ولما كان الامام علي بن ابي طالب (ع)، يمثل انموذجاً للخطيب الديني البارع في الاصلاح الفكري لأبناء الامة فإننا اتخذنا من بعض خطبه دعائم ليقوم عليها بحثنا الحالي ومن تلك الخطب التي تضمنها بحثنا الخطبة الغراء واعطاء صورة واضحة عن اثر الخطبة الدينية في اصلاح المجتمع وافراده سواء أكان اصلاحا...
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالرحمة والهدى، صلى الله وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين.
إن الإصلاحَ أمرٌ أساس في الدين، يتناول جميع الجوانب التي يتحقق بها صلاحُ الأمة ورقيّها وتقدّمها وأمنها، ولخطبة الجمعة -لا شك- أثر في تحقيق ذلك الإصلاح، وتبليغ رسالته، والحضِّ عليه، وتذليل الصعاب النفسية والاجتماعية التي تُعطِّله أو تَعُوقُه أو تُخْمِد جذوتَه.
وإذا كان هذا هو أثر الخطبة، وكان همُّ الخطباء ترسيخَ مفهوم الإصلاح وتعميقَ الشعور به، والتغلّبَ على معوِّقاته؛ فإنه يحسنُ بحثُ هذا الأثر من حيث مؤهلات الخطيب النفسية والعلمية والمنهجية، ومن حيث الواقعُ الذي يعيشه المسلمون، ومن حيث أنواعُ المشكلات المطروحة التي ينبغي أن تعطَى لها الأولويَة في الخطب الدينية.
ولما كان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام)، يمثل انموذجاً للخطيب الديني البارع في الاصلاح الفكري لأبناء الامة فإننا اتخذنا من بعض خطبه دعائم ليقوم عليها بحثنا الحالي ومن تلك الخطب التي تضمنها بحثنا الخطبة الغراء للإمام علي (ع) فضلا ًعن الخطبة الغراء وفضلاً عن اعطاء صورة واضحة عن اثر الخطبة الدينية في اصلاح المجتمع وافراده سواء أكان اصلاحاً فكريا ًام نفسياً ام خلقياً ام اجتماعياً.
وبناءاً على ما تقدم نقدم بحثنا الموسوم (الخطبة الدينية وأثرها في الاصلاح الفكري) والذي يتضمن ثلاثة مباحث وهي كالآتي:
المـــبحـــث الأول: وتضمن: الخطبة مفهومها وانواعها ومقوماتها
المبحث الثاني: وتضمن الخطبة الدينية وأثرها في شحذ الهمم
المبحث الثالث: السبب الداعي لإلقاء الخطبة الغراء
وانتهى البحث بخاتمة تضمنت أهم ما توصل إليه الباحث من استنتاجات.
المبحث الاول
الخطبة في اللغة والاصطلاح
1. الخطبة في اللغة:
الخُطْبَةُ: هي بضم الخاء، وهي ما يُقال على المنبر، يُقال: خَطَبَ على المنبر خُطْبَة - بضم الخاء - وخَطَابة، وأما خِطْبَة - بكسر الخاء - فهي طلب نكاح المرأة. وهي مشتقة من المخاطبة، وقيل: من الخطب، وهو الأمر العظيم؛ لأنهم كانوا لا يجعلونها إلا عنده.
قال في تهذيب اللغة: "والخطبة مصدر الخطيب، وهو يخطب المرأة ويخطِبُها خِطبة وخِطِّيبى... قلت: والذي قال الليث أن الخطبة مصدر الخطيب لا يجوز إلا على وجه واحد، وهو أن الخُطبة اسم للكلام الذي يتكلم به الخطيب، فيوضع موضع المصدر، والعرب تقول: فلانٌ خِطْبُ فلانة(1)".
وقال في القاموس: "وخَطَبَ الخاطب على المِنْبَر خَطابة بالفتح، وخُطبة بالضم، وذلك الكلام خُطبة أيضًا، أو هي الكلام المنثور المُسَجَّع ونحوه، ورجل خَطِيبٌ حسن الخُطبة بالضم". (2).
وقال في مختار الصحاح: "خاطَبَه بالسلام مُخَاطَبة وخِطَابا، وخطب على المنبر خُطْبَة - بضم الخاء - وخَطَابة، وخَطَب المرأة في النكاح خِطْبَة - بكسر الخاء - يخْطُبُ بضم الخاء فيهما، واختَطَبَ أيضًا فيهما، وخَطُبَ من باب ظَرُفَ صار خطيبًا" (3).
وقال في المصباح: "خَاطَبَه مُخَاطَبَة وخِطَابا، وهو الكلام بين متكلم وسامع، ومنه اشتقاق الخُطبَة -بضم الخاء وكسرها- باختلاف معنيين، فيُقال في الموعظة: خَطَبَ القوم وعليهم من باب قتل، خُطبة - بالضم -، وهي فُعلة بمعنى مفعولة... وجمعها خُطب، وهو خطيب القوم إذا كان هو المتكلم عنهم، وخَطَبَ المرأة إلى القوم إذا طلب أن يتزوج منهم، واختطبها، والاسم الخِطْبة - بالكسر..... (4).
خَطَبَ الناسَ وفيهم وعليهم خَطَابةً وخُطْبةً: ألقى عليهم خُطْبة. وخَطَب فلانةً خَطْبًا وخِطْبَة، طلبها للزواج. وخَطُب خَطابة: صار خطيبًا. وخاطبه مخاطبة وخِطابا، كالمه وحادثة، أو وجّه إليه كلاما. والخِطاب: الكلام، وفَصْل الخِطَاب هو خطاب لا يكون فيه اختصار مُخِلّ ولا إسهاب مُمِلّ، والخُطْبة: الكلام المنثور يخاطِب به مُتكلِّمٌ فصيحٌ جَمْعًا من الناس لإقناعهم، ومن الكتاب: صدْرُه جمع خُطَب، والخَطَّاب: وصف للمبالغة للكثير الخطبة [بضم الخاء وكسرها]. والخطيب الحسن الخُطبة، أو من يقوم بالخَطابة في المسجد وغيره، والمتحدث عن القوم. جمع خُطباء. والخَطْب والمخاطبة والتخاطب: المراجعة في الكلام، ومنه الخُطْبة، ويقال من الخُطْبة: خاطِب وخطيب، ومن الخِطبة: خاطب لا غير. والخَطْب: أيضًا الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب(5).
2. الخطبة في الاصطلاح:
عرَّفها بعضهم بأنها: الكلام المؤلف المُتضمِّن وعظًا وإبلاغًا (6). ولكن هذا فيه إجمال. وأوضح منه تعريف من قال: إنها قياس مركب من مقدمات مقبولة أو مظنونة، من شخص معتقد فيه، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم (7). وعرَّف بعض المعاصرين الخطابة: بأنها فنّ من فنون الكلام، يقصد به التأثير في الجمهور عن طريق السمع والبصر معا (8). وكل هذه التعريفات ونحوها تدور حول التعريف بالخطبة عمومًا، ومعناها متقارب.
وأما خطبة الجمعة بخصوصها فلم أطلع على تعريف صريح لها - فيما بين يدي من كتب الفقهاء - لعلهم تركوا ذلك لوضوحها عندهم، وقد جاء في بدائع الصنائع في معرض كلامه على أحكام خطبة الجمعة قوله: " والخطبة في المتعارف اسم لما يشتمل على تحميد الله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله والدعاء للمسلمين، والوعظ والتذكير لهم" (9). وهذا بيان لمعناها حسب المتعارف عليه، وليس تعريفًا دقيقًا تتوفر فيه الشروط المعتبرة عند الأصوليين.
