دولة صغيرة لكنها عاقدة العزم ومُـبدِعة قادرة على توظيف تكنولوجيا رخيصة، وقابلة للتطوير، ولا مركزية لتحدي عدو أكبر كثيرا ومتفوق تقليديا حتى أنها حطت من قدرة قوة نووية عظمى على توجيه الضربة الثانية. وسوف تتردد أصداء الدروس المستفادة على الصعيد العالمي. قد يتحدى الانقلاب الأوكراني في ساحة المعركة الافتراض الاستراتيجي...

بقلم: إيان بريمر


نيويورك ــ في الأول من يونيو/حزيران، نَـفَّـذَت أوكرانيا واحدة من العمليات غير المتكافئة الأكثر استثنائية في التاريخ العسكري الحديث. باستخدام طائرات محلية الصنع مُـسَـيَّـرة آليا وموجهة بالرؤية الشخصية (FPV)، شنّ الأوكرانيون هجوما منسقا من عمق الأراضي الروسية ضد قواعد جوية عسكرية متعددة ــ بعضها في أماكن بعيدة مثل شرق سيبيريا، والحدود مع منغوليا، والقطب الشمالي.

أسفرت "عملية شبكة العنكبوت" عن تدمير أو إلحاق أضرارا بليغة بما يصل إلى 20 طائرة استراتيجية، بما في ذلك قاذفات قنابل قادرة على حمل أسلحة نووية وطائرات إنذار مبكر. (تدّعي أوكرانيا أن الحصيلة الحقيقية قد تصل إلى 41 طائرة). ثم بعد يومين فقط، شَـنّ جهاز الأمن الأوكراني ضربة أخرى ــ هذه المرة بتفجير متفجرات تحت الماء وإلحاق الضرر بجسر كيرتش، شريان السكك الحديدية والطرق الحيوي الذي يربط روسيا بشبه جزيرة القرم المحتلة. كانت الرسالة من كييف شديدة الوضوح: قد نكون أصغر وأضعف بأشواط (على الورق على الأقل)، لكننا قادرون على الضرب بقوة، وبوسعنا أن نفعل هذا من أي مكان داخل روسيا.

باستخدام طائرات مُـسَـيَّرة آليا مُـنتَـجة محليا بأقل من تكلفة جهاز iPhone، دمرت القوات المسلحة الأوكرانية قاذفات قنابل استراتيجية تصل قيمة الواحدة منها إلى 100 مليون دولار ــ ويكاد يكون من المستحيل استبدال كثير منها بسبب العقوبات والقاعدة الصناعية الروسية المتدهورة. وبعائد 300 ألف إلى واحد على الاستثمار، كان هذا النوع من العمليات غير المتكافئة الكفيلة بقلب قواعد الحرب الحديثة رأسا على عقب.

لا يقل أهمية عن الأضرار المادية ما كشفت عنه هذه الهجمات: ألا وهو أن دولة صغيرة لكنها عاقدة العزم ومُـبدِعة قادرة على توظيف تكنولوجيا رخيصة، وقابلة للتطوير، ولا مركزية لتحدي عدو أكبر كثيرا ومتفوق تقليديا ــ حتى أنها حطت من قدرة قوة نووية عظمى على توجيه الضربة الثانية. وسوف تتردد أصداء الدروس المستفادة على الصعيد العالمي، من تايبيه إلى إسلام أباد.

في الأمد الأقرب، قد يتحدى الانقلاب الأوكراني في ساحة المعركة الافتراض الاستراتيجي الأساسي الذي وجّـه فِـكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لأكثر من ثلاث سنوات. فمنذ أن بدأ غزوه الشامل، كان بوتن يراهن على الصمود أكثر من أوكرانيا ــ طحن دفاعاتها، واستنزاف الدعم الغربي، وانتظار تحول الرياح السياسية في واشنطن وأوروبا. وكان رفضه التفاوض بجدية مستندا إلى هذا الافتراض. لكن نجاح عمليات الطائرات الـمُـسَـيَّرة آليا وعمليات التخريب يتحدى نظريته عن النصر. فهو يُـثـبِت أن أوكرانيا لا تحافظ على وضعها ببساطة أو تصمد في حرب استنزاف؛ بل إنها قادرة على تحويل ساحة المعركة وزيادة التكاليف التي تتكبدها روسيا بطرق لم يتوقعها الكرملين.

هذا التحول مهم، خاصة في السياق الدبلوماسي. لم يكن توقيت حملة الطائرات الـمُـسَـيَّرة آليا ــ قبل 24 ساعة فقط من جولة محادثات بين المسؤولين الروس والأوكرانيين في إسطنبول ــ من قبيل المصادفة. كانت تصرفات أوكرانيا مصممة بحيث تشير إلى أنها لا تتفاوض من موقف ضعف ولن تُـجـبَـر على قبول صفقة رديئة. ورغم أن المفاوضات في إسطنبول كانت غير مثمرة كما كان متوقعا ــ استمرت فقط لما يزيد على الساعة قليلا وعكست عدم إمكانية التوفيق بين مواقف الجانبين ــ فإن حضور الروس بعد خروجهم مباشرة من مثل هذا الإحراج الشديد يشير إلى أن الكرملين ربما بدأ يدرك أن استمرار الحرب ينطوي على مخاطر تهدد روسيا.

