q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

موقف العقل من المعنويات والجسمانيات

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

إن تميّز الإنسان يتحقق من خلال موقف العقل تجاه الجسد والروح، وكيفية الموازنة بين هذين القطبين المختلفين، ولعل أفضل النتائج التي يحققها الإنسان في رحلته الحياتية، تعود إلى ارتقاء العقل بالإنسان، حين يتمكن من الموازنة بين متطلبات الروح والجسد، لاسيما أن الله تعالى ميّز هذا الكائن الإنسان عن غيره بالعقل تحديدا...

(الإنسان مزيج من الروحانيات والجسمانيات، ومن المعنويات والماديات)

الإمام الشيرازي

يتكون الإنسان من الروح والجسد، أي أنه كائن ثنائي، روحي مادي أو معنوي مادي، وفي الجسد يوجد العنصر الذي يسيطر على الجسد، يحركه فعليا أو معنويا، فيما يقول علماء مختصون عن العقل بأنه مجموعة من القوى الإدراكية التي تتضمن الوعي، المعرفة، التفكير، الحكم، اللغة والذاكرة. هو غالبًا ما يعرّف بملكة الشخص الفكرية والإدراكية.

يملك العقل القدرة على التخيل، والتمييز، والتقدير، وهو مسؤول عن معالجة المشاعر والانفعالات، مؤديًا إلى مواقف وأفعال. وهنالك جدال في الفلسفة، الدين، والعلوم حول ماهية العقل وصفاته المميزة، كل له رأيه العلمي أو الوصفي، حول ماهيّة العقل.

العقل إذا هو الذي يقود الإنسان، ليس في الجانب الحركي أو الجسدي فحسب، وإنما في جوانب أخرى كثيرة يتوقف عليها حاضر ومستقبل الإنسان، والنتائج الجيدة أو الرديئة تترتب على ما يقوم به العقل وما يتخذه من مواقف بين الماديات (الجسد) وبين المعنويات (الروح)، فإلى أيهما سيميل ولماذا يفضل هذا الجانب على ذاك؟

من الأسئلة المفتوحة التي تتضمن طبيعة العقل هي مسألة (العقل – الجسد)، والتي تبحث في العلاقة ما بين العقل والدماغ المادي والجهاز العصبي. تضمنت وجهات النظر النزعة الثنائية والمثالية، التي اعتبرت أن العقل شيء معنوي. مهما كانت طبيعته، من المتفق أن العقل هو ما يجعل الشيء يملك وعي ذاتي وقصدية نحو بيئته، يفهم ويستجيب للإيعازات بنوع من الوساطة، وأن يمتلك وعيا، والذي يتضمن التفكير والشعور.

إن تميّز الإنسان يتحقق من خلال موقف العقل تجاه الجسد والروح، وكيفية الموازنة بين هذين القطبين المختلفين، ولعل أفضل النتائج التي يحققها الإنسان في رحلته الحياتية، تعود إلى ارتقاء العقل بالإنسان، حين يتمكن من الموازنة بين متطلبات الروح والجسد، لاسيما أن الله تعالى ميّز هذا الكائن الإنسان عن غيره بالعقل تحديدا.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (العقل رقيّ الإنسان): (إن الله عز وجل ميز الإنسان عن سائر الخلق بعقله، وجعل العقل سببا لرقيّه).

ما الذي يحفظ للعقل قيمته؟

من الجوانب المهمة التي تحفظ للعقل قيمته، ويُشهَد له بالعلو والسمو والارتقاء بصاحبه، هو جانب حفظ حقوق الآخرين، فحين يكون الإنسان قادرا على إحقاق الحق، ومتمكنا من ردع نفسه عن التجاوز على حقوق الناس، فإنه في هذه الحالة سوف يكون سعيدا، ومتصالحا مع نفسه، مستقرا ومطمئنا ومتقدما في التطور والارتقاء، مما يؤكد قيمة العقل.

فطالما كنت موجودا بين الناس هناك شرطان مهمان لابد من الالتزام بهما، الأول أن تعطي حقوق الناس المترتبة عليك، والثاني أن تحمي حقوقك وتطالبهم بها، لا بأس في أن يحافظ الإنسان على حقوقه بل هو واجب عليه، على أن يكون مؤديا ومحافظا على حقوق الآخرين، فهذا الواجب الحقوقي يجب أن يتم بشكل متبادَل بين الإنسان والمجتمع.

حتى على مستوى العائلة الواحدة، هناك حقوق على الأب تجاه العائلة، كالابن مثلا أو البنت، وبالعكس هناك حقوق للأب على أبنائه وبناته وزوجته التي لها نفس الحقوق على زوجها، بل هناك حق ذاتي أيضا.

بمعنى توجد حقوق لنفس الإنسان وجسده يجب أن يراعيها، أي حقوق ذاتية، وهنا يبرز دور العقل بقوة، فالعقل الحكيم هو الذي يؤدي الحقوق ويحافظ على الحدود ويؤدي الأمانات ويلتزم السبل السليم إلى أهدافه.

