تفضيله للأسعار المنخفضة للنفط قد طغى بوضوح على أولوية نمو الإنتاج الأمريكي، وعليه من الممكن جدًا أن يرى البيت الأبيض في انخفاض الأسعار وسيلة لتعويض التقلبات الاقتصادية الناتجة عن استخدامه الواسع للرسوم الجمركية، وقد يكون هذا بالفعل السيناريو الأساسي لدى العديد من الجهات في صناعة الطاقة والدول المنتجة...
بقلم: كولبي كونيلي، زميل في معهد الشرق الأوسط، ومحلل وباحث ومستشار في شركة Energy Intelligence
ترجمة: د. لطيف القصاب
بعد خمس جولات من المفاوضات لم تتوصل الولايات المتحدة وإيران -حتى الآن- إلى اتفاق جديد بخصوص البرنامج النووي الإيراني، وذلك بصرف النظر عن التقارير التي تفيد بأن الجانبين أحرزا بعض التقدم المحدود ويعتزمان اللقاء مجددا.
الحقيقة أنّ معظم دول الشرق الأوسط تنظر إلى احتمالات تحقيق اتفاق بين الولايات المتحدة وإيران بتفاؤل معتدل، وهي بمجملها تعد التوافق الأمريكي الإيراني خيارا أفضل من التصعيد المؤدي لشن ضربات عسكرية أمريكية في الداخل الإيراني، وبرغم من أن نجاح المحادثات من شأنه تحقيق استقرار أكبر في المنطقة التي تشهد صراعات مستمرة بيد أن التقدم المحتمل في اتفاقية نووية جديدة قد يحمل في طياته عواقب سلبية في مجال الطاقة، إذ قد يؤدي الاتفاق بين واشنطن وطهران إلى زيادة الضغط على سوق النفط المأزوم أصلا مما قد يشير إلى مزيد من الخسائر المالية لمنتجي النفط في الخليج ويعقد استراتيجية الطاقة الأمريكية.
وفي حين تبدو الدبلوماسية الأمريكية مع إيران في طريقها إلى إحراز مستوى من التقدم حاليا تعاني أسعار النفط من التهديدات المزدوجة انسياقا لمبدأ (عدم اليقين الاقتصادي)، والتهديد الأول ناتج من الرسوم الجمركية التي أقرها الرئيس دونالد ترامب، والثاني كان القرار المفاجئ من مجموعة اوبك التي تضم اثني عشر عضوا من منظمة أوبك وعشرة منتجين للنفط من غير أوبك لاسيما روسيا، ما يعني إضافة أكثر من 1,2 مليون برميل يوميا من الإمدادات الإضافية خلال الشهر الماضي وحتى نهاية تموز، وهو الأمر الذي يشي باحتمالات تدهور الأسعار إذا استمر بقاء حالة عدم اليقين المتأثرة بالحرب التجارية، أو إذا زاد أثر الرسوم الجمركية الأمريكية على مراكز الطلب الرئيسية للنفط لاسيما الصين فانخفضت تبعا لنتيجة تباطؤ الاقتصاد.
بطبيعة الحال يصعب التنبؤ باحتمالات الوصول إلى اتفاق نووي جديد بين إيران والولايات المتحدة، مثلما يصعب التنبؤ بنتيجة حرب ترامب التجارية، لكن النتيجة المؤكدة هي أنه في حال جرى التوصل فعلاً إلى اتفاق فسوف يصار إلى رفع العقوبات الأمريكية عن صادرات النفط الإيرانية، ومن المؤكد أيضا أن طهران لن تقبل اتفاقا شاملا وطويل الأمد لا يحتوي على نتيجة أقل من ذلك.
في عام 2021، ومع أول بادرة دبلوماسية بين الولايات المتحدة وإيران، سار الطلب العالمي على النفط بخط متصاعد قياسا بانخفاض سنة 2020، وبنمو بلغ أكثر من خمسة ملايين برميل يوميا! حاليا وعلى الجانب المقابل، يتوقع عدد متزايد من كبار المراقبين انخفاض الطلب في هذا العام أي 2025 دون مستوى مليون برميل يوميا، وذلك للمرة الأولى منذ سنوات عدة، وبحسب هذا التوقع فقد يتجاوز عرض النفط هذا العام الطلب عليه، ولكن قد لا تنحدر أسعار النفط بالضرورة على المدى القصير، ليظل التقلب وعدم اليقين هو النظام اليومي السائد ما يستدعي التعامل بحذر مع أي اتفاق يفضي إلى تدفق مفاجئ للإمدادات النفطية الإيرانية؛ لأن نجاح الولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران سيزيد حكما صادرات النفط الإيرانية بشكل كبير.
وتختلف التقديرات بشأن حجم هذه الزيادة بالضبط، كما تختلف التقديرات بخصوص مستوى صادرات إيران الحالية للنفط، هذا المستوى الذي يجري إخفاؤه من طرف طهران باستخدام وسائل خداع لتفادي العقوبات! واعتمادا على طبيعة الصفقة والجدول الزمني المحتمل لتنفيذها، فقد ترتفع صادرات النفط الإيراني بشكل كبير في غضون بضعة أشهر فقط.
وعلى الرغم من أن طهران تسعى لتحقيق هذا السيناريو لكن النتيجة ستكون في زيادة الفائض الذي يواجهه سوق النفط هذا العام بالفعل مما يزيد من انخفاض الأسعار، ومن المحتمل أن يبقى التوقع للاقتصاد العالمي مرنا طالما استمر التقلب التجاري، لكن مع مضي مجموعة اوبك قدما في إضافات الإمداد المتسارعة، ستظل الأسواق تعاني من فائض بغض النظر عن كيفية تطور محادثات التجارة الأمريكية مع بقية العالم.
وبعبارة أكثر بساطة، فإن أي تدابير تتضمن تخفيف العقوبات على إيران من المرجح أن تؤدي إلى تدفق نفط لا يحتاجه السوق! وهذه الإمدادات الإضافية ستدفع الأسعار للانخفاض بطبيعة الحال؛ ومع تداول النفط الخام غالبا في نطاق 60 إلى 65 دولارا للبرميل الواحد خلال معظم شهر تموز المقبل فإن النتيجة ستكون لها آثار سلبية على كلٍ من صناعة الطاقة الأمريكية وشركائها المنتجين في الخليج، على أن الأسعار عند هذا النطاق أو دونه ستؤدي إلى ضغط مالي على دول الخليج كما ستمنع نمو الإمدادات الأمريكية؛ لأن الشركات الأمريكية ستتحمل تكاليف إنتاج أعلى من نظيراتها في دول الخليج العربية.
ووفقا لتقدير من بلومبرغ إنتليجنس، فإن التراجع في العقوبات على الصادرات الإيرانية قد يدفع خام غرب تكساس الوسيط (WTI)، وهو مؤشر رئيسي للنفط الأمريكي، قد يدفعه إلى مستوى منخفض يصل إلى 40 دولارا للبرميل الواحد، وهو نطاق سيكون مدمرا لصناعة النفط الأمريