إنّ السَّبابَ لا يُقدِّمُ ولا يُؤخِّر، بل على العكس، يصرف الناس عن العمل الفعلي الجادِّ والسعي الحثيث للتقدُّم على العدو في كل الجهات، إلى مجرّد تفريغِ شحنة الغضب بالسَّباب، فيشعر حينئذٍ بالرّاحة، عكس من لا يسبُّ، فإنّ طاقته الغضبيّة تستدعي الـمُتَنفَّس عبر السَّعي العملي للغلبة على العدو، بالفكرِ والـمنطق...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (إِنَّ هذا أَخي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنيها وَعَزَّني فِي الْخِطابِ * قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَليلٌ ما هُمْ)[1].
كثيراً ما يسأل الناس: ما هو مفتاح طول العمر، ونماء الثروة، وزيادة الرزق، والمحبّوبيّة لدى الناس، والجنّة؟ وبالعكس، ما هو العامل الذي يؤدّي إلى قصر العمر، وأفول الثروة، ونقص الرزق، والمبغوضيّة لدى الناس، ودخول النّار؟
الـمُستفاد من الروايات الشريفة أنّ هنالك شيئًا واحدًا يحمل، في اتجاهين متضادين، هاتين الخاصّتين المتقابلتين، وأنّه هو مفتاح الجنّة والرّزق... إلخ، كما أنّه، في حالات معاكسة، مفتاح النّار ونقص الرّزق... إلخ، فما هو ذلك الشيء الواحد؟
بصيرة قرآنية: عوامل البغي والعدوان الأربعة
لنُمهّد للإجابة عن ذلك ببصيرة قرآنيّة مهمّة على ضوء الآية الكريمة – مورد البحث وآيات مناظرة، إذ تكشف لنا تلك الآيات الكريمة عن الروابط الخلفيّة لهذا المفتاح – الـمُزدوج.
فإنّ الـمُستفاد من الآيات الكريمة أنّ هنالك أربعة عوامل تقف وراء البغي والعُدوان على الآخرين: وهي الخِلطة، والسّلطة، والاستغناء، والشّاكلة، بحسب الآيات التالية:
الخِلطة
1- قال تعالى: (وَإِنَّ كَثيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَليلٌ ما هُمْ)، فالخِلطة هي الحاضنة للبغي وهي المقتضية له، إذ مع الخِلطة تتكوّن أنواع من العداوات، ويتولّد الحسد والحِقد، وفيها تنفجر القوّة الغضبيّة... إلخ. ولو كان الإنسان مُنعزلًا في منقطع جبل أو منخفض وادٍ أو عمق غارٍ، أكان يمكن أن يبغي على أحد بضربٍ، أو إيذاءٍ، أو استهزاءٍ، أو ازدراءٍ، أو حتّى بغيبةٍ، أو تُهمةٍ، أو نميمةٍ، أو غير ذلك؟
السلطة
2- السُّلطة، وهي منشأ الطُّغيان والعُدوان، بمختلف درجاتها في كثير من الناس إن لم يكن أكثرهم، ولذا كان من سُبُل مكافحة ذلك التعدُّديّة ودفعُ الله الناس بعضهم ببعض، قال تعالى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ)[2]، (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثيراً)[3].
والغريب أن بعضنا أتاه الله السُّلطة، سواء على زوجته وأولاده، أو تلامذته، أو موظّفيه أو العمّال الذين يعملون تحت أمرته، فبدل أن يشكر نعمته تعالى عليه إذ منحه العزّة والسّلطة، فيكرمهم كما أكرمه الله ويعزّهم كما أعزّه الله (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ)[4] تراه يطغى ويتجبّر ويسيء استغلال موقعه وسلطته فيهين مثلاً زوجته أو يضربها مستقوياً عليها بسلطانه، غافلًا أو متغافلاً عن أنّ الله تعالى للظّالمين لبمرصاد.
الاستغناء
3- الاستغناء، قال تعالى: (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)[5]، والاستغناء قد يكون بالمال، وقد يكون بالعلم أو الاتباع وكثرتهم أو الشّهرة أو العلاقات الواسعة أو السمعة وماء الوجه، وهي مثار الطّغيان أيضًا.
واللافت للنظر أنّ النّاس صنفان: فصنف كالذهب يتألّق ويبرق كلما سُلّطت عليه النّار أكثر، وقسم كالخشب يحترق ويحرق... والاستغناء يفعل كذلك في النّفوس الشّريفة الأصيلة فيزيدها صفاء وعطاء وتواضعًا، وإخباتاً شكرًا لنعمته تعالى، وأما النّفوس الحقيرة الدنيئة فإن الاستغناء يزيدها طغيانًا وتجبّرًا وبخلًا ودناءة، وهكذا ترى بعضهم إذا أعطاه الله المال ينفق منه بسخاء وإذا أعطاه أكثر ازداد عطاء، عكس ذلك الذي يزداد بخلاً كلما حصل على ثروة أكبر، وبعضهم تراه كلما حصل على سمعة أحسن، جنّد ماء وجهه وسمعته أكثر فأكثر في قضاء حوائج النّاس والتّوسّط لدى هذا وذاك لحل مشاكلهم، أو كلما ازداد علمًا ازداد تواضعًا وصار وَصَولًا مع الطّلاب والنّاس أكثر، ومَثَلهما كـمَثَل الأرض الطّيبة التي إذا هطل عليها الرّذاذ فالمطر فالغيث ازدادت طيبًا وعطاء، عكس الأرض السّبخة التي، على العكس، تحوّل الماء العذب الهابط عليها إلى ماءٍ أجاج.
والحاصل أنّ بعض النّاس هم كما قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)[6].
الشاكلة
4- والشّاكلة، وقد قال تعالى: (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)[7]، إذ إنّ سيرة الطّغاة ومسيرتهم واحدة، فكل طاغٍ جديد يخطو إثر خطوات الطّاغوت السّابق، فكما كان ذلك يُصادر أموال النّاس يُصادرها هذا، وكما كان ذلك يزيد الضرائب باستمرار يزيدها هذا، وكما كان ذلك يُصادر الحريّات ويسجن الأحرار ويَسحق الحقوق و... يفعل هذا الجديد، حتى يتوهّم أنّه كان الطّاغوت السّابق قد أوصى اللاحق، الذي قد يكون ثائرًا عليه، بوصية الطّغيان والاستبداد.
لكنّ الجواب: كلا، لم تكن وصية أو توصية... بل هي الشّاكلة وطبيعة الطّغيان المتجذّرة في أنفسهم (أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ)، ولعلّ هذا هو الـمُستظهر من الآية الشّريفة، ويكشف عن ذلك أن كثيرًا من الطّغاة الجُدد هم ممّن ثاروا على الملك أو الأمير أو الخليفة أو الرئيس القديم، مُتسلّحين بأنّه ظالم للنّاس، فإذا وصلوا هم إلى الحُكم قلّدوهم في أفعالهم تمامًا كما تُقلّد القِرَدة بعضها بعضًا، بل ربّما زادوا.
وكما قال الشاعر:
تاللهِ مَا فَعَلَتْ أُميَّةُ فيهِمُ --- مِعْشَارَ مَا فَعَلَتْ بنو العبَّاسِ
وهكذا الشواكل الخبيثة لا تزيدها النِعم إلّا خبثًا ودناءة، عكس الشواكل الحسنة (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبيلاً)[8]، و(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)[9].
بوابة الفساد والصلاح، في قِطعة لحم مدلّاة!
فذلك كلّه في عالم الثّبوت والواقع: إنّ هذه الأربعة (الخِلطَة، والسُّلطة، والشّاكلة، والاستغناء) هي عوامل البغي والطّغيان والعُدوان... ولكن، وفي عالم الإثبات، توجد منطقة حدوديّة، هي التي تُشكّل المدخل والبوّابة (الحسنة أو السّيئة) لكي تتمخّض الخِلطَة والسُّلطة... إلخ عن آثارها الإيجابية أو السلبية، وهي التي تقوم بهندسة العلاقة مع الآخرين.
وهذا الوسيط أو البوابة الفردوسيّة أو الجهنّميّة هي التي، كما سبق، تحمل الحالتين المتناقضتين وتكون هي السّبب في دخول الجنّة أو النّار، وطول العمر أو نُقصانه، وزيادة الرّزق ونموّ الثّروة أو العدم، والمحبوبيّة لدى النّاس ولدى الله أو المبغوضيّة.
وهذه البوابة قريبة منّا جدًّا، بل هي معنا دومًا، إلّا أنّنا لا نلتفت عادةً إلى دورها المفتاحي الرئيس في الخير والشّر، وإلى كونها البوابة العُظمى، والمنطقة الحدوديّة الخطِرة، التي إمّا أن يتسلّل منها العدو فيعيث في الأرض الفساد، وإمّا أن يُحبس ويُبعد ويُصّد ويُمنع، وهي بكل بساطة قطعة اللحم المدلّاة في الفم المسماة بـ (اللّسان) الذي يُشكّل علينا أعظم الخطر الذي يسوقنا، لا سمح الله، إلى النار، أو يكون لنا أعظم قائد يقودنا، بلطف الله وكرمه، إلى الجنّة.
ما أحسن شيء؟ وما أسوأ شيء؟
وعن ذلك كلّه ورد عن الإمام علي (عليه السّلام) أنّه سُئِلَ: (أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ أَحْسَنُ؟ فَقَالَ (عليه السلام): الْكَلَامُ، فَقِيلَ: أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ أَقْبَحُ؟ قَالَ: الْكَلَامُ، ثُمَّ قَالَ: بِالْكَلَامِ ابْيَضَّتِ الْوُجُوهُ، وَبِالْكَلَامِ اسْوَدَّتِ الْوُجُوهُ)[10].
وعن الإمام الباقر (عليه السلام): (إِنَّ هَذَا اللِّسَانَ مِفْتَاحُ كُلِ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَيَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَخْتِمَ عَلَى لِسَانِهِ كَمَا يَخْتِمُ عَلَى ذَهَبِهِ وَفِضَّتِهِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ مُؤْمِناً أَمْسَكَ لِسَانَهُ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، فَإِنَّ ذَلِكَ صَدَقَةٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ.
ثُمَّ قَالَ (عليه السلام): لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنَ الذُّنُوبِ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ)[11].
فهذه اللّحمة المدلّاة، التي لا قيمة لها من النّاحية المادّيّة لو قُطعت فبيعت كقطعة لحم، تزن في ميزان الأعمال الجنّة بعظمتها، كما أنّها السّبب في إدخال الملايين إلى النّار بدون ريب!
