إن دعوة القرآن الكريم إلى عدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، هي نداء مستمر للمجتمعات أن تحافظ على نعمة الإصلاح والبناء، وأن تجعل من العلم والعمل وسيلتين للعمران لا للهدم. وبهذا المعنى، يكون بامكان الاقتصاد الحضاري استثمار القيم القرآنية في واقع الحياة المعاصرة، حيث يتحقق التوازن بين الإنسان والأرض، بين التنمية والاستدامة...

﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾: رؤية قرآنية ضمن الاقتصاد الحضاري

تُعد الآية الكريمة: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾ (الأعراف: 56) من الركائز القرآنية التي تؤسس لفكرة متكاملة حول العمران البشري والنهضة الحضارية، وتسلط الضوء على أهمية الحفاظ على التوازن البيئي والاجتماعي والاقتصادي. وهي تُعتبر نموذجًا لقيم قرآنية ترتبط بالعنصر الثاني من عناصر المركب الحضاري: الإنسان والارض والزمن والعلم والعمل.

ما معنى إصلاح الأرض؟

إصلاح الأرض في المفهوم القرآني لا يقتصر على الجوانب الروحية أو الأخلاقية فقط، بل يمتد إلى مختلف مناحي الحياة، ويمكن تلخيصه في النقاط التالية:

- إقامة العدل الاجتماعي: كاحترام الحقوق، وإقامة القسط، ورفع الظلم عن الناس.

- تحقيق العدالة الاقتصادية: من خلال الوفاء بالكيل والميزان، ومنع الاحتكار والتلاعب في الأسواق.

- الاستقرار البيئي: عبر الحفاظ على الموارد الطبيعية، وحماية التوازن البيئي الذي هو أساس الاستدامة.

- استثمار الأرض بالزراعة: وهو من أهم مظاهر الإصلاح، فالأرض خلقت للإنبات والعطاء. واستصلاح الأراضي وزراعتها يدخل ضمن مسؤولية الإنسان كخليفة في الأرض.

- الاستفادة من العلم والتكنولوجيا: خصوصًا في مجال الزراعة الحديثة، مثل استخدام تقنيات الري الذكي، وتحسين البذور، وتوظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة المحاصيل، مما يزيد من الإنتاجية ويقلل الهدر، وهو ما يتفق مع مبدأ الإصلاح والتطوير المستمر.

ما هو الإفساد في الأرض؟

الإفساد في الأرض يعني التعدي على القيم التي قامت عليها الحياة المستقرة، ويشمل:

- الظلم والاستغلال: مثل استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، أو احتكار الثروات وتهميش الفقراء.

- الفساد المالي والاقتصادي: كالغش، والربا، والتلاعب بالأسواق، مما يؤدي إلى تدهور الاقتصاد وانتشار الفقر.

- الإضرار بالبيئة: من خلال التلوث، وقطع الأشجار، والإفراط في استخدام الموارد، مما يهدد الأجيال القادمة.

- تعطيل الطاقات البشرية: بإهمال العلم، وإهمال استثمار الإمكانات في البناء لا الهدم.

من خلال هذه الاية واشباهها يمكن ان نفهم ان الاقتصاد الحضاري، كمفهوم حديث، يتكامل مع الرؤية القرآنية التي تدعو إلى تنمية شاملة تجمع بين الروح والمادة، بين الأخلاق والتنمية. فمبدأ "إصلاح الأرض" يُعد دعامة أساسية لهذا الاقتصاد، إذ يدعو إلى:

- تنمية بشرية عادلة.

- استثمار الموارد بشكل مستدام.

- توظيف العلم لخدمة الإنسان.

- تحقيق توازن بين الإنتاج والاستهلاك.

إن دعوة القرآن الكريم إلى عدم الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، هي نداء مستمر للمجتمعات أن تحافظ على نعمة الإصلاح والبناء، وأن تجعل من العلم والعمل وسيلتين للعمران لا للهدم. وبهذا المعنى، يكون بامكان الاقتصاد الحضاري استثمار القيم القرآنية في واقع الحياة المعاصرة، حيث يتحقق التوازن بين الإنسان والأرض، بين التنمية والاستدامة.

اضف تعليق