فيما أرى - تعريف الخَطابة بأنها: فنُّ مشافهةِ الجمهور، وإقناعِه واستمالتِه. فلابد من مشافهة، وإلا كانت كتابة أو شعرًا مدونًا. ولابد من جمهور يستمع، وإلا كان الكلام حديثا أو وصية. ولابد من الإقناع، وذلك بأن يوضح الخطيب رأيه للسامعين، ويؤيدَه بالبراهين ليعتقدوه كما اعتقده، ثم لابد من الاستمالة، والمراد بها أن يهيج الخطيب نفوس سامعيه أو يهدئَها، ويقبضَ على زمام عواطفهم يتصرّف بها كيف شاء، سارًّا أو مُحزِنًا، مُضحِكًا أو مُبكيًا، داعيًا إلى الثورة أو إلى السكينة. وإذاً فأُسُس الخَطابة: " مشافهة، وجمهور، وإقناع، واستمالة ". (10).
مفهوم الخطابة وانواعها:
الخُطبة: كلام يُلقى في جموع الناس، بهدف إقناعهم بالفكرة التي يدعو إليها الخطيب، والتأثير فيهم بما يبديه من حُجَج وغيرها، ومن ثَمَّ استمالة عواطفهم للوقوف إلى جانبه في تأييد فكرته، والعمل على حسب ما يدعو إليه.
وعرَّف عبد الجليل شلبي (الخطابة) بأنَّها: "أصول وقواعد ترشد الإنسان إلى فن مخاطبة الجماهير، بطريقة إلقائية، تشتمل على الإقناع والاستمالة". وعرَّفها أبو زهرة، بأنَّها: "صفة راسخة في نفس المتكلِّم، يقتدر بها على التصرُّف في فنون القول؛ لمحاولة التأثير في نفوس السامعين، وحملهم على ما يراد منهم بترغيبهم وإقناعهم"(11).
فالإلقاء الخطابي الناجح لا بُدَّ من وجود شرطين أساسين فيه، وهما: الإقناع والاستمالة؛ وذلك أنَّ كثيراً من الناس قد يقتنعون بأشياء في قرارة أنفسهم، ويوقنون بخطورة ما يصنعون، كشارب الخمر والدخان؛ ولكن هذه القناعة لا تغيِّر في سلوكهم شيئاً، ولا تدفعهم إلى التخلي عما هم فيه وَفق هذه القناعة، والعمل بما فيها. بل يحتاجون إلى قوة تأثيرية معيَّنة تدفعهم إلى الإقدام والصمود، ومغالبة العادة والإغراء الذي يوقعهم في الباطل(12).
والخطيب البارع: هو الذي يتمكَّن من مخاطبة الجمهور، على اختلاف مداركهم، وثقافاتهم، وميولهم الفكرية والنفسية؛ بما يناسبهم من أفانين البيان، وطرائق الخطاب.
أنواع الخطب:
تتنوَّع الخطب باختلاف موضوعها وغرضها. وأشهر أنواعها هي: الخطب الدينية، والسياسية، والاجتماعية، والقضائية.
أولاً: الخطب الدينية:
هي التي تتناول دعوة الناس إلى الهدى ودين الحق، والتمسُّك بالقيم الدينية، والتنفير من فعل المنكرات، أو الترغيب في أنواع البر والخيرات، والتحلي بفضائل الأخلاق، ونحو ذلك مما يُلقى في المساجد ـ كما في خطبة الجمعة والأعياد ـ وما يتناوله الخطباء في المحافل والجمعيات الدينية، من شؤون السياسة، والاقتصاد، والمجتمع، من وجهة النظر الدينية، وما يهم المسلمين ويشغل بالهم من الأمور المستحدثة، والمسائل الجارية، والقضايا التي تتصل بمصالحهم. كما تشمل الخطب التي يلقيها قادة الجيوش في ساحات الجهاد، حثَّاً لجنودهم على القتال، وتحريضاً لهم على الاستبسال، وبيان ما أعدَّ الله للمجاهدين في سبيله من مكانة، وما أعدَّه للشهداء منهم من الجنان والحور العين، ونحو ذلك مما يناسب موضوع الجهاد في سبيل الله تعالى.
وللناس استعداد طيب لقبول الخطب الدينية، والتأثُّر بما يلقيه الخطباء من الوعظ والتوجيه؛ بسبب ما يتمتع به موضوع الدِّين من مكانة في النفوس، ولارتباطه بحياة المتدينين في الحياة وبعد الممات(13).
ثانياً: الخطب الاجتماعية:
هي الخطب التي تلقى في الاحتفالات العامة أو الخاصة؛ بغرض تكريم أو استقبال أو وداع أو تهنئة أو نحو ذلك. ويتناول بعضها المشكلات الاجتماعية بعامة، وتلك التي ظهرت في العصر الحديث، نتيجة نمو الوعي الاجتماعي؛ مثل: مشكلات الفقر، والغلاء، والتشرُّد، ورعاية الطفولة، وسوء الأحوال الصحية، ومشكلات المرأة، وقضايا العمال... ونحوها.
ثالثاً: الخطب السياسية:
هي الخطب التي تتناول شؤون الحكم والدّولة، وعلاقة الأفراد والجماعات بها من حقوق وواجبات. أو تلك التي تتصل بأمور الدّولة الداخلية أو أمورها الدّولية. وتشمل الخطب التي تلقى في المجالس النيابية أو الشورية للنظر في شؤون الدولة وأمور الرعية، أو تلك التي تُلقى في المؤتمرات السياسية، والصراعات الانتخابية، ونحوها.
رابعاً: الخطب القضائية:
ويُراد بها ما يُلقى في المحاكم وأثر القضاء من خطب؛ كتلك التي يلقيها المحامون أو أعضاء النيابة أمام القضاة في قاعات المحاكم. ويعتمد الخطيب في مثل هذا النوع من الخطب؛ على عرض القضية في وضوح وجلاء، بعد تكييفها في حدود القوانين، ووَفق مواد القانون التي تختص بالقضية موضوع النظر(14).
خامساً: الخطبة الجهادية:
تعتبر الخطبة التي يلقيها الخطيب للمجاهدين الذين يتوجهون لساحة القتال شيء مهم وضروري لحثهم على الجهاد ورفع الروح المعنوية عندهم وتثبيتهم عند احتدام المعركة وتذكيرهم انهم يقاتلون في سبيل الله وانهم اذا استشهدوا فهم فائزون بالجنة وانهم اذ انتصروا فهم سيرفعون راية الاسلام ويعلون كلمته وتكون على عاتقهم مهمة عزه الاسلام ونصره (15).
مقومات الخطبة الناجحة:
هناك جملة من المقومات التي ترتكز عليها الخطبة الناجحة إذا ما أريد لها التأثير في الاخرين وتحقيق الغاية من الخطابة ومن تلك المقومات ما يأتي:
1. مراعاة الكلام لمقتضى الحال: فيتوسم الداعية حال السامعين، ليعرف مبلغ طاقتهم وقدر استحقاقهم وإقبالهم على الانتفاع ليعطيهم ما يتحملون، ويمسك عما لا يطيقون، ويوجز إذا خشي الملالة والانصراف(16)، وقد روى جابر بن سمرة (17) قال: (كنت أصلي مع رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا(18)، كما اعتبر (صلى الله عليه وآله) قصر خطبة الرجل من علامات فقه الرجل، فقال: ((إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته، مَئِنَّةٌ من فقهه، فأطيلوا الصلاة، اقصروا الخطبة(((19)، وذلك بأن يوجز الخطبة مع الاستيعاب لجميع عناصرها.