القول الحسن هو المفتاح – الأمّ لكل خير
إذا عرفنا ذلك فلنعد إلى الإجابة عن السؤال المطروح في صدر المقال وهو (ما هو مفتاح طول العمر، نماء الثروة...) وقد أجاب عنه الإمام السجاد (عليه السّلام) بقوله: (الْقَوْلُ الْحَسَنُ يُثْرِي الْمَالَ وَيُنْمِي الرِّزْقَ وَيُنْسِي فِي الْأَجَلِ وَيُحَبِّبُ إِلَى الْأَهْلِ وَيُدْخِلُ الْجَنَّةَ)[12].
ولكن كيف؟
ولكن كيف يكون ذلك؟ وكيف يُؤثّر اللّسان في كلّ ذلك (أو بالعكس: كيف يؤثر في أضداده) وكيف ينتج غير ذلك أيضًا؟
والجواب جوابان:
أوّلًا: التّأثير الغيبيّ الّذي لا شكّ فيه، وقد قال تعالى: (كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ * تُؤْتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)[13]، و(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)[14].
ثانيًا: من النّاحية الظّاهريّة، وحسب المعادلات الطّبيعيّة، فإنّ القول الحسن يُثمر ذلك كلّه، وعكسه يُنتج عكسه:
1-2- أمّا أنّه يُثري المال ويُنمي الرّزق، فلأنّ من كان منهجه القول الحسن، وكان لسانه حُلوًا، فإنّ أصدقاءه وعملاءه يزدادون، وتتوسّع شبكة علاقاته الاجتماعيّة، فتتوفّر فرص أكثر له في الاستثمار والاتّجار والاستيراد والتّصدير، كما تزداد فرصه في الاقتراض، ويزداد مَن يُقدّمون له المشورة التّجاريّة النّافعة، فتنخفض خسائره وتزداد ثرواته، بل لو انهارت تجارته أو أوشكت، وجد كثرة كاثرة، ممّن يُعينه وممّن يستعين به، كما أنّه بالقولِ الحَسَن، يمكن للتاجر، أو الـمُزارع، و... أن يُقنع العملاء والآخرين بشراء بضاعته، أو بالبيع له، أو باختياره شريكاً... إلخ.
وبصورة أبسط: لو وُجد هنالك بقّالان في المنطقة، أو خيّاطان، أو سائقان، أو نجّاران، أو حدّادان، أو متجران، أو تاجرَان... وكان أحدهما ذا لسانٍ حُلو وأخلاق دَمِثة، وكان الآخر ذا لسانٍ خَشِنٍ حادّ، فإنّ من الطّبيعي، مع تحييد سائر العوامل، أن يكسب حُلو اللّسان أكثر العملاء، وأن يُبادر النّاس إلى الشّراء منه والتّعامل معه، بدل الآخر الذي يُمطرهم بالكلام البذيء وبجارح القول، أو على الأقل يُعاملهم بجفاءٍ وجفاف.
3- وأمّا أنّه يُحبّب إلى الأهل فواضح.
4- وأمّا أنّه يُنسئ الأجل ويُطيل في العمر، فلأنّ الكلام الطّيّب الحسن يَشعّ بتموّجات إيجابيّة على نفسه وعلى الآخرين، فيَرتدّ إليه منهم كلام طيّب أيضًا، وبذلك تنشرح النّفس وتبتهج الرّوح وتَبتعد أشباح الحزن والكآبة، وكلّها عوامل مساعدة على طول العمر، عكس الّذي يتكلّم بجارح القول أو خشن الكلام، فإنّه يَرتدّ عليه، عبر الآخرين، بكلام خشن وجارح، وذلك كلّه يُشكّل عامل ضغط مضاعف إذ أنّه يشكّل عاملًا من عوامل ثوران القوّة الغَضَبيّة، التي تُعدّ من أسباب الجلطة في المخّ والقلب، كما يزيد، بدوره، الأحقاد التي تُشكّل على القلب والمخّ أكبر الضّغط... وهكذا.
5- وأمّا أنّ القول الحسن يُدخِل الجنّة (والقول السيّء يُدخِل النّار)، فلأنّه يُدخِل السّرور في قلوب النّاس، وهو من عوامل النجاة من أهوال المحشر والدّخول في الجنّة[15]، عكس القول السيّء الذي يزيد النّاس حُزنًا إلى أحزانهم، بل والّذي يَفتتح سلسلة لا تنقطع عادة من الغيبة والتّهمة والنّميمة والسّباب والشّتائم وغيرها من المعاصي الكبيرة أو الصّغيرة.
ولذلك كلّه، ولغيره، ورد قوله تعالى: (قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)[16]، بل ورد في تفسيرها أو تأويلها: (قولوا للنّاس أحسن ما تُحبّون أن يُقال لكم)[17]، إذ ورد عن الإمام أبي جعفر (عليه السلام) قال: (فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قَالَ: قُولُوا لِلنَّاسِ أَحْسَنَ مَا تُحِبُّونَ أَنْ يُقَالَ فِيكُمْ)[18].
وتفسير الحسن بالأحسن إمّا لأنّه مصداقه الأجلى، لأنّ الأحسن من دائرة الحسن لكنّه أجلى أفراده، وإمّا هو تأويل.
والمقصود أنّ من يَنتهج منهج قول الأحسن للنّاس، لا الحسن فقط، تتضاعف له تلك الثّمرات السّابقة (نموّ الرّزق وطول العمر والمحبّة في الأهل... إلخ)، وذلك عكس من ينتهج منهج القول السيء أو الأسوأ.
لماذا ينبغي سجن اللسان طويلاً طويلاً؟
ولذلك كلّه، ورد في الحديث: (مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَقَّ بِطُولِ السِّجْنِ مِنَ اللِّسَانِ)[19].