من المؤكد أن التوصل إلى تسوية سلمية دائمة يظل أملا بعيد المنال كما كان دائما. إذ تواصل أوكرانيا الضغط من أجل وقف إطلاق نار غير مشروط، وهو ما ترفضه روسيا رفضا قاطعا. في إسطنبول، اقترح المفاوضون الروس بديلين غير مقبولين بذات القدر: إما أن تنسحب أوكرانيا من الأراضي التي تطالب بها روسيا أو تقبل بالحد من قدرتها على إعادة التسلح، بما في ذلك وقف المساعدات العسكرية الغربية.

لكن استعراض القوة من جانب أوكرانيا يعطي روسيا سببا للبقاء على انخراطها ويجعل التوصل إلى اتفاقات أكثر محدودية احتمالا معقولا على الأقل. بالاستعانة بالنوع الصحيح من الضغط من جانب الولايات المتحدة، وبالتنسيق مع الحلفاء الأوروبيين، أصبح الأوكرانيون الآن إزاء فرصة أفضل لتأمين وقف إطلاق النار لمدة 30 يوما، أو فتح ممر إنساني، أو تبادل الأسرى؛ ومن المحتمل أن تتحول مثل هذه الصفقة في مرحلتها الأولى إلى شيء أكبر وأكثر ديمومة.

من ناحية أخرى، تعمل الانتصارات الأخيرة التي حققتها أوكرانيا في ساحة المعركة أيضا على تعظيم احتمال حدوث تصعيد خطير. فقد تآكل موقف روسيا الرادع. أما خطوط بوتن الحمراء ــ بشأن توسع منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، واستخدام الأسلحة الغربية، والهجمات داخل الأراضي الروسية ــ فقد جرى تجاوزها مرارا وتكرارا دون عواقب وخيمة. وبإظهار الزعيم الروسي بمظهر الضعيف، يزيد هذا من خطر شعوره بالاضطرار إلى الرد بقوة، لاستعادة مصداقيته في الداخل والخارج.

سوف يكون رد روسيا الفوري على الهجمات الأخيرة مزيدا من ذات الشيء: القصف الأشد عشوائية للمدن والبنية الأساسية الأوكرانية. لكن الاحتمال الأكثر إثارة للقلق هو أن بوتن الـمُـحاصَر الـمُـهان قد يفكر في توجيه ضربة نووية تكتيكية. لا تزال عتبة مثل هذه الخطوة المتطرفة عالية، خاصة وأن الصين، شريكة روسيا الأكثر أهمية على مستوى العالم، تعارض بشدة استخدام السلاح النووي. ولكن حتى لو ظل هذا السيناريو مستبعدا، فإنه أصبح أكثر احتمالا مما كان عليه قبل الأول من يونيو/حزيران.

علاوة على ذلك، اكتسب بوتن مزيدا من الجرأة بسبب اعتقاده بأن الغرب ــ وخاصة أميركا في عهد دونالد ترمب ــ يخشى المواجهة العسكرية المباشرة أكثر من أي شيء آخر. وإذا استنتج الغرب أن موقف روسيا في الحرب أصبح ضعيفا إلى الحد الذي يتعذر معه الدفاع عنه، أو أن قوة الردع التقليدية التي تتمتع بها تتداعى، فقد تتغير حساباته.

لقد ذكّرت أوكرانيا للتو الكرملين ــ والعالم ــ بأنها قادرة على تشكيل الأحداث، وليس فقط الرد عليها. هذا لا يضعها على طريق النصر، ولن يضع نهاية للحرب. ولكن بإظهار قدرتها على التأثير على الأحداث بقوة، وأن روسيا قد تخسر أكثر مما كان بوتن يتصور، نجحت أوكرانيا في تغيير المعادلة الاستراتيجية وفتحت نافذة ضيقة للدبلوماسية ــ حتى وإن ظلت المرحلة النهائية بعيدة المنال كما كانت دائما. البديل سيكون صراعا أشد عمقا وأكثر تعذرا على التنبؤ والذي سيزداد خطورة كلما طال أمده.

* إيان بريمر، مؤسس ورئيس مجموعة أوراسيا و جيزيرو ميديا، وهو عضو في اللجنة التنفيذية للهيئة الاستشارية رفيعة المستوى للأمم المتحدة المعنية بالذكاء الاصطناعي.

https://www.project-syndicate.org/


اضف تعليق