2. التفاعل الصادق المخلص أثناء الخطابة(20): فإن هذا مما يثير المشاعر النفسية عند المدعوين، ويلفت أنظارهم، ويجذب انتباههم، إضافة إلى المشاركة الوجدانية من الداعية مع المدعوين، وبيان تأثره بكل ما يتحدث به إليهم(21) وقد ورد عنه أنه كان إذا خطب وأنذر بيوم القيامة احمر وجهه وعلا صوته كأنه منذر جيش، كما روى الإمام مسلم: (كان إذا خطب، احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم مساكم)(22)، وهذه الهيئة الخطابية تنم عن تواصل مباشر بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين خالقه (جلَّ وعلا) حيث لا ينطق عن هوى، ولا حاجة به إلى التصنع والتكلف وإنَّما تنساق له العبارات انسياقاً وهو يُقلبها كيف يشاء.
3. الوضوح: وهذا يعني اختيار الألفاظ المفهومة والعبارات السهلة، مع مراعاة مستوى السامعين الثقافي والتيسير عليهم، وتفصيل المجمل من الكلام وتوضيحه(23). فيكون حديثه واضحا بينا، يفهمه السامعون، ولا ينتقل من فكرة أو من عنصر إلى آخر، إلا وهو متأكد من استيعابهم له ما أمكن، مع مراعاة الفروق الفردية في القدرة على الاستيعاب، وذلك بأن ينوع في طرق العرض، وأساليب الكلام، لتوضيح مقصده كالتكرار والتأني في الكلام، ويراعي حسن النطق، وتجويد الكلمات والحروف(24).
4. تميزت خطبه (صلى الله عليه وآله) باشتمالها على عناصر الخطبة الجيدة: مثل تقسيمها إلى عناصر وأفكار رئيسية، فيبتدئ بالبداية الملائمة ثم يذكر ما يريد ثم ينهي بالخاتمة الملائمة، لأن الخطبة تحتاج إلى مقدمة تهيئ أذهان المدعوين لسماعها، ومما كان يبدأ به (صلى الله عليه وآله) حمد الله تعالى والثناء عليه والتشهد، ثم يعرض الموضوع ويفصله تفصيلا مناسبا. وفي خطب الفتح اشتملت خطبه على العديد من التشريعات المهمة والتذكير بالله تعالى، والموعظة الحسنة وغير ذلك من العناصر، ثم ختمها بما يؤكد عرضه ومما ختم به خطبته يوم الفتح، تكليفه السامعين بحمل أمانة التبليغ لمن وراءهم بقوله: ((وليبلغ الشاهد الغائب))(25).
5. التنويع فيها تبعا لموضوعها، ومراعاة لحال المستمعين: فإذا كان المدعوون بحاجة إلى التخويف والترهيب، ذكرهم بعذاب الله، وإن رأى فيهم يأسا وقنوطا ووجلا شديدا، ذكرهم بعظيم رحمة الله وسعة رحمته وأشاع في قلوبهم ما يطمئنهم وينيب قلوبهم، كما فعل (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول خطبة له في مكة، حين أعطى الأمان لقريش، وقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) (26).
6. استغلال هذه الوسيلة تربوياً، فعند تأمل موقفه (صلى الله عليه وآله) مع قضية المرأة المخزومية التي استشفع لها أسامة (رضي الله عنه)، يتبين له أثر الخطبة في التربية، فقد أنكر (صلى الله عليه وآله) على أسامة شفاعته قائلا: أتشفع في حد من حدود الله. ثم لم يكتف بهذا الاستفهام المشبع بالمرارة واللوم لكنه بادر في عشية ذلك اليوم دون تأجيل وجمع القوم ووقف فيهم خطيبا وقال: أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها(27).
7. استعمال العوامل الموقظة لعقول السامعين، والمثيرة لحماسهم واهتمامهم: ومن ذلك توجيه الأسئلة للمخاطبين، فذلك يهيئ أنفسهم للاستجابة والانقياد، -حيث أن المسئول غالبا في موقف أضعف من السائل- وهذا الشعور يحتاجه الخطيب ليعي الناس كلامه وما يهدف إليه(28)، وذلك كسؤال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقريش: ((ما ترون أني فاعل بكم؟))
8. استخدام الأساليب البلاغية، مثل التوافق في تقسيم الجمل، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((تؤخذ صدقاتهم في ديارهم، ويجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم))(29). واستخدام أسلوب التأكيد، كقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): ((لقد قتلتم قتيلا لأدينَّه))(30). وكذلك استخدامه القسم في قوله: ((والذي نفس محمد بيده)) مع المبالغة إلى جانب التأكيد على إقامة الحدود، بأن ذلك لو وقع من فاطمة رضي الله عنها - وهي أبعد الناس عن ذلك - لأقام عليها الحد. فضلاً عن استخدام أسلوب المقابلة، فذكر في خطبته الشريف ثم ذكر الضعيف، وذكر البر التقي الكريم على الله، ثم ذكر الفاجر الشقي الهين على الله. إلى غير ذلك من المزايا التي ساعدت على إنجاح هذه الوسيلة، مما جعلها ذات آثار مباركة في تبليغ الدعوة(31).
الخطبة الغراء للإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) من خطبة له، وهي من الخطب العجيبة:
(الحمد لله الذي علا بحوله، ودنا بطوله (32). مانح كل غنيمة وفضل،. وكاشف كل عظيمة وأزل. أحمده على عواطف كرمه، وسوابغ نعمه. وأؤمن به أولا باديا، وأستهديه قريبا هاديا، وأستعينه قاهرا قادرا، وأتوكل عليه كافيا ناصرا. وأشهد أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عبده ورسوله؛ أرسله لإنفاذ أمره، وإنهاء عذره، وتقديم نذره. أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب الأمثال، ووقت لكم الآجال. وألبسكم الرياش وأرفغ لكم المعاش (33). وأحاط بكم الإحصاء (34)، وأرصد (35) لكم الجزاء، وآثركم بالنعم السوابغ، والرفد الروافغ، وأنذركم بالحجج البوالغ. فأحصاكم عددا، ووظف لكم مددا، في قرار خبرة، ودار عبرة، أنتم مختبرون فيها، ومحاسبون عليها.فإن الدنيا رنق (36) مشربها، ردغ (37) مشرعها، يونق منظرها، ويوبق مخبرها. غرور حائل، وضوء آفل، وظل زائل، وسناد مائل. حتى إذا أنس نافرها، واطمأن ناكرها؛ قمصت (38) بأرجلها، وقنصت بأحبلها، وأقصدت بأسهمها، وأعلقت المرء أوهاق (39) المنية قائدة له إلى ضنك المضجع، ووحشة المرجع، ومعاينة المحل، وثواب العمل. وكذلك الخلف بعقب السلف. لا تقلع المنية اختراما (40) ولا يرعوي الباقون اجتراما. يحتذون مثالا ويمضون أرسالا (41)، إلى غاية الانتهاء، وصيور الفناء.
حتى إذا تصرمت الامور، وتقضت الدهور، وأزف (42) النشور؛ أخرجهم من ضرائح القبور، وأوكار الطيور، وأوجرة (43) السباع، ومطارح المهالك، سراعا إلى أمره، مهطعين(44) إلى معاده. رعيلا صموتا، قياما صفوفا. ينفذهم البصر، ويسمعهم الداعي. عليهم لبوس الاستكانة، وضرع الاستسلام والذلة. قد ضلت الحيل، وانقطع الأمل. وهوت الأفئدة كاظمة، وخشعت الأصوات مهينمة (45). وألجم (46) العرق، وعظم الشفق، وأرعدت الأسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب، ومقايضة الجزاء، ونكال العقاب، ونوال الثواب.
عباد مخلوقون اقتدارا، ومربوبون اقتسارا، ومقبوضون احتضارا، ومضمنون أجداثا، وكائنون رفاتا (47). ومبعوثون أفرادا، ومدينون جزاء، ومميزون حسابا. قد أمهلوا في طلب المخرج، وهدوا سبيل المنهج، وعمروا مهل المستعتب، وكشفت عنهم سدف (48) الريب، وخلوا لمضمار الجياد، وروية الارتياد، وأناة المقتبس المرتاد، في مدة الأجل، ومضطرب المهل.