ولذلك، لأنّ اللّسان كما ورد في الحديث: (اللِّسَانُ سَبُعٌ، إِنْ خُلِّيَ عَنْهُ عَقَرَ)[20]، و(اللِّسَانَ كَلْبٌ عَقُورٌ، فَإِنْ أَنْتَ خَلَّيْتَهُ عَقَرَ، وَرُبَّ كَلِمَةٍ سَلَبَتْ نِعْمَةً)[21].
قصة العقرب العملاقة التي لدغته في لسانه!
ومن أروع القصص التي تُروى في هذا الحقل، المكاشفة التّالية التي نقلها أحد العلماء، وهي أنّ رجلًا كان صالحًا في مختلف جهاته، إلّا أنّه كان يمتلك خصلة سيّئة واحدة، وهي أنّه كان يُؤذي زوجته بكلمة جارحة واحدة فقط، حيث كانت تُسمّى سُكينة، فكان يتعمّد إيذاءها بليّ اسمها[22]، وكانت تتألّم من ذلك، إلّا أنّها، ككثير من النّساء، لم تكن تملك أمام طغيان الزّوج شيئًا...
إلى أن توفي الرّجل.. فذهب أحد الصّالحين ذات ليلة إلى المقبرة وسط الظّلام حيث لم يكن يوجد أحد، فكُشف عن بصره، فرأى جانبًا من عالم البرزخ، حيث وجد قبر صاحبه مفتوحًا، وبداخله سُلَّم، فنزل إلى أن وصل إلى بوّابة تفتح على روضةٍ غنّاء وبساتين شاسعة وحدائق ناضرة، فدخل وقد دُهش لجمال الحدائق الغنّاء بأثمارها وأزهارها وأطيارها وأريجها الزّاكي..
ثم سار مدّة حتى وصل إلى قصر فخم عظيم لا نظير له في الأرض كلّها.. وعلى البوّابة حُرّاس، إلّا أنّهم لم يمنعوه من الدّخول، فدخل إلى أن وصل إلى قاعة ضخمة فخمة، ووجد صاحبه الصّالح جالسًا على سرير الملوكيّة، وحوله الملائكة يخدمونه من كلّ حدبٍ وصوب..
فرحّب به صاحبه - الملك وناداه وأجلسه إلى جواره، فوجد أمامه من صنوف الثّمرات وأنواع العصير والحلويات والأطعمة والأشربة ما يَدهش له الإنسان.. ومضت فترة، وإذا به يرى صاحبه – الملك – يرتعد خوفًا وقد انخطف لونه، وهو ينظر باتّجاه الباب.. فنظر، وإذا به يرى عقربًا سوداء بحجم البعير دخلت وأسرعت نحو صاحبه، والغريب أنه لم يمنعها الحرس ولا الملائكة، فجاءت حتى وقفت أمامه، فاضطرّ، مشدوهاً، أن يُخرج لسانه، فلدغته لدغة تحوّل على أثرها إلى حفنة رماد.. وذهبت العقرب.. ثم أحياه الله تعالى، فعاد كما كان، والتفّت الملائكة حوله تُغسّل وجهه وتُطيّبه وتُعطّره حتى هَدأ روعه من جديد.
وهنا سأله صاحبه: ما الخبر؟ وما هذا النّعيم الـمُذهل؟ ثم ما هذه العقرب العجيبة؟
أجاب: أمّا البساتين والمزارع والحقول والحور والغلمان، فهي ثمرات أعمالي الصّالحة، وأمّا هذه العقرب، فهي جزاء إيذائي زوجتي بلساني البذيء كلّ يوم.. وهذه العقرب، هذا شأنها معي يوميًّا في هذا الوقت، وقد نغّصت عليّ كلّ النّعيم الذي أنا فيه..
فقال له صاحبه: هل من حلّ؟
قال: نعم (ولعلّه لذلك كُشف عنك الغطاء لترى هذا المشهد من عالم البرزخ)، وهو أن تذهب وتسترضي زوجتي..
بعدها خرج الرّجل كما دخل، وفجأة غاب عنه كلّ شيء، ولم يجد إلّا المقبرة والظّلام الدّامس.. فذهب إلى زوجته واستعطفها من وراء الباب، لكنها كانت مجروحة جدًّا، فلم ترضَ.. فألحّ وتوسّل، وألحّ وتوسّل، حتى رضيت..
ثم إنّه في إحدى اللّيالي شاهد صاحبه في المنام مبتهجاً مسروراً، وهو يشكره أحرّ الشكر، إذ حرّره من ذلك العذاب الأليم.
ولا بأس من الإشارة إلى أنّ هذه القصّة سمعتها من أحد العلماء كمكاشفة، ولكن:
1- لا يضرّنا أن تكون رؤيا لا مكاشفة.
2- بل لا يضرّنا أن تكون قصّة رمزيّة تحمل مضامين عالية، إذ إنها تُطابق الرّوايات الدّالّة على تَجسُّم الأعمال، فلنَفترض أنّها قصّة رمزيّة لكنّها تربويّة.. ألا ترى بعض قصص الخيال العلمي؟ أو المسرحيّات والتّمثيليّات التّوجيهيّة؟ أو قصص المغامرات (التّربوي منها طبعًا)؟ فإنّها، وإن كنّا نعلم بأنّها لا واقع لها، إلّا أنّنا نقرأها بشوق، وهي تفعل فِعلها التّربوي (أو التّخريبي في القصص الغراميّة والعدوانيّة وشِبهها)، إذ تستخدم أسلحة الخيال الـمُجسَّد لإيصال رسائل فكريّة – تربويّة، أو العكس.
