة الفلتانية بمطالبته برشوة أخرى.. وهكذا قد تأخذ منه عشر جهات رشاوى ورشاوى.. متسببة في إفقار الناس وزيادة نسبة التضخم وتضخم البيروقراطية وتحطيم ازدهار البلد وتخريبه.. وقد نقل ان بعض المسؤولين يأخذ على مجرد منحك إجازة لبناء مجمع سكني ملايين الدولارات!

وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (وَقَدْ عَلِمْتُمْ‏ أَنَّهُ‏ لَا يَنْبَغِي‏ أَنْ‏ يَكُونَ‏ الْوَالِي‏ عَلَى‏ الْفُرُوجِ‏ وَالدِّمَاءِ وَالْمَغَانِمِ وَالْأَحْكَامِ، وَإِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ... وَلَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ، وَيَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ)[31].

بل سريان الرشوة في الأمم سبب هلاكها فعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (إِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ‏ كَانَ‏ قَبْلَكُمْ‏ أَنَّهُمْ‏ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ، وَأَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ)[32].

بل الرشوة سحت بل هي كفر فعن يزيد بن فرقد، قال: (سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ السُّحْتِ، فَقَالَ: هُوَ الرِّشَا فِي الْحُكْمِ)[33].

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (الرِّشَا فِي‏ الْحُكْمِ‏ هُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ)[34].

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إِيَّاكُمْ وَالرِّشْوَةَ فَإِنَّهَا مَحْضُ الْكُفْرِ وَلَا يَشَمُّ صَاحِبُ‏ الرِّشْوَةِ رِيحَ الْجَنَّةِ)[35].

أَعِنْ المؤمن ضد الجائر وتحمّل الضريبة!

وعودةً إلى رسالة الإمام الصادق (عليه السلام) نجده يقول (عليه السلام): (وَمَنْ أَعَانَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ عَلَى سُلْطَانٍ جَائِرٍ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى إِجَازَةِ الصِّرَاطِ عِنْدَ زَلَّةِ الْأَقْدَامِ، وَمَنْ زَارَ أَخَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ لَا لِحَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهِ كُتِبَ مِنْ زُوَّارِ اللَّهِ، وَكَانَ حَقِيقاً عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَهُ)، ومن الواضح ان إعانة الأخ المؤمن على السلطات الجائر له ضريبة وأية ضريبة في بلادنا الاستبدادية! لكن ذلك هو ثمن الجواز على الصراط عند زلة الأقدام!

ولذا أكّد (عليه السلام) ذلك بقوله: (ثُمَّ إِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ فَإِنَّهُ مَنِ اعْتَصَمَ بِحَبْلِ اللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَاتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُؤْثِرْ أَحَداً عَلَى رِضَاهُ وَهَوَاهُ فَإِنَّهُ وَصِيَّةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى خَلْقِهِ لَا يَقْبَلُ مِنْهُمْ غَيْرَهَا وَلَا يُعَظِّمُ سِوَاهَا).

لتكن الخدمة وقضاء الحوائج منهج حياتنا

وبشكل عام لو جعل كل واحد منا في أي موقع كان، رسالةَ الإمام الصادق (عليه السلام) هذه نصب عينه وعمل بها قدر المستطاع لتغيرت معادلات كثيرة ولتحوّل وجه الأرض المغبرّ الكئيب إلى واحة مليئة بالسعادة والحبور والسرور...

ومن أروع الروايات التي تحرض على قضاء الحوائج تلك التي تعبر بـ (تظاهر النعم على الناس) وتهدد بزوالها.

فقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام): (مَا مِنْ عَبْدٍ تَظَاهَرَتْ‏ عَلَيْهِ‏ مِنَ‏ اللَّهِ‏ نِعْمَةٌ إِلَّا اشْتَدَّتْ مَئُونَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَمَنْ لَمْ يَقُمْ لِلنَّاسِ بِحَوَائِجِهِمْ، فَقَدْ عَرَضَ النِّعْمَةَ لِلزَّوَالِ، قَالَ: فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ وَمَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَقُومَ لِهَذَا الْخَلْقِ بِحَوَائِجِهِمْ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا النَّاسُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَاللَّهِ الْمُؤْمِنُونَ)[36].

قال أبو عبد الله (عليه السلام) للحسين الصحاف: (يَا حُسَيْنُ مَا ظَاهَرَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ النِّعَمَ حَتَّى ظَاهَرَ عَلَيْهِ مَئُونَةَ النَّاسِ، فَمَنْ صَبَرَ لَهُمْ وَقَامَ بِشَأْنِهِمْ زَادَهُ اللَّهُ‏ فِي نِعَمِهِ عَلَيْهِ عِنْدَهُمْ، وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ لَهُمْ وَلَمْ يَقُمْ بِشَأْنِهِمْ أَزَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ تِلْكَ النِّعْمَةَ)[37]

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (مَنْ‏ عَظُمَتْ‏ عَلَيْهِ‏ النِّعْمَةُ اشْتَدَّتْ لِذَلِكَ مَؤُنَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ، فَإِنْ هُوَ قَامَ بِمَئُونَتِهِمْ اجْتَلَبَ زِيَادَةَ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ، وَإِنْ هُوَ لَمْ يَفْعَلْ فَقَدْ عَرَّضَ النِّعْمَةَ لِزَوَالِهَا)[38].