فيالها أمثالا صائبة، ومواعظ شافية، لو صادفت قلوبا زاكية، وأسماعا واعية، وآراء عازمة، وألبابا حازمة!
فاتقوا الله تقية من سمع فخشع، واقترف فاعترف، ووجل فعمل، وحاذر فبادر، وأيقن فأحسن، وعبر فاعتبر، وحذر فحذر، وزجر فازدجر، وأجاب فأناب، وراجع فتاب، واقتدى فاحتذى، واري فرأى، فأسرع طالبا، ونجا هاربا، فأفاد ذخيرة، وأطاب سريرة. وعمر معادا، واستظهر زادا ليوم رحيله، ووجه سبيله، وحال حاجته، وموطن فاقته، وقدم أمامه، لدار مقامه.
فاتقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له، واحذروا منه كنه ما حذركم من نفسه، واستحقوا منه ما أعد لكم بالتنجز (49) لصدق ميعاده، والحذر من هول معاده.
ومنها: جعل لكم أسماعا لتعي ما عناها، وأبصارا لتجلو عن عشاها، وأشلاء (50)جامعة لأعضائها، ملائمة لأحنائها (51)، في تركيب صورها ومدد عمرها، بأبدان قائمة بأرفاقها (52)، وقلوب رائدة لأرزاقها، في مجللات (53) نعمه، وموجبات مننه، وحواجز عافيته. وقدر لكم أعمارا سترها عنكم، وخلف لكم عبرا من آثار الماضين قبلكم؛ من مستمتع خلاقهم (54)، ومستفسح خناقهم (55). أرهقتهم (56) المنايا دون الآمال، وشذبهم عنها(57) تخرم الآجال. لم يمهدوا في سلامة الأبدان، ولم يعتبروا في أنف (58) الأوان.
فهل ينتظر أهل بضاضة (59) الشباب إلا حواني الهرم؟ وأهل غضارة (60) الصحة إلا نوازل السقم؟ وأهل مدة البقاء إلا آونة الفناء؟ مع قرب الزيال، وأزوف الانتقال، وعلز (61) القلق، وألم المضض وغصص الجرض (62)، وتلفت الاستغاثة بنصرة الحفدة والأقرباء والأعزة والقرناء! فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب، وقد غودر في محلة الأموات رهينا، وفي ضيق المضجع وحيدا، قد هتكت الهوام جلدته، وأبلت النواهك جدته، وعفت (63) العواصف آثاره، ومحا الحدثان (64) معالمه، وصارت الأجساد شحبة بعد بضتها، والعظام نخرة بعد قوتها، والأرواح مرتهنة بثقل أعبائها، موقنة بغيب أنبائها، لا تستزاد من صالح عملها، ولا تستعتب من سيئ زللها!
أولستم أبناء القوم والآباء، وإخوانهم والأقرباء، تحتذون أمثلتهم، وتركبون قدتهم(65) وتطؤون جادتهم؟!. فالقلوب قاسية عن حظها، لاهية عن رشدها، سالكة في غير مضمارها، كأن المعني سواها، وكأن الرشد في إحراز دنياها!
واعلموا أن مجازكم على الصراط ومزالق دحضه (66) وأهاويل زلله، وتارات أهواله. فاتقوا الله عباد الله تقية ذي لب شغل التفكر قلبه، وأنصب الخوف بدنه، وأسهر التهجد غرار (67) نومه، وأظمأ الرجاء هواجر (68) يومه، وظلف الزهد شهواته (69)، وأوجف الذكر بلسانه(70)، وقدم الخوف لأمانه، وتنكب المخالج (71) عن وضح السبيل، وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تفتله فاتلات الغرور، ولم تعم عليه مشتبهات الامور. ظافرا بفرحة البشرى، وراحة النعمى في أنعم نومه وآمن يومه.
وبادر من وجل، وأكمش (72) في مهل. ورغب في طلب، وذهب عن هرب، وراقب في يومه غده، ونظر قدما أمامه. فكفى بالجنة ثوابا ونوالا، وكفى بالنار عقابا ووبالا! وكفى بالله منتقما ونصيرا! وكفى بالكتاب حجيجا وخصيما!
أوصيكم بتقوى الله الذي أعذر بما أنذر، واحتج بما نهج، وحذركم عدوا نفذ في الصدور خفيا، ونفث في الآذان نجيا (73)؛ فأضل وأردى، ووعد فمنى، وزين سيئات الجرائم، وهون موبقات العظائم. حتى إذا استدرج قرينته (74)، واستغلق رهينته، أنكر ما زين، واستعظم ما هون، وحذر ما أمن.
أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام، وشغف (75) الأستار، نطفة دهاقا (76)، وعلقة محاقا، وجنينا وراضعا، ووليدا ويافعا. ثم منحه قلبا حافظا، ولسانا لافظا، وبصرا لاحظا؛ ليفهم معتبرا، ويقصر مزدجرا. حتى إذا قام اعتداله، واستوى مثاله؛ نفر مستكبرا، وخبط سادرا (77)، ماتحا في غرب (78) هواه، كادحا سعيا لدنياه، في لذات طربه، وبدوات أربه (79)، ثم لا يحتسب رزية، ولا يخشع تقية. فمات في فتنته غريرا (80)، وعاش في هفوته يسيرا. لم يفد عوضا، ولم يقض مفترضا. دهمته فجعات المنية في غبر (81) جماحه، وسنن مراحه، فظل سادرا، وبات ساهرا، في غمرات الآلام، وطوارق الأوجاع والأسقام، بين أخ شقيق، ووالد شفيق، وداعية بالويل جزعا، ولادمة (82) للصدر قلقا. والمرء في سكرة ملهثة، وغمرة (83) كارثة، وأنة موجعة، وجذبة مكربة، وسوقة متعبة. ثم أدرج في أكفانه مبلسا (84)، وجذب منقادا سلسا. ثم القي على الأعواد رجيع وصب (85)، ونضو(86) سقم، تحمله حفدة الولدان، وحشدة الإخوان، إلى دار غربته، ومنقطع زورته، ومفرد وحشته. حتى إذا انصرف المشيع، ورجع المتفجع؛ اقعد في حفرته، نجيا لبهتة السؤال، وعثرة الامتحان. وأعظم ما هنالك بلية نزول الحميم، وتصلية الجحيم، وفورات السعير، وسورات (87) الزفير. لا فترة مريحة، ولا دعة مزيحة، ولا قوة حاجزة، ولا موتة ناجزة، ولا سنة مسلية بين أطوار الموتات وعذاب الساعات، إنا بالله عائذون!
عباد الله! أين الذين عمروا فنعموا، وعلموا ففهموا، وانظروا فلهوا وسلموا فنسوا!. أمهلوا طويلا، ومنحوا جميلا، وحذروا أليما، ووعدوا جسيما. احذروا الذنوب المورطة، والعيوب المسخطة. اولي الأبصار والأسماع، والعافية والمتاع! هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار (88) أم لا؟ ﴿فأنى تؤفكون﴾(89)! أم أين تصرفون! أم بماذا تغترون! وإنما حظ أحدكم من الأرض ذات الطول والعرض قيد (90) قده، متعفرا على خده!
الآن عباد الله والخناق مهمل، والروح مرسل، في فينة(91) الإرشاد، وراحة الأجساد، وباحة الاحتشاد، ومهل البقية، وانف المشية، وإنظار التوبة، وانفساح الحوبة (92) قبل الضنك والمضيق، والروع والزهوق، وقبل قدوم الغائب المنتظر، وأخذة العزيز المقتدر (93).
