إن الإنسان المتيقن يدرك حتى أهدافه الدنيوية؛ لأنه دائماً تسيطر عليه فكرة الإيمان والتقوى، ودائماً يعيش حب اللّه، والنظر إليه بعين انقطعت عن جميع العلل والأسباب، فالمتيقن يستشعر التوحيد أكثر من غيره، ويدرك جيداً أنه لا مؤثر في الوجود إلّا اللّه، فهو متمسك به في جميع أموره...
(ذِكْر الله يجلي القلوب وينظفها، ويجعلها مهيأة لاستقبال الفيض الإلهي)
الإمام الشيرازي
بدءًا لابد أن نعرف ماذا تعني كلمة اليقين، فهي تمثل المحصلة المهمة والأولى للإيمان، بمعنى إن طريق الإنسان نحو اليقين هو إيمانه التام، ولهذا يتجاوز المتيقّن حبّهِ لذاتهِ، فتغدو ذاته متّحدةً ومتداخلةً مع ذوات الآخرين، فيحبهم ويتفاعل معهم ويمد لهم يد المساعدة والعون، وهذا يعني بأن اليقين يساعد الإنسان على محبة الناس والنظر إليهم كما ينظر إلى شخصه وذاته ولا يفضّل نفسه عليهم.
فيبدأ صاحب اليقين في خدمة الناس بأروع الصور، ويشعر بأنه لا يخدم الآخرين بل يخدم نفسه، حيث ينطبق عليه الحديث الشريف (أحبب لأخيك ما تحبّ لنفسك)، كل هذا يأتي نتيجة لليقين، الذي يتولد عن إيمان الإنسان بالله تعالى، وتغمره تلك السعادة الكبيرة وكأنه يرى في الناس نفسه وحاضره ومستقبله ومصالحه كلها، فيشعر بتللك الحالة من التوازن والاستقرار النفسي الذي يبحث عنه الإنسان طوال حياته.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (قطوف دانية الجزء السابع):
(تتجاوز أرواح المتّقين أفكارهم في هذه الدنيا وتجاوزت حب الذات، إلى أن صارت تنظر إلى الآخرين وكأنها تنظر إلى نفسها، ويقوم الإنسان الموقن بخدمة الناس، ويشعر بأنه يخدم نفسه، ويقدم الخير إليها، فيسعد حينما يسعد الناس).
نلاحظ دائما أن الإنسان المتيقّن متفائل في حياته، يحب الناس، تكون فطرته هي المتحكمة بأفعاله ومعظم السلوكيات التي تصدر عنه، ولهذا تجد أن الرصيد الروحي له في حالة من الإشباع، فيجعله ذلك مندفعا على الدوام بخدمة الآخرين ومؤازرتهم، وفتح آفاق الحياة الجيدة أمامهم، وبث روح العزيمة والتفاعل في طاقاتهم.
الإنسان المتيقّن فاعل وحيوي
لذلك نادرا من نجد إنسانا موقنا بالله تعالى وهو في نفس الوقت خامل أو متكاسل، بل بالعكس من ذلك، كل مؤمن متيقن، وكل متيقن فاعل وحيوي، فهو يستمد قوته واندفاعه وحيوته من قوة الإيمان بالله تعالى، لهذا تجده دائما يندفع باتجاه تقديم الخدمة لكل من يبحث عنها، كما أنه يكون من المؤثرين جدا في الآخرين.
حيث يشير الإمام الشيرازي إلى هذه النقطة في قوله:
(من الثمرات الأخرى، أن الموقن لا ينفك يقدّم صالح الأعمال، لأنه يشعر أنها الرصيد الروحي له في الدنيا، وانها رصيده في الآخرة، فتراه يقدّم الخدمات الاجتماعية للناس على اختلافها).
وما أعظم اليقين الذي يصل إليه الإنسان بإيمانه الحقيقي، فمن أعظم وأجمل ثمراته أنه يفتح الأبواب والطرق التي تؤدي بالإنسان نحو أهدافه، ليصل بالنتيجة إلى كل ما يخطط له ويسعى إليه، فاليقين يساعد الإنسان بقوة هائلة على تحقيق أهدافه.
وقد تم تجريب هذه الحالة، فلا تجد إنسانا متيقنا إلا وقد خطط لنفسه أهدافا واضحة ومهمة، وبعد ذلك تجده في نفس الوقت ساعا نحو أهدافه بقوة، ومخططا وباحثا عن كل السبل التي تساعده وتأخذ بيده في المحصلة النهائية إلى تحقيق أهدافه، وهنالك الأحاديث الشريفة التي أكدت على أن اليقين يذهب بصاحبه إلى أهدافه.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(من ثمرات اليقين، إضافة إلى ما مرّ، وصول الإنسان إلى أهدافه وتحقيقها؛ قال أمير المؤمنين عليه السلام: باليقين تدرك الغاية القصوى).