ولا بُدّ من الإلفات أيضًا: أنّ أصل المكاشفة أمرٌ مُمكن، ولكنّ أكثر من يدّعيها كاذب أو واهم، كما أنّ المائز بين المكاشفات الشّيطانيّة والرّحمانيّة غير واضح عادة، وقد فصّلنا الكلام عن ذلك في كتاب (فقه الرؤى) و(مناشئ الضّلال ومباعث الانحراف)، فليراجع.
ومن ذلك كلّه نَكتشف عمق الحديث السابق: (مَا مِنْ شَيْءٍ أَحَقَّ بِطُولِ السِّجْنِ مِنَ اللِّسَانِ)[23]، بل فوق ذلك ما ورد من: (وَإِنَّ أَكْثَرَ خَطَايَا ابْنِ آدَمَ مِنْ لِسَانِهِ)[24]، ولذا ورد (إِنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَهُوَ فِي اللِّسَانِ)[25]
وقال الشاعر:
اِحفَظ لِسانَكَ أَيُّها الإِنسانُ --- لا يَلدَغَنَّــكَ إِنَّـــهُ ثُعبــانُ
كَم في الـمَقابِــرِ مِن قَتيلِ لِسانِهِ --- كانَت تَهـابُ لِقاءَهُ الأَقــرانُ
بل ورد عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يُعَذِّبُ اللَّهُ اللِّسَانَ بِعَذَابٍ لَا يُعَذِّبُ بِهِ شَيْئاً مِنَ الْجَوَارِحِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، عَذَّبْتَنِي بِعَذَابٍ لَمْ تُعَذِّبْ بِهِ شَيْئاً، فَيُقَالُ لَهُ: خَرَجَتْ مِنْكَ كَلِمَةٌ، فَبَلَغَتْ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا، فَسُفِكَ بِهَا الدَّمُ الْحَرَامُ، وَانْتُهِبَ بِهَا الْمَالُ الْحَرَامُ، وَانْتُهِكَ بِهَا الْفَرْجُ الْحَرَامُ)[26].
أشعار الفناء التي أشعلت حرباً استمرت أربعين سنة!
ومن أعجب القصص التي تكشف عن دَور الكلمة السّيّئة في إراقة الدّماء، قضيّة حرب البسوس، فقد كان جسّاس (من قبيلة بكر) بَطلًا (إلّا أنّه كان عديم الحكمة تمامًا)، وكانت خالته شاعرة مُفوّهة (إلّا أنّها كانت مثله حمقاء غير حكيمة تمامًا)، فعندما وصلها نبأ أنّ ناقة جارهم الجُرمي الـمُسمّاة بسراب، رماها كُليب (من قبيلة تغلب) فجرحها جُرحًا بليغًا، ثارت خالة جسّاس، وأنشأت أبياتًا من الشِّعر سمّتها العرب (أشعار الفناء)، إذ إنّها أشعلت نار حربٍ بين القبيلتين استمرّت أربعين عامًا! وقُتل فيها الكثيرون جدًّا.. والأشعار هي:
لَعَمْرُكَ لَوْ أَصْبَحْتُ فِي دَارِ مُنْقِذٍ --- لَمَا ضِيمَ سَعْدٌ وَهْوَ جَارٌ لأَبْيَاتِي
وَلَكِنَّنِي أَصْبَحْتُ فِي دَارِ غُرْبَةٍ --- مَتَى يَعْدُ فِيهَا الذِّئْبُ يَعْدُ عَلَى شَاتِي
فَيَا سَعْدُ لا تُغْرَرْ بِنَفْسِكَ وَارْتَحِلْ --- فَإِنَّكَ فِي قَوْمٍ عَنِ الجَارِ أَمْوَاتِ
وَدُونَكَ أَذْوَادِي فَإِنِّيَ عَنْهُمُ --- لَرَاحِلَةٌ لا يُفْقِدُونِي بُنَيَّاتِي
هذه الأبيات الخرقاء أثارت حميّة جسّاس البطل عديم الحكمة، فانطلق إلى كُليب وتتبّعه حتى قتله.. فانتفض أخ كُليب الـمُهلهل طالبًا الثّأر، واندلعت معركة قاتلة استمرّت ٤٠ سنة، بأبياتٍ خرقاء أطلقتها غيرة حمقاء.
والعجيب: الوحشيّة في انتقام جسّاس إذ، وكما قالوا، خرج جسّاس على فرسِه وأخذ رمحه وتبِع كليبًا، وتبعه عمرو بن الحارث، وعندما وصل جسَّاس إلى كليب طعنه برمحه ودقَّ صلبَه، فقال كُليب له: أغِثْني بشربة ماء.
أجاب جسَّاس بوحشية: تركت الماء وراءَك.
وعندما وصل عمرو بن الحارث قال له كليب: يا عمرو أغثْني بشربة، لكنّ عمراً لم يستجب له، بل نزل إليه وأجهز عليْه، وهو الَّذي ضرب فيه المثل، فقيل: الـمُسْتَجِيرُ بِعَمْرٍو عِنْدَ كُرْبَتِهِ كَالـمُسْتَجِيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنَّارِ.
ثم أقبل جسَّاس متبجحاً ودخل على قومِه وقد بدت ركبتُه، فنظر إليه أبوه وقال: أتاكم جسَّاس بداهية، قالوا: وما أدراك؟
قال: لا أعلم أنَّ ركبته بدت قبل يومها.