كلما ازداد ثروة ازداد بخلاً!

والغريب أنّ بعض الناس كلما ازداد ثراء وأموالاً ازداد بخلاً وإمساكاً مع أن مقتضى القاعدة أن يزداد عطاءً، ولعل السبب هو (مَنْهُومَانِ‏ لَا يَشْبَعَانِ: مَنْهُومُ عِلْمٍ وَمَنْهُومُ مَالٍ)[39]، فإنّ مال الدنيا كماء البحر كلما ازددت منه شرباً ازددت عطشاً.. والحل عدم التسويف بمعنى أن يعوّد الإنسان نفسه وهو لا يملك شيئاً ثم وهو يصعد قليلاً قليلاً على العطاء قليلاً فأكثر فأكثر؛ فإنه إذا اعتاد العطاء لم يصعب عليه بعد ذلك البذل أكثر فأكثر كلما نمت أمواله أكثر فأكثر... وإلا، فإنه إذا سوّف وفكّر مع نفسه: (انني سأعطي وأنفق وأبذل عندما أمتلك أموالاً طائلة). فإنه حيث عوّد نفسه على الإمساك، استمكن منه الشيطان وتحكمت فيه عادة البخل فيكون كلما ازداد ثروة ممن يزداد بخلاً وإمساكاً.. وذلك مجرب بكلا طرفيه: من درّب نفسه على الإحسان والعطاء وهو يصعد تدريجياً استمر على ذلك المنهج وازداد عطاءه.. وبالعكس ممن خدع بأمل زائف: أن ينفق مستقبلاً، فإنه لا يوفق لذلك عادة.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم

http://m-alshirazi.com

..............................................

[1] سورة ص: 23-24.

[2] سورة العصر: 1-3.

[3] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص195.

[4] سورة التوبة: 128.

[5] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص200.

[6] فمثلاً من نشاطاته:

1ـ بناء مسجد في مدينة إصفهان، وفي جزيرة قشم، وفي مدينة هرمز.

2ـ تأسيس مكتبة عامّة في مسجد السيّد الخادمي في مدينة إصفهان.

3ـ ومكتبة في المؤسّسة الأحمدية لنشر الثقافة الإسلامية.

4ـ تجديد بناء المدرسة العربية التي سُمّيت بعد وفاته باسمه.

5ـ تشكيل الجمعية الصادقية لرعاية المعلولين والمقعدين.

6ـ إنشاء المؤسسّة الأحمدية لنشر الثقافة الإسلامية.

7ـ بناء مستشفى الإمام الحسن العسكري الخيرية.

8ـ تشكيل لجنة الإمام صاحب الزمان الخيرية.

9ـ تأسيس مكتبة مدرسة المُلّا عبد الله.

كما كان زاهداً في حياته، وشديد التواضع للناس وشديد الاحتياط في صرف الحقوق الشرعية إلا في مواردها الصحيحة – وذلك حسب بعض المصادر المعروفة.

[7] إعاقة الديمقراطية، الولايات المتحدة والديمقراطية ـ نعوم تشومسكي 9 مركز دراسات الوحدة العربية ط 2 1998.

[8] https://www.almayadeen.net

[9] المصدر السابق.

[10] نهج البلاغة: الحكمة 116.

[11] سورة آل عمران: 178.

[12] سورة الأعراف: 182، سورة القلم: 44.

[13] نهج البلاغة: الحكمة 116.

[14] سورة إبراهيم: 28-29.

[15] عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص4.

[16] نهج البلاغة: الحكمة 330.

[17] نهج البلاغة: الحكمة 147.

[18] نهج البلاغة: الحكمة 258.

[19] عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص24.

[20] تحف العقول: ص318.

[21] غرر الحكم ودرر الكلم: ص629.

[22] عوالي اللألئ: ج1 ص372.

[23] بحار الأنوار: ج75 ص13.

[24] نهج البلاغة: الحكمة 372.

[25] تحف العقول: ص206.

[26] الكافي: ج4 ص37.

[27] نهج البلاغة: الكتاب 53.

[28] غرر الحكم ودرر الكلم: ص701.

[29] نهج البلاغة: الخطبة 178.

[30] وسائل الشيعة: ج17 ص207.

[31] نهج البلاغة: الخطبة 131.

[32] نهج البلاغة: الكتاب 79.

[33] الكافي: ج7 ص409.

[34] الكافي: ج7 ص409.

[35] بحار الأنوار: ج101، ص274.

[36] الكافي: ج4 ص37.

[37] الكافي: ج4 ص38.

[38] قرب الإسناد (ط - الحديثة): ص77.

[39] الخصال: ج1 ص53.

اضف تعليق