بالطبع هناك اهتمام كبير عند الإنسان المتيقن بالآخرة، وأهمية أن يضمن النجاح والسعادة فيها، ولكنه في نفس الوقت نجده من المهتمين في أهدافه الدنيوية ونتائجها، لذلك بسبب يقينه فهو يدك هذا النوع من الأهداف، ولكن شتان بين من يدركها عبر الأساليب والوسائل المشروعة، وبين أولئك الذي يدركون أهداف الدنيا بالطرق والأساليب الملتوية وغير المشروعة كما يحدث مع بعض المسؤولين أو الموظفين أو غيرهم.
أما المتيقن فإن فكرة الإيمان تهيمن عليه دائما، وتتحكم في سلوكياته وأعماله، وتسيطر على أفكاره، فلا تسمح له بالانحراف حتى وإن كانت الأهداف دنيوية، فاليقين يضع حاجزا بين مغريات الدنيا وبين الموقِن بالله تعالى يقينا حقيقيا مصدره الإيمان الحقيقي أيضا.
ومن أعظم المشاعر التي تهيمن على المتيقّن، هي فكرة إيمانه بالله، فهو يشعر بشكل حقيقي صادق ومؤثر بقوة إيمانه، وبالتالي يتعاظم يقينه، ويعرف جيدا أن الله تعالى معه في كل لحظة وفي كل حين، ولا يغيب عن باله، ولهذا هو شديد الحذر من الوقوع في الانحراف حتى وهو يسعى إلى تحقيق أهدافه في الدنيا.
الاكتفاء والاستغناء عن الحاجة
والإنسان الذي يتمسك بالله تعالى، سوف يجد فيه تعالى يدا وعينا وقلبا، ومن يكون الله قلبه كيف له أن ينحرف، فهو مُصان ومحمي بالرعاية والعناية الإلهية، وبالإيمان الذي يفتح له القلوب والنفوس أينما صبّح وأمسى.
هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله:
(إن الإنسان المتيقن يدرك حتى أهدافه الدنيوية؛ لأنه دائماً تسيطر عليه فكرة الإيمان والتقوى، ودائماً يعيش حب اللّه، والنظر إليه بعين انقطعت عن جميع العلل والأسباب، فالمتيقن يستشعر التوحيد أكثر من غيره، ويدرك جيداً أنه لا مؤثر في الوجود إلّا اللّه، فهو متمسك به في جميع أموره، ومن تمسك واعتمد على اللّه بدرجة عالية كان اللّه تعالى يده وعينه وقلبه).
وفي نفس الوقت فإن من ثمرات اليقين شعور الإنسان بالاكتفاء والاستغناء عن الحاجة، فهو مكتفٍ بذاته، وهذا الشعور لا يأتي من باب التكبّر أو التعالي على الآخرين، ولكن اليقين يرفع الإنسان عالية من الجانب المعنوي ويجعله مستغنيا عن الآخرين.
ولكن في نفس الوقت هذا لا يعني أنه منعزل، أو يتجنب الناس، ويضع حواجزا بينه وبينهم، على العكس من ذلك، فهذا الإنسان بيقينه يصبح أكثر محبة للناس، لكنه لا يثقل عليهم بطلباته أو احتياجاته، بل هو من يريد أن يخفف عنهم أثقالهم، كونه له نظرة بعيدة المدى في التعامل مع جميع الأمور التي تواجهه في حياته، والسبب يعود أيضا إلى شدة تمسك المتيقّن بالله تعالى، لهذا لا يتسرع ولا يتعجّل النتائج وتسريعها.
كما نقرأ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(الاستغناء عن الناس ثمرة من ثمرات اليقين، ومن ثمرات اليقين هو كون الموقن لديه بُعد نظر في الحوادث والأمور الأخرى؛ لأنه شديد التمسك والتوكل على اللّه عزّ وجلّ)
ولهذا من الأفضل لنا جميعا أن نذكر الله سبحانه وتعالى في كل لحظة، ولا يغيب عنا ذكره مطلقا، فمن يتذكر الله لن ينساه من رحمته أبدًا، بالإضافة إلى ذلك الشعور المفعم بالسكينة والاطمئنان (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، فعندما يتكر الإنسان ربّه سوف يمتلئ به قلبه، ويتضاعف إيمانه ويقينه، وينعكس هذا على حياته فيجعلها في قمة الاستقرار.
يقول الإمام الشيرازي:
(لابد من الذِكْر المتواصل، أي أن يذكر اللّه على كل حال، وفي كل موطن وموقف، وعدم التجاهل في ذلك، فإن للذكر أثراً عظيماً على القلب، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: ذكر اللّه جلاء الصدور وطمأنينة القلوب).
هكذا هو اليقين، وهذا هو الإيمان، وهذه هي الثمرات التي يمكن لكل إنسان أن يقطفها من اليقين، ويستفيد منها في حياته، كي يبنيها أفضل البناء، ويمكنه أن يجعل منها نقطة انطلاق نحو آخرة مضمونة النتائج وسعيدة، وذلك من خلال التيقّن والإيمان بالله تعالى، واستثمار الدنيا لصالح تأثيث الدار الأخرى بصالح الأعمال.
اضف تعليق