ثم قال أبوه: ما وراءَك يا جسَّاس؟
جسَّاس: طعنتُ طعنةً لتجمعن منها عجائز وائل رقصًا.
الأب: وما هي؟ ثكِلتْك أمُّك!
- قتلتُ كليبًا.
الأب: بئس لَعمرُ الله ما جنيتَ على قومك.
ثم قوَّضَتْ بكرٌ أبنِيَتَها وجمعت النَّعم والخيول وأزْمعوا على الرَّحيل.
وجاءت أشراف تغلِب إلى مرَّة بن ذُهل، وقالوا له: نعرِض عليكم خصالاً أربعًا: إمَّا أن تُحيي كليبًا، أو تدفع إليْنا جسَّاسًا قاتل كليب فنقْتله، أو تدفع لنا همَّامًا (أخ جسّاس)، أو تمكننا من نفسِك، فإنَّ فيك وفاءً من ذمَّة.
فقال: أمَّا أن أُحيي كليبًا فهذا مما لا يكون، وأمَّا أن أدفع إليْكم جسَّاسًا فإنَّه شابّ طعن على عجل ورحَل، ولا أدْري في أيّ البلاد صار وظَعَن، وأمَّا أن أدفَعَ لكُم همَّامًا فإنَّه أبو عشَرة وأخو عشَرة وعمّ عشَرة، وكلُّهم فرسان، فلن يسلِموه إليَّ فأدفعه إليْكم يُقْتَل بِجريرة غيره وبِجناية سواه، وأمَّا أن أمكِّنَكم من نفسي فما أنا إلاَّ رجُل لا تلبث الحرْب أن تبدأَ فأكون أوَّل قتيل.
ولكُم عندي خصلتان: أوَّلهما: أن تأخُذوا أحد أبنائي فتجرّوه بنسعة فتذْبحوه ذبح الجزور، وإلاَّ فالثَّانية: ألف ناقة سوداء المقْتل تضْمَنُها بنو وائل.
- إنَّنا لم نأْتِ لترذل بنيك أو لتسومنا اللَّبن.
وانصرفوا عنْه عازمين على حرْب استمرَّت أربعين سنة، وبقِيت تُحْكى وتتناقل على مرّ الأجيال.
وكانت جليلة (أخت جسّاس القاتل، وزوجة كُليب المقتول) قالت أبياتًا تُعبّر أبلغ التّعبير عن عُمق الفاجعة، وفداحة الجريمة، وآثارها، وورطتها وقومها وسط معركة أشعل فتيلها جسّاس الأهوَج، وأثارتها أشعار خالته الحمقاء. وقد أنشأت هذه الأبيات عندما لامتها أخت المقتول حين وجدتها عازمة على الرحيل من بيت زوجها المقتول قائلة: (رحلة المعتدي وفراق الشَّامت) فأجابت جليلة: (وكيف تشمتُ الحرَّة بهتْك سترها، وترقُّب وترها! أسعد الله جَدَّ أُختي، أفلا قالت: نفرة الحياء وخوف الاعتداء)! ثمَّ أنشأت تقول:
يَا ابْنَةَ الأَقْوَامِ إِنْ شِئْتِ فَلا --- تَعْجَلِي بِاللَّوْمِ حَتَّى تَسْأَلِي
فَإِذَا أَنْتِ تَبَيَّنْتِ الَّذِي --- يُوجِبُ اللَّوْمَ فَلُومِي واعْذُلِي
إِنْ تَكُنْ أُخْتُ امْرِئٍ لِيمَتْ عَلَى --- شَفَقٍ مِنْهَا عَلَيْهِ فَافْعَلِي
جَلَّ عِنْدِي فِعْلُ جَسَّاسٍ فَيَا --- حَسْرَتِي عَمَّا انْجَلَتْ أَوْ تَنْجَلِي
فِعْلُ جَسَّاسٍ عَلَى وَجْدِي بِهِ --- قَاطِعٌ ظَهْرِي وَمُدْنٍ أَجَلِي
لَوْ بِعَيْنٍ فُقِئَتْ عَيْنِي سِوَى --- أُخْتِهَا فَانْفَقَأَتْ لَمْ أَحْفِلِ
تَحْمِلُ العَيْنُ قَذَى العَيْنِ كَمَا --- تَحْمِلُ الأُمُّ أذَىَ مَا تَفْتَلِي
يَا قَتِيلاً قَوَّضَ الدَّهْرُ بِهِ --- سَقْفَ بَيْتَيَّ جَمِيعًا مِنْ عَلِ
هَدَمَ البَيْتَ الَّذِي اسْتَحْدَثْتُهُ --- وَانْثَنَى فِي هَدْمِ بَيْتِي الأَوَّلِ
وَرَمَانِي قَتْلُهُ مِنْ كَثَبٍ --- رَمْيَةَ الـمُصْمِي بِهِ الـمُسْتَأْصِلِ
يَا نِسَائِي دُونَكُنَّ اليَوْمَ قَدْ --- خَصَّنِي الدَّهْرُ بِرُزْءٍ مُعْضِلِ
خَصَّنِي قَتْلُ كُلَيْبٍ بِلَظًى --- مِنْ وَرَائِي وَلَظًى مُسْتَقْبِلِي
لَيْسَ مَنْ يَبْكِي لِيَوْمَيْنِ كَمَنْ --- إِنَّمَا يَبْكِي لِيَوْمٍ يَنْجَلِي
يَشْتَفِي الـمُدْرِكُ بِالثَّأْرِ وَفِي --- دَرَكِي ثَأْرِيَ ثُكْلُ الـمُثْكِلِ
لَيْتَهُ كَانَ دَمِي فَاحْتَلَبُوا --- بَدَلاً مِنْهُ دَمًا مِنْ أَكْحَلِي
إِنَّنِي قَاتِلَةٌ مَقْتُولَةٌ --- وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَرْتَاحَ لِي
ولذلك كله ورد: (كَمْ مِنْ دَمٍ سَفَكَهُ فَمٌ)[27]، و(كَمْ مِنْ إِنْسَانٍ أَهْلَكَهُ لِسَانٌ)[28].