لهذا يقول الإمام الشيرازي:

(مما يدل العقل عليه، ضرورة رعاية الحقوق. فإن لكل إنسان يعيش في أي مجتمع حقوقاً على الآخرين، كما أن لهم حقوقاً عليه أيضاً، فمن حيث كونه أباً ـ مثلاً ـ فله حق على أبنائه، ومن حيث كونه ابناً ـ مثلاً ـ فعليه رعاية حق والديه، وهكذا بقية الأنساب والأسباب).

ومن هذا المنطلق، جاءت أحكام الشريعة لتنهض بقيمة الإنسان ومكانته، من خلال العقل وقدرته على الارتقاء بصاحبه إلى مراتب عليا دائما، فالأحكام تغذي العقل بالمعارف المهتلفة، لاسيما تلك التي ترسم له معالم الطريق السليم في علاقاته المختلفة مع الآخرين، وتضبط له قضية الموازنة بين الحقوق والواجبات، وتوضح له ما له وما عليه.

ولا ينحصر هدف الأحكام بالحقوق الخارجية التي يجب أن يراعيها الإنسان تجاه الآخرين، بل تذكره هذه الأحكام بما يقع عليه من واجب تجاه وجوده وكينونته الذاتية، جسده، وروحه، بين الماديات والروحانيات والموازنة الصعبة بين الاثنين، فالجسد له حقوق يجب مراعاتها، والروح لها حق الاهتمام والرعاية والتطوير والارتقاء بها أكثر فأكثر، في هذه الحالة حين تتحقق هذه الموازنة بشكل جيد بين المادي والمعنوي، سوف يتحقق النجاح المأمول.

رعاية الآداب الاجتماعية

الإمام الشيرازي يؤكد هذه النقطة فيقول: (الشريعة الإسلامية تريد كمال الإنسان وسعادته، وأن يستفيد من عقله لكي يرقى ويتقدم، فهي تحثه على رعاية الآداب الاجتماعية واكتساب الفضائل الأخلاقية من جانب، وتنبهه إلى رعاية حقوقه الشخصية، وتذكره بأن لبدنه عليه حقاً من جانب آخر).

وأكد أيضا رحمه الله على (إن الإنسان موجود ذو بعدين: روح وجسم، عقل وشهوة، فهو مزيج من الروحانيات والجسمانيات، ومن المعنويات والماديات).

وأظهر الفارق بينهما، أي بين الروح والجسد، فالروح هدفها الدائم تغذية الإنسان بالمعنويات العالية التي ترتقي به وتجعله ذا قيمة أفضل وأكبر من غيره، وتمنحه القدرة على اكتساب الفضائل والأخلاق العالية، مما يجعله أكثر قدرة على القيام بدور إيجابي في الحياة، لاسيما أن المجتمعات تسعى للنهوض والتطور، وتستفيد من الفرد المتوازن ماديا ومعنويا.

لأنه سوف يكون ذا طباع إنسانية تحترم الناس، وبالتالي يكون نموذجا للآخرين من حيث التحلي بالمكارم والفضائل والسلوكيات الراقية التي تنحو إلى الرحمة واللاعنف واللين، وهي قيم أخلاقية عالية تجعل الإنسان محبوبا في مجتمعه، وتعطيه المكانة المرموقة بين الناس، لأنه يصبح قدوة جيدة للناس الآخرين، فيتطور المجتمع ويرتقي بمثل هؤلاء الأشخاص.

يقول الإمام الشيرازي: إن (المعنويات تسمو بالروح وتعرّج بالإنسان نحو نيل المحاسن والمكارم، وأداء الحقوق والواجبات، وكسب الاخلاق والآداب، من الحلم والعفو، ولين الجانب وحسن العشرة، وغيرها).

أما الماديات، فهي على العكس من المعنويات، حيث تهبط بالإنسان إلى الدرك الأسفل، فيما لو تعلّق بها، وأهمل الموازنة الجيدة والعادلة بين (المادي والمعنوي)، فالإنسان الذي يميل إلى المادة ويغرق فيها سوف يحرق كل الفرص التي تلوح له لكي يكون إنسانا ناجحا في المجتمع، ذلك لأن النجاح لا يمكن أن يكون ماديا فقط، فالمادة وحدها ستخنق صاحبها آجلا أو عاجلا، أم المعنويات فهي ترتقي به دائما وأبدا.

هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله:

(أما الماديات فلا تسمو بالجسم لو أفرط فيها، وتهبط بالإنسان إلى مستوى إشباع الغرائز من الأكل والشرب والنوم والجماع وغيرها. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلوب تموت كالزروع إذا كثر عليه الماء).

إذًا نحن أمام قضية الموازنة بين الماديات والروحانيات، وهذه من اشتراطات نجاح الأفراد والمجتمعات على حد سواء، فالمجتمع المنغمس بالملذات والماديات سوف يغرق فيها وتضيع عليه فرص النجاح والتطور، حتى لو تحقق له التقدم المادي، أما المجتمع الذي يسعى للاهتمام بمعنوياته وروحانياته، فسوف يحلّق عاليا في مراتب التطور المتوازن للإنسان.

اضف تعليق