المبحث الثاني
الخطبة الدينية وآثارها في شحذ الهمم
الخطبة الجهادية دراسة موضوعية:
تعتبر الخطبة التي يلقيها الخطيب للمجاهدين الذين يتوجهون لساحة القتال شيء مهم وضروري لحثهم على الجهاد ورفع الروح المعنوية عندهم وتثبيتهم عند احتدام المعركة وتذكيرهم انهم يقاتلون في سبيل الله وانهم اذا استشهدوا فهم فائزون بالجنة وانهم اذ انتصروا فهم سيرفعون راية الاسلام ويعلون كلمته وتكون على عاتقهم مهمة عزه الاسلام ونصره (94) ومن اجل دراسة الخطة الجهادية دراسية موضوعية سنتناول الخطبة الجهادية لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) انموذجاً.
الخطبة الجهادية لأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) انموذجاً
الخطبة السابعة والعشرين من نهج البلاغة وتعد من مشاهير خطب الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع)، تحمل الطابع السياسي والاجتماعي والعقائدي، حيث يذكر فيها الامام علي (ع) فضل الجهاد في سبيل اللّه والدعوة اليه، وتخاذل اصحابه عن نصرة الدين... علما ان الجهاد ركن من اركان الدين حيث يقول الباري سبحانه: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (95).
فنبدأ الان بشرحها ثم الوقوف على مقوماتها من الافكار والعواطف والاسلوب ونختم الحديث بمقارنة مع ابن نباتة.
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الجِهَادَ(96) بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الجَنَّةِ، فَتَحَهُ اللهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ، وَهُوَ لِباسُ التَّقْوَى، وَدِرْعُ اللهِ الحَصِينَةُ، وَجُنَّتُهُ (97)الوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ(98) أَلبَسَهُ اللهُ ثَوْبَ الذُّلِّ، وَشَمِلَهُ البَلاَءُ، وَدُيِّثَ (99) بِالصَّغَارِ وَالقَمَاءَةِ (100)، وَضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْأَسْهَابِ(101)، وَأُدِيلَ الحَقُّ مِنْهُ (102) بِتَضْيِيعِ الجِهَادِ، وَسِيمَ الخَسْفَ(103)، وَمُنِعَ النَّصَفَ(104).
أَلاَ وَإِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ هؤُلاَءِ القَوْمِ لَيْلاً وَنَهَاراً، وَسِرّاً وَإِعْلاَناً، وَقُلْتُ لَكُمُ: اغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ، فَوَاللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ(105) إِلاَّ ذَلُّوا، فَتَوَاكَلْتُمْ (106) وَتَخَاذَلتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ الغَارَاتُ (107)، وَمُلِكَتْ عَلَيْكُمُ الْأُوْطَانُ. وَهذَا أَخُو غَامِد قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ الْأَنْبَارَ(108)، وَقَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ البَكْرِيَّ، وَأَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا(109). وَلَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى المَرْأَةِ المُسْلِمَةِ، وَالْأُخْرَى المُعَاهَدَةِ (110)، فيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا(111) وَقُلْبَهَا(112) وَقَلاَئِدَهَا، وَرِعَاثَهَا (113)، ما تَمْتَنِعُ مِنْهُ إِلاَّ بِالْإِسْتِرْجَاعِ وَالْإِسْتِرْحَامِ(114)، ثُمَّ انْصَرَفُوا وَافِرِينَ(115)، مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ (116)، وَلاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ، فَلَوْ أَنَّ امْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِن بَعْدِ هَذا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً، بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً. فَيَا عَجَباً! عَجَباًـ وَاللهِ ـ يُمِيتُ القَلْبَ وَيَجْلِبُ الهَمَّ مِن اجْتِماعِ هؤُلاَءِ القَوْمِ عَلَى بَاطِلِهمْ، وَتَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ! فَقُبْحاً لَكُمْ وَتَرَحاً(117)، حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً (118) يُرمَى: يُغَارُ عَلَيْكُمْ وَلاَ تُغِيرُونَ، وَتُغْزَوْنَ وَلاَ تَغْرُونَ، وَيُعْصَى اللهُ وَتَرْضَوْن! فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِم فِي أَيَّامِ الحَرِّ قُلْتُمْ: هذِهِ حَمَارَّةُ القَيْظِ(119) أَمْهِلْنَا يُسَبَّخُ عَنَّا الحَرُّ(120)، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ: هذِهِ صَبَارَّةُ القُرِّ(121)، أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا البَرْدُ، كُلُّ هذا فِرَاراً مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ; فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الحَرِّ وَالقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَاللهِ مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ!
يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَارِجَالَ. حُلُومُ الْأَطْفَالِ. وَعُقُولُ ربَّاتِ الْحِجَالِ. لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ. مَعْرِفَةٌ وَاللّهِ جَرَّتْ نَدَما وَاعْقَبَتْ سَدَما. قَاتَلَكُمُ اللّهُ لَقَدْ مَلاُتُمْ قَلْبِي قَيْحا. وَشَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظا. وَجَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاسا. وَأفَسَدْتُمْ عَلَيِّ رَأيِي بِالْعِصْيَانِ وَالْخِذْلَانِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ وَلكِنْ لَاعِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. للّهِ أَبُوهُمْ! وَهَلْ أَحَدٌ مَنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاسا وَأَقْدَمُ فِيهَا مَقَاما مِنِّي؟ لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَمَا بَلَغْتُ الْعِشْرِينَ، وَهَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرِّفْتُ عَلَي السِّتِّينَ. وَلكِنْ لَا رَأيَ لَمِنْ لَا يُطَاعُ.
مناسبة الخطبة:
وعلة ذلك كما ذكرها صاحب الكامل (انه انتهى الى علي بن ابي طالب (عليه السلام) ان خيلاً لمعاوية وردت الانبار فقتلوا عاملا له يقال له حسان بن حسان، فخرج مغضبا يجر ثوبه حتى اتى النخلية، واتبعه الناس، فرقى رباوة من الارض فحمد اللّه واثنى عليه، وصلى على نبيه (ص) ثم قال اما بعد فان الجهاد....)(122).
هذا وان الحملة كانت عنيفة جدا كما اشار اليها ابن ابي الحديد نقلا عن كتاب الغارات (انه قال (الغامدي)، دعاني معاوية فقال: اني باعثك في جيش كثيف ذي اداة وجلاد، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها، فان وجدت بها جندا فاغر عليهم، والا فامض حتى تغير على الانبار، فان لم تجد بها جندا فأمض حتى توغل المدائن، ثم اقبل الي، واتق ان تقرب الكوفة، واعلم انك ان اغرت على اهل الانبار واهل المدائن فكأنك اغرت على الكوفة ان هذه الغارات يا سفيان على اهل العراق ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو الينا كل من خاف الدوائر (المصائب والشدائد)، فاقتل من لقيته ممن لس هو على مثل رايك، واخرب كل ما مررت به من القرى واحرب الاموار (اسلب) فان حرب الاموال شبيه بالقتل وهو اوجع للقلب...) (123).