ولذلك كله ورد في الحديث (إذا أصْبحَ ابنُ آدَمَ، فإنَّ الأعْضاءَ كُلَّها تَكْفُرُ لِلِّسان فَتقول: اتَّقِ الله فِينا فإنَّما نَحْنُ بِكَ، فإنْ اسْتَقمْتَ اسْتَقمْنا، وإنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنا)[29].
والسرّ واضح في أنّ اللسان إن استقام استقامت الأعضاء وإن أعوجّ أعوجّت.. لأنه إن أعوجّ بالسباب والشتائم أو التهمة والنميمة أثار حفيظة الآخرين، فقاد إلى الضرب والجرح فيكون هو الذي دفع الرِّجل للسعي إلى هدر دم واليدَ إلى جرح صديق أو منافس أو عدو لا يستحق القتل.. وهكذا.
وورد عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: (إِنَّ لِسَانَ ابْنِ آدَمَ يُشْرِفُ عَلَى جَمِيعِ جَوَارِحِهِ كُلَّ صَبَاحٍ، فَيَقُولُ: كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: بِخَيْرٍ إِنْ تَرَكْتَنَا، وَيَقُولُونَ اللَّهَ اللَّهَ فِينَا، وَيُنَاشِدُونَهُ، وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا نُثَابُ وَنُعَاقَبُ بِكَ)[30].
والظاهر أن إشرافَ اللّسانِ على جوارِحه وكلامه معها حقيقي، لا مجازي، ولا يصح لنافٍ أن ينفي فإنّ تلك العوالم ممّا لا يصحّ أن نحكم عليها بمقاييسنا المادّية الضيّقة، خاصّةً وقد قال تعالى: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبيحَهُمْ)[31]، والرّواياتُ الدّالّةُ على نُطقِ الأعضاءِ والأرضِ وغيرها كثيرة، والظّواهرُ حُجّة، على أنّها لو كانت رمزيّةً لَكَفى بها عِبرة، فإنّها تُعبّر عن واقع خطر اللّسان الذي قد يَلدغ الإنسان في كلّ آن.
ولذلك فإنّ على الإنسان أن يُراقب لِسانَه دائمًا أشدّ الرّقابة.. كما يُراقبُ ثُعبانًا جائعًا حُبِسَ معه في غُرفةٍ ضيّقة، وهو يراهُ مُتحفِّزًا للانقِضاض عليه.. أتراهُ يَغفل عنه ولو لثانية، أو ينشغل عنه بلهوِ الحديث أو غيره؟ ولو أنه فعل فما الذي يحصل؟ بل يمكن لنا أن نشير، كمثال مُعبّر عن ذلك إلى حالةُ التّمساح الذي يَختبئ تحتَ الماء مُتحفِّزًا، حتّى إذا جاءتِ الفريسةُ العَطشى، وقد تكون غزالًا أو حتّى أسدًا، لكي تَشرب الماء، فإنّه مهما كان حذرًا، مع ذلك قد يَقفز التّمساح فجأة، فيُمسك بها.. واللّسان أخطرُ حالًا من ذلك كلّه.
بدل شعار (الموت للعدو) لنتميز عليه ونكون الأكمل الأفضل
ولذلك كُلّه نَرى أن الأصحّ في منهجِ التّعامل مع الأعداء ليس السَّبابَ والشّتائمَ وإطلاقَ شِعار الموتُ لفلان شخص أو جهة، بل الأفضل هو ما أَرشَد إليه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) عندما وجد بعض أصحابه يَسُبّ معاوية وأصحابَه، فقال: (إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)[32].
إنّ السَّبابَ لا يُقدِّمُ ولا يُؤخِّر، بل على العكس، يصرف الناس عن العمل الفعلي الجادِّ والسعي الحثيث للتقدُّم على العدو في كل الجهات، إلى مجرّد تفريغِ شحنة الغضب بالسَّباب، فيشعر حينئذٍ بالرّاحة، عكس من لا يسبُّ، فإنّ طاقته الغضبيّة تستدعي الـمُتَنفَّس عبر السَّعي العملي للغلبة على العدو، بالفكرِ والـمنطق والإعلام والعمل الحقوقي والدّبلوماسي، ثمَّ بالـمُظاهرات والإضرابات السّلمية، ثمّ إذا اعتدى العدو عسكريًّا، فبالدِّفاع، كما فصّلنا ذلك في كتاب (قولوا للناس حسناً).
ولكن مع ذلك، ورغم جواز الدّفاع ووجوبه (كما كانت حرب صفّين دفاعيّة)، إلّا أنّ الأمير (عليه السّلام) يقول: (إِنِّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا سَبَّابِينَ، وَلَكِنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ)، فإنّ السَّبَّ سَهلٌ، لكنَّ الغَلَبةَ الواقعية والظاهرية تكون بالحُجّة وتعريف الناس على مكامن طغيان الخصم وعدوانه وظلمه (وَصَفْتُمْ أَعْمَالَهُمْ) و(وَذَكَرْتُمْ حَالَهُمْ) ونقاط ضعفه وما هم فيه من جهلٍ وتخلُّفٍ وغير ذلك فإنه هو الأبلغ في العذر..
