تؤدي العوامل الثقافية والاجتماعية دوراً خطيرًا في اختيار الجرائم التي يُراد لها أن تُصبح محور اهتمام الرأي العام العالمي، ومن ثم فإن من تداعيات هذا الاختيار المؤدلج هو تعذّر الوصول إلى البيانات اللازمة أو الوصول إلى هذه البيانات، ولكن من دون تحليلها تحليلا موضوعيا متوازنا...
ثمة ظاهرة تعمّ أرجاء المعمورة ليس في الوقت الحاضر فحسب بل منذ أمد بعيد، وتتمثل الفكرة الرئيسية في هذه الظاهرة موضع البحث بمسألة الحديث الانتقائي عن تعرّض البشر لانتهاكات جسيمة على خلفيات عرقية أو دينية أو استعمارية...الخ في مناطق جغرافية معينة دون مناطق أخرى، وهذا المبدأ غير العلمي مثلما يتنافى مع الاشتراطات العلمية الرصينة فإنه يتقاطع كليا مع الاعتبارات الإنسانية التي يُفترض أن تنظر إلى بني البشر نظرة متساوية من غير ما تمييز.
ولعل من بين الأسباب والعوامل المسؤولة عن صناعة هذه المعادلة الجائرة ما يدخل في البعدين الاقتصادي والسياسي، فغالبًا ما تؤثر العوامل السياسية والاقتصادية في اختيار الجرائم التي يجري التركيز عليها دولياً، وتجاهل الجرائم المشابهة التي تُرتكب ضد جماعات أخرى في سياقات مكانية وزمانية محددة، وعادة ما يكون الإخراج النهائي لهذه الظاهرة (الممسرحة) على أيدي نخبة معروفة من ملاك وموظفي وسائل الإعلام العالمية الكبرى حيث التركيز المفرط على قضايا منتخبة اقتصاديا ثم سياسيا قصد الترويج لها إعلاميا، وهو الأمر الذي أدّى ويؤدي إلى تشويه الصورة الواقعية للحقيقة.
واستثمارًا للمقولة الاجتماعية التي تفيد بسقوط نظرية السبب الواحد فإن هناك ما هو غير اقتصادي وغير سياسي يتحمل بدوره قسطًا مهما من تخريب وجه الحقيقة في سياق تناول مواضيع حقوق الإنسان، لاسيما تلك المتعلقة بما هو ثقافي وما هو اجتماعي؛ إذ تؤدي العوامل الثقافية والاجتماعية دوراً خطيرًا في اختيار الجرائم التي يُراد لها أن تُصبح محور اهتمام الرأي العام العالمي، ومن ثم فإن من تداعيات هذا الاختيار المؤدلج هو تعذّر الوصول إلى البيانات اللازمة أو الوصول إلى هذه البيانات، ولكن من دون تحليلها تحليلا موضوعيا متوازنا، وما يزيد من رقعة الخرق في هذه القضية هي التأثيرات الجيوستراتيجية أو الجيوسياسية التي تصبّ نتائجها في أحيان كثيرة لصالح الاستجابة لبعض القضايا الدولية على حساب قضايا أخرى لا تقل عن الأولى قدرا وقيمة إن لم تكن تفضلها من هاتين الحيثيتين...
ولكي لا يكون الكلام محض إنشاء أو حديثا عاما بمعنى أن يكون ما أقوله هنا مستندا إلى واقعة مشهودة، فقد حضرت في وقت سابق قريب من هذا التاريخ أعمال مؤتمر عُني منظموه بفتح أوراق ملف حقوق الإنسان وما تعرّض له البشر وما يتعرضون له من ظلم وجور على أيدي بعضهم ضد بعضهم الآخر، وما زاد في حماستي لتلبية دعوة الحضور أن الجهة الراعية للمؤتمر جهة رسمية تحظى بمنزلة عالية من التوقير والإكبار في نفوس معظم العراقيين.
لكن ما أثار استغرابي وحفيظتي حينها أن الضيف الرئيسي -وكان من جنسية أوربية- بدا منهمكا في الحديث والاسترسال عن تواريخ الاضطهاد في البوسنة والهرسك، ورواندا، وكذا عن المحرقة اليهودية، وهذه حوادث مأساوية من الضرورة استعادتها والتذكير بآثارها بوصفها مناطا للعبرة والاعتبار، وأملا في عدم تكرارها مستقبلا، أقول ما دعاني للاستغراب هو أن الضيف الكريم نسي في غمرة الاسهاب والاستطراد أن يذكر أو يتذكر "تراجيديا" فلسطين وسوريا لاسيما ما جرى ويجري في كل من غزة والساحل السوري على سبيل المثال لا الحصر...
وبقدر ما يتعلق الأمر في العراق فقد أعاد الضيف التذكير بقصص الإيزيدين، وما وقع عليهم من حيف وتوحش على أيدي عصابات داعش، وهو أمر يُشكر عليه الباحث بناء على ما ذكرناه آنفًا مما يتصل بفلسفة التاريخ، وما يطرحه منطقها من ثقافة إيجابية تستفيد من تجارب الماضي حتى الأكثر قسوة وتوحشًا؛ إذ الإيزيديون في أول الأمر وآخره يجسدون طيفا مهما من اللوحة العراقية العامة؛ فهم أخوة لنا من جهة الإنسانية أولا، ومن جهة الوطنية ثانيًا، لكن أن ينسى حضرة الضيف أو يتناسى مذبحة "سبايكر" هو أمر في غاية الغرابة فعلا، وما يزيد من درجة غرابته أن بعض المستمعين لصاحب "الورقة البحثية" كانوا من ذوي ضحايا "سبايكر"، هذه المجزرة البشعة التي تُعَدّ قطعا ويقينا "وصمة خزي وعار" في جبين كلّ من كان له ضلع في ارتكابها؛ سواءً أكان مشاركا بها، أو محرّضا عليها، بل إن سمعتها السيئة تطال كلّ من سمع بها، ولم يبادر بشجبها وإعلان البراءة منها، ومن الفاعلين لها، والراضين بها على السواء...
اضف تعليق