شرح الخطبة:
قيل ان كلام الملوك ملوك الكلام، وبناء على هذا فان كلام المعصوم ما هو الا عصمة للكلام، فانك تجد في هذه الخطبة ان الحديث جاء مناسبا للمخاطبين، بلا لغو ولا ابهام، يصب في الضمائر الحية حميم الغضب ضد اعداء الدين، يذكر هم اولا بفضل الجهاد في سبيل اللّه والتمسك بسنة رسوله(صلى الله عليه وآبه وسلم)، والترغيب في الدخول الى الجنان، والجلوس عند الحور الحسان، ومن جانب آخر يحذهم نار جهنم وغضب الجبار، ثمَّ يحذرهم من الذال والاحتقار عند ترك الجهاد، وكان هذا العمل منه دؤوبا، يدعو هم ليلا ونهارا، سرا واعلانا، ثم بدا باستنهاض الهمم العالية للرجال، وترغيبهم للقتال، واثارة الحماسة في قلوب الجماهير، من قبل ان يستفحل الامر، وينقادوا لسيطرة الاجنبي، ولكن لا امر لمن لا يطاع، حينئذ استصرخ ضمائرهم، وحاول ان يحرك الوجدان لديهم، وذلك لما ذكر المرأة التي تعد ناموساً وعرضا للإنسان العربي المسلم، وبين كيف تجاوز عليها الاعداء، وسلبوا منها الذهب من خلخال وسوار وقلادة وقرط وفي النهاية يبدي الامام علي (عليه السلام) اسفه الشديد بالموت لسماع هذه الاخبار الموحشة، وبهذه الجمل عساه ان يكتسب الاعوان وينفروا معه الى سوح القتال، ولكن للأسف الشديد، لقد ماتت الضمائر الحية، وخرست الالسن الناطقة، وكان الموت يرفرف على رؤوسهم، فرارا من الزحف، واخيرا دعى عليهم بقوله: قبحا لكم وترحا، وان ينحيهم اللّه عن الخير، ذاما لهم بقوله: قاتلكم اللّه لقد ملئتم قلبي قيحا (صديدا) وشحنتم (ملاتم) صدري غيظا(غضبا) وجرعتموني نغب (جرع) التهمام (الهم) انفاسا... فهو (ع) يذكر في خطابه هذا بعض المحن التي لاقاها من الكوفيين(124).
النص والافكار:
احتوت الخطبة على البحوث التالية: فضل الجهاد، الدعوة اليه، تخاذل الكوفيين عن نصرته، الرؤية المستقبلية، اظهار التحسر والتلف عليهم، التنفر منهم، واخيرا ذمهم.
العاطفة:
نشير قليلا الى تجلي عنصر العاطفة في هذه الخطبة فنقول، اولاً: انه (ع) خاطب الوجدان، حيث خاطب الامام (ع) نفسه الكريمة والمستمعين قائلا: اني قد دعوتكم الي قتال هؤلاء القوم ليلا ونهار او...و...، فانك ترى من خلال الكلام، نفسه (ع) مطمئنة ارتياحاً، لأنه ادى الواجب الملقى على عاتقه بقوله: دعوتكم ليلا ونهارا... ولكن المستمعين اتخذوا التواكل والخذلان طريقا لهم كي لا يفلحوا ابدا، والحال هم المسؤولون امام هذا الخراب والدمار لانهم هم المستهدفون والمقصرون في اداء واجباتهم، ورضوا بالغزو وتمسكوا بالمعاذير الواهية.
ثانيا: تحريك المشاعر، فانه (ع) اثار الاحاسيس لدى المخاطبين عن طريق حب الوطن، حيث قال: وملكت عليكم الاوطان، فاحتلال الوطن من قبل الاعداء يثير الغضب عند الجمهور حتى يصل بهم الحال الى الاخذ بالثأر من المعتدين، وكما يقول الرسول العظيم (ص): حب الوطن من الايمان، وكذلك آثار المشاعر عن طريق العرض، فانظر الى تدرجه في اثارة العاطفة لدى الجماهير الحاشدة، فانه (ع) ابتدأ بذكر المرأة المسلمة ثم المعاهدة، ثم تدرج في كلامه من سلب الحجل (الخلخال) في الاقدام وصعوده الى السوار في المعاصم (الايدي) والى القلادة في الجيد، واخيرا الى القرط في الاذان، فمع هذا التصاعد يتصاعد لهيب الحماسة والغيرة وتثار الحمية في النفوس وتشحنها حقدا وحنقا على العدو علما انه (ع) كان يعلم ما للمسلم من بذل نفسه وماله للحفاظ على سمعة المرأة وعلى شرف الفتاة، فاذا هو يعنف هؤلاء القوم على القعود دون نصرة المرأة التي استباح العدو حماها ثم انصرفوا امنين من دون مقاومة وكذلك اثار مشاعر الجمهور عن طريق اثارة الشعور الديني، حيث يقول (عليه السلام) فيا عجبا عجبا، واللّه يميت القلب ويجلب الهم (125) من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم... صرتم غرضا (هدفا) يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، تغزون ولا تغزون، ويعصى اللّه وترضون، فكل من التفرق عند الدين الحق، وعصيان الرب.
الخيال والبلاغة:
في قوله (عليه السلام): لباس التقوى، وثوب الذل، استعارتان، ففي لباس التقوى، استعارة مكنية، شبه التقوى بإنسان وحذف المشبه به وابقى بعض صفاته لتدل عليه، وهو لباس، على سبيل الاستعارة المكنية، وهكذا القول بالنسبة لقوله (عليه السلام) ثوب الذل.
وفي قوله (عليه السلام): ليلا ونهارا، سرا واعلانا، مقابلة، وكذا في قوله (عليه السلام): يغار عليكم ولا تغيرون وتغزون ولا تغزون، طباق سلب، وبين الحر والقر جناس ناقص، وفي عبارة: عجبا واللّه يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء....صناعة بديعية تؤكد على القسم(126) الذي فيه هجاء.
الاسلوب:
اولاً: متأثر بالقران الكريم كما يلوح للناظر، وذلك اما عن طريق الاقتباس مباشرة كما في العبارات التالية:
١- قوله (ع): وهو لباس التقوى، مقتبس من قوله تعالى: قد انزلنا عليكم لباسا يواري سؤاتكم وريشا ولباس التقوى (127).
٢- قوله (ع): دعوتكم ليلا ونهارا وسرا واعلانا، مقتبس من قوله تعالى: رب اني دعوت قومي ليلا ونهارا...ثم دعوتهم جهارا... واسررت لهم اسرارا(128).
٣- قوله (ع) وهذا اخو خامد، مقتبس من قوله تعالى: (والى مدين اخاهم شعيبا) (129).
واما الاقتباس غير المباشر فتصوره الامثلة التالية:
١- قوله (ع): وديث بالصغار، مشابه لقوله تعالى: زين للذين كفروا الحياة الدنيا(130).
2- قوله (ع): وضرب على قلبه بالاسهاب، مشابه لقوله تعالى: طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون(131).
٣- قوله (ع): واديل الحق منه، نظير قوله تعالى: قال قد اجيبت دعوتكما (132).
4- قوله (ع): وسيم الخسف، يشابه قوله تعالى: وقيل يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء(133).
الفصاحة:
وهي من ابرز الصفات عند الامام علي (ع)، حيث قيل في شان نهج البلاغة انّه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق.
فأولاً: الكلمات الفصيحة والبليغة جاءت مناسبة لمواقعها من هذه الخطبة، فأدنى تغير في المحل او استخدام المرادف لاختلف المعنى ؛ فعلى سبيل المثال نأخذ كلمة (تواكلتم) في هذه الجملة (فتواكلتم وتخاذلتم...)، لو عوضت بكلمة (تعاجزتم)، لما ادت ذلك المعنى الملقاة على عاتق (تواكلتم)، فالكلمة الاولى فيها معنى الفرار من المسؤولية وهو غير معذور، والحال الكملة الثانية ترى العجز عذرا.
ثانياً: اتخاذ الجمل الإنشائية والخبرية منطلقا في الكلام، فتارة يميل الى الانشائية كقوله (ع): قلت لكم اغزوهم (امرية) قبل ان يغزوكم؛ فواللّه (قسم) ما غزى قوم... واخرى يستعين بالخبرية كقوله (ع): فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت عليكم الغارات وملكت عليكم الاوطان... فالتنوع هذا جاء حسب ما يقتضيه المعنى حيث يجعل القارئ يتمتع بالكلام ولا يمل الخطاب، وهذه الصبغة الحاكمة على ارجاء الخطبة.