وهذا يستدعي أن نكون أفضل منهم بالفعل في النِّظام والنَّظافة والأخلاق والحُريّات وحفظ حقوق الناس، إضافة إلى إعداد القوة، بل وأن نكون فوقهم وأفضل حالًا لشعوبنا منهم لشعوبهم.. وذلك يعني أن نسعى لتكون نسبة الغلاء والتضخُّم عندنا منخفضة أكثر منهم (إن لم يمكن تصفيرها)، وأن تكون نسبة الفقر عندنا أخفض منها عندهم، وكذا نسبة البطالة.. والجريمة.. والإدمان.. إلخ.
فلو كُنّا كذلك، وشاهدت شعوبنا وشعوبهم ذلك، لكانت شعوبهم النَّصير لنا عليهم، ولَما نَظَرت شعوبنا إليهم بنَظرِ الإكبار، ولكننا نعدل عن ذلك كله ثم نُريد أن نواجههم بشعار الموت للأعداء!
إنّنا إذا أثبتنا عمليًّا أن نُظُمَنا الإسلاميّة واقتصادنا وسياستنا أفضل من الغرب والشرق، لـ(رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ في دينِ اللَّهِ أَفْواجاً)[33]، لكنّنا نخدّر أنفسنا بالسِّباب والشَّتائم، ونزداد، عمليًّا، ظُلمًا لأهلنا وشعوبنا.. وفقرًا.. وبطالة.. وغلاءً... وجريمةً وغير ذلك، ولذلك لا نزداد إلا ضعفاً وتخلّفاً (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ)[34].
الكلام الجارح يتلف خلايا دماغية
ختامًا: سُمِّي الكلام الجارح جارحًا لأنّه لا يجرح الرّوح والنّفس فقط، بل يجرح بعض خلايا الدِّماغ (التي تبلغ مائتي مليار خلية) أو الوصلات العصبيّة بينها (والتي تبلغ التريليونات) أيضًا، كما يقوله عددٌ من علماء النّفس، ولذلك قال بعضهم (الكلمة ليست مجرّد موجات صوتيّة نصدرها، ولا مجموعة حروف نرسمها على الورق، هي أكثر من ذلك لأنّها تجسّد المشاعر والصّور في العقل، وتمثّل أخلاق وآداب المتحدث بها. الكلمات هي إعلانٌ عنك وعن شخصيّتِك، ومن قلب شرير تأتي كلمات الدّمار. وللكلمات القدرة على تحويل الأعداء إلى أصدقاء، كما أن لها القدرة على فعل العكس...
ويؤكد علماء النفس أنّ الكلمات الجارحة تسمى جارحة لأنها تسبب جروحًا حقيقية في الدماغ وتقتل عدة خلايا أو تتلف عملها، مما يسبب نوعًا من اضطراب الفكر. ولذلك يعاني الشخص المصاب من آلام نفسية وشعور سلبي وإحباط. علاوة على ذلك، غالبًا ما يصبح الشخص المصاب شخصًا آخر يفشل بشكل غير طبيعي).
وينتج أولاداً غير اسوياء
ومن هنا فإنَّ الآباء الذين يعاملون أبناءهم بالكلمات الجارحة، إذا تكاسلوا أو رسبوا في الامتحان أو غير ذلك، يخطئون أكبر الخطأ، إذ أنَّ هذه الكلمات الجارحة تترك جروحًا خطرة في نفوسهم وتشوّه شخصياتهم، بل وقد تفقدهم الثقة بأنفسهم، وهل رأيتم شخصًا ينجح في حياته إذا كان عديم الثقة بالنفس[35]؟
بل إن الأولاد ومن يسمعون جارح الكلمات، يختزنون في أنفسهم الإهانة والازدراء والتحقير والشتائم على شكل غضبٍ مكبوت.. ينفجر بمجرد أن صاروا آباء أو مدراء أو مسؤولين فيفرغون شحنتهم الغضبيّة وأحقادهم الدفينة على أولادهم.. موظّفيهم.. إلخ.. وتستمرّ رحلة العذاب هذه ككرة الثلج المتدحرجة التي تكبر باستمرار كلما تدحرجت أكثر وكلما مضى زمن أكثر.
ولذا ورد في الحديث (رُبَ كَلَامٍ كَلَّامٌ)[36]، وذلك على العكس من الأطفال الذين يتلقّون المحبة من أبويهم والنصيحة بلطف ورقّة عند كل خطأ.. فإنهم ينمون أسوياء ويختزنون جرعات المحبة فيرجعونها إلى المجتمع محبةً مضاعفة.
وأخيراً: ان الذين يمتهنون الكلام الجارح المستهجن يكونون كالمغناطيس للأشرار فيتجمع حولهم كل شرير بذيء، كما يشكلون جهاز طرد للأخيار فينفضّون من حولهم، ولذا ورد (إِيَّاكَ وَمَا يُسْتَهْجَنُ مِنَ الْكَلَامِ فَإِنَّهُ يَحْبِسُ عَلَيْكَ اللِّئَامَ وَيَنْفِرُ عَنْكَ الْكِرَامَ)[37]، على العكس ممن ينتهج الكلام الطيب فإنه يبتعد عنه اللئام ويلتف حوله الكرام إذ الجنس إلى الجنس يميل.
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين
اضف تعليق