موازنة:
من اجل الوقوف على الصياغة الادبية، ومن اجل بيان محاسن الخطبة الجهادية لمولانا امير المؤمنين (ع)، نشير هنا الى مقايستين قام بهما ابن ابي الحديد في شرحه.
فالأولى: القران الكريم والامام علي (ع)، يقول ابن ابي الحديد: (فان شئت ان تزداد استبصارا، فانظر القران العزيز، واعلم ان الناس قد اتفقوا على انه في اعلى طبقات الفصاحة، وتامله تاملا شافيا، وانظر الى ما خص به من مزية الفصاحة والبعد عن التعقر(134) والتعقيد والكلام الوحشي الغريب، وانظر الى كلام امير المؤمنين(عليه السلام) فانك تجده مشتقا من الفاظه، ومقتضبا من معانيه ومذاهبه ومحذوا به حذوه، ومسلوكا به في منهاجه، فهو وان لم يكن نظيرا ولا ندا، يصلح ان يقال انه ليس بعده كلام افصح منه ولا اجزل ولا اعلى ولا افخم ولا انبل الا ان يكون كلام ابن عمه عليه السلام، وهذا امر لا يعلمه الا من ثبت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة، وليس كل الناس (العلماء) يصلح لانتقاد الجوهر، بل ولا لانتقاد الذهب، ولكل صناعة آلة ولكل عمل رجال) (135).
واما الثانية: الامام علي (عليه السلام) وابن نباتة: يقول ابن ابي الحديد (واعلم ان التحريض على الجهاد، والحض عليه قد قال فيه الناس فاكثروا، وكلهم أخذوا من كلام امير المؤمنين (عليه السلام)، فمن جيد ذلك ما قاله ابن نباتة الخطيب: ايها الناس الى كم تسمعون الذكر فلا تعون، والى كم تقرعون بالزجر فلا تقلعون، كأن اسماعكم تمج ودائع الوعظ، وكأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ، وعدوكم يعمل في دياركم عمله، ويبلغ بتخلفكم عن جهاده امله، وصرخ بهم الشيطان الى باطله فأجابوه... فالجهاد الجهاد ايها الموقنون، والظفر الظفر ايها الصابرون، والجنة الجنة ايها الراغبون، والنار النار ايها الراهبون، فان الجهاد اثبت قواعد الايمان، واوسع ابواب الرضوان، وارفع درجات الايمان.
المبحث الثالث
السبب الداعي لإلقاء الخطبة الغراء
السبب الداعي لإلقاء الخطبة الغراء:
نُقل في سبب هذه الخطبة أنّ أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السّلام قد فسدوا وكانوا قبائل متعدّدة فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة أخرى فيقع به أدنى مكروه فيستعدي قبيلته، وينادى باسمها مثلا يا للنخع أو يا لكنده نداء عاليا يقصد به الفتنه وإثارة الشرّ فيتّألب عليه فتيان القبيلة الّتي قد مرّ بها وينادون يا لتميم يا لربيعة فيضربونه فيمرّ إلى قبيلته ويستصرخ بها وتسّل بينهم السيوف وتثور الفتنة، ولا يكون لها أصل في الحقيقة ولا سبب يعرف إلّا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض، وكثر ذلك منهم فخرج عليه السّلام إليهم على ناقة فخطبهم هذه الخطبة (136).
مضامين الخطبة الغراء
تتوفر الخطبة الغراء على كثير من المضامين الاجتماعية والأخلاقية والتربوية والكلامية نشير الى نماذج منها.
أولاً: الإشارات الأخلاقية
ومن تلك الإشارات التي توفرت عليه الخطبة:
رفض العصبية: كان لخطب الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) ومنها الخطبة الغراء الأثر البارز في ذم العصبية السلبية وتعزيز الروح الإنسانية في المجتمع وبيان قبح التفاخر بأمور لا ينبغي للإنسان جعلها المعيار في التفاضل والتفاخر، وأن العصبية والتعصب انتهاج للمنهج الشيطاني وسير على الجادة التي اختطها إبليس "ولو رخَّصَ اللهُ في الكبرِ لأحَد من عباده لرخَّصَ فيه لخاصَّةِ أَنبِيَائِهِ وأَوليائه"(137).
الحث على التواضع: يحث أمير المؤمنين (عليه السلام)على التواضع والتذلل للمؤمنين والصالحين ويؤكد أن التواضع من الصفات التي ارتضاها سبحانه للأنبياء والصالحين "ورضِيَ لهم التَّوَاضُعَ، فأَلْصَقُوا بِالاَرْضِ خُدُودَهُمْ، وعفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ، وَخَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤمِنِينَ. قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ- وامْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ ومَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ- فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى والسُّخْطَ بِالْمَالِ والْوَلَدِ- جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ- والِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى والِاقْتِدَار، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ- بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِم(138).
الحث على التعصب المحمود: قال عليه السلام مشيراً الى بعض انواع العصبية المحمودة: فَإِنْ كان لا بُدَّ من العصبِيَّةِ- فليكنْ تعصُّبُكُمْ لمكارمِ الخصالِ- ومَحَامدِ الأَفعالِ ومحاسنِ الأُمُور- الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ والنُّجَدَاءُ- مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ ويَعَاسِيبِ القَبَائِلِ- بِالأَخْلاقِ الرَّغِيبَةِ والأَحْلامِ الْعَظِيمَةِ- والأَخْطَارِ الجَلِيلَةِ والآثَار المحْمُودَةِ- فَتَعَصَّبُوا لخلالِ الحمدِ من الحفظِ لِلْجِوَارِ- والْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ والطَّاعَةِ لِلْبِرِّ- والْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ والأَخْذِ بِالْفَضْلِ- والْكَفِّ عن الْبَغْيِ والإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ- والإِنصَافِ لِلْخَلْقِ والكَظْمِ لِلْغَيْظِ- واجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الأَرْض(139).
ثانياً: الاشارات إلاجتماعية
التأكيد على الإتحاد والإلفة: لا شك أن الرسالة المحمدية التي مثلها أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل تمثيل تولي مفهوم الاتحاد أهمية كبيرة في أكثر من موضع، منها ما جاء في الخطبة الغراء: فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ (يعني الأنبياء والصالحين)- وزَاحَتِ الأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ- ومُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ- وانْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ ووَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ- من الاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ واللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ- والتَّحَاضِّ عَلَيْهَا والتَّوَاصِي بِهَا- واجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وأَوْهَنَ مُنَّتَهُم.(140)
التحذير من الفرقة والتشتت: حيث حذر عليه السلام من هذه الآفة التي تؤدي الى تفكك المجتمعات والشعوب وسقوط الدول، قائلا: فانظُرُوا إِلى ما صَارُوا إِليه في آخرِ أُمورهمْ (الأمم السابقة) حينَ وقعت الفرقةُ وتَشَتَّتَتِ الأُلْفَةُ- واختلفتِ الكلمةُ والأَفئدةُ- وتشعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وتفرَّقُوا مُتحاربِينَ- وقد خلعَ اللَّهُ عنهُمْ لباسَ كرامته- وسلبهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ- وبقي قصصُ أَخبارهمْ فيكم- عبراً للمُعْتَبِرِين. فَاعْتَبِرُوا بحال ولَدِ إِسماعِيلَ- وبني إِسحاقَ وبني إِسْرَائِيلَ (ع)- فما أَشدَّ اعتِدَالَ الأَحْوَالِ وأَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ- تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ في حالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ- ليالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ والْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ- يَحْتَازُونَهُمْ عن رِيفِ الْآفَاقِ وبَحْرِ الْعِرَاقِ- وخُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ- ومَهَافِي الرِّيحِ ونَكَدِ الْمَعَاشِ- فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ ووَبَرٍ- أَذَلَّ الأُمَمِ دَاراً وأَجْدَبَهُمْ قَرَاراً. (141) الحث على الثبات في طريق الله: قال عليه السلام في وصف المؤمنين الذين صبروا على الأذى في حبّ الله وما ترتب عليه من ثمار عظيمة: حتَّى إِذا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ- جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ- والاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ- جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ البلاءِ فَرَجاً- فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ و الأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ- فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً و أَئِمَّةً أَعْلاماً- و قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ - ما لم تَذْهَبِ الآمَالُ إِلَيْهِ بِهِم(142).
ثالثاً: اشارات كلاميٌة:
أشار سلام الله عليه في الخطبة الغراء الى مجموعة من النكات الكلامية والعقائدية، منها:
الحكمة من وراء الاختبار والابتلاء: ولكنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ ما يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالاخْتِبَارِ لَهُمْ ونَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وإِبْعَاداً لِلْخُيَلاءِ مِنْهُمْ. (143).
الحكمة في فقر الأنبياء: قال عليه السلام: ولو أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لأَنْبِيَائِهِ- حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ- ومَعَادِنَ الْعِقْيَانِ ومَغَارِسَ الْجِنَانِ- وأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ ووُحُوشَ الأَرَضِينَ- لَفَعَلَ- ولَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وبَطَلَ الْجَزَاء- واضْمَحَلَّتِ الأَنْبَاءُ ولَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ- ولا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ-. (144) ولَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ -وضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ- مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلأُ الْقُلُوبَ والْعُيُونَ غِنًى- وخَصَاصَةٍ تَمْلأُ الأَبْصَارَ والأَسْمَاعَ أَذًى ولَوْ كَانَتِ الأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لا تُرَامُ وعِزَّةٍ لا تُضَامُ- ومُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ- لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ على الخلقِ في الاعْتِبَارِ- وأَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ- ولآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِم.(145).
الحكمة في تشييد الكعبة في أرض قفراء: فَجَعَلَهَا – الكعبة- بَيْتَهُ الحرَامَ الَّذِي جعلهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً- ثُمَ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الأَرْضِ حَجَراً وأَضْيَقِ بُطُونِ الأَوْدِيَةِ قُطْراً- بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ ورِمَالٍ دَمِثَةٍ وعُيُونٍ وَشِلَةٍ و قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ ولا حَافِرٌ ولا ظِلْفٌ... ابْتِلاءً عَظِيماً وامْتِحَاناً شَدِيداً واخْتِبَاراً مُبِيناً وتَمْحِيصاً بَلِيغاً، وَلوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ- أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ ومَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وأَنْهَارٍ وسَهْلٍ و قَرَارٍ جَمَّ الأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ ورَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ ورِيَاضٍ نَاضِرَةٍ و طُرُقٍ عَامِرَةٍ، لكانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ البَلاءِ. (146).
الحكمة في التشريعات وعللها: قال عليه السلام: (ما حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ والزَّكَوَاتِ ومُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ في الأَيَّامِ المَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لأَطْرَافِهِمْ وتَخْشِيعاً لأَبْصَارِهِمْ وتَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وإِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ ولِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً والْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالأَرْضِ تَصَاغُراً ولُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الأَرْضِ و غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ والْفَقْر). (147).
التذكير بحال المؤمنين وتعرضهم للبلاء: وتَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ والبَلاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الخَلائِقِ أَعْبَاءً وأَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلاءً وأَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالا اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ و جَرَّعُوهُمُ الْمُرَار. (148).
النبي والتربية الإلهية
يشير عليه السلام الى الرعاية الإلهية والتربية الربانية للنبي الأكرم (ص) قائلا: ولَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ ومَحَاسِنَ أَخْلاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ ونَهَارَه. (149). ومن معالم التربية النبوية إليه(عليه السلام):
تتلمّذه على يد الرسول الأكرم (ص)
بين عليه السلام علاقته بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ومدى التصاقه به وتلمّذه عليه بقوله: وقدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله)- بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ- وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ- ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ ويُمِسُّنِي جَسَدَهُ- ويُشِمُّنِي عَرْفَهُ- وكانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ- ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ- ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ- يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً- ويَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ- ولَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ- فَأَرَاهُ وَ لا يَرَاهُ غَيْرِي- وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الإِسْلامِ- غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ (ص) وخَدِيجَةَ وأَنَا ثَالِثُهُمَا. (150).
رؤية الوحي وسماع صوته
يشير عليه السلام الى قضية مهمة في الخطبة تكشف عن المرتبة الإيمانية العالية التي وصل إليها والمكانة السامية التي حظي بها الى جنب النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وهي أنّه (عليه السلام) بلغ مرتبة من الرقي الإيماني يصفها بقوله: أَرَى نُورَ الْوَحْيِ والرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النبوة- ولَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله)- فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟- فَقَالَ: هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ- إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وتَرَى مَا أَرَى- إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ ولَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ- وإِنَّكَ لَعَلَى خَيْر. (151).
معجزة إنقلاع الشجرة
وفي ختام الخطبة بيّن عليه السلام معجزة عظيمة وقعت على يدي الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) بعد أن طلب منه كبار القرشيين ذلك، حيث قال عليه السلام: ولَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ (صلى الله عليه وآله) لَمَّا أَتَاهُ الْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ- فَقَالُوا لَهُ: يا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً- لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ و لا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ- ونَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وأَرَيْتَنَاهُ- عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ ورَسُولٌ- وإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَال (صلى الله عليه وآله): ومَا تَسْأَلُونَ؟ قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا- وتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ (صلى الله عليه وآله): "إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"- فَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ-وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْر- وإِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ ومَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ. (152) ثُمَّ قَالَ (ص): يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ- إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ- وتَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ- حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ- فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا- وجَاءَتْ ولَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ- وقَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ- حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (ص) مُرَفْرِفَةً- وأَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص)- وبِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وكُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ (ص). فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَاسْتِكْبَاراً: فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا ويَبْقَى نِصْفُهَا- فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا- كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَأَشَدِّهِ دَوِيّاً- فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ (ص)- فَقَالُوا كُفْراً وعُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ- فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كان- فَأَمَرَهُ (ص) فَرَجَعَ. فَقُلْتُ أَنَا: لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ- وأَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى- تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وإِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ. فَقَالَ الْقَوْمُ: كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ- عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ- وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي(153).
الخاتمة:
1-لا يختلف اثنان في أن الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) يمثل مشعلاً وهاجاً في سماء الخطباء على مر عصور تاريخ الامة الاسلامية عبر خطبه التي احتوت على مضامين الإصلاح الفكري للإنسان.
2- احتل موضوع الإصلاح الفكري مكانة بارزة في الخطب الدينية لما يمثله من أثر في سعادة المجتمع ورقيه وديمومته.
3- إنَّ الخطبة الناجحة لها جملة من المقومات ومن أبرزها: مراعاة الكلام لمقتضى الحال والتفاعل الصادق المخلص أثناء الخطابة والوضوح واستخدام الأساليب البلاغية، مثل التوافق في تقسيم الجمل وغيرها من الخصائص التي تجعل الخطب مؤثرة في الاخرين.
4- نتلمس براعة الصياغة ودقة المعنى ورصانة الاسلوب وبلاغة المفردات في خطب الامام علي (عليه السلام) وعلى وجه الخصوص الخطبة الغراء مما جعلها خطبة مؤثرة في الاخرين ومجال اهتمام الباحثين.
5- برزت أهمية الإصلاح الفكري في مضامين الخطبة الغراء كما توضَّح ذلك في أثناء البحث وكيف عالج الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الأخطاء والتخلف في المجتمع.
6- احتوت الخطبة الغراء على الإصلاح العقدي والإصلاح الفكري والإصلاح الاجتماعي والتربية والأخلاق.
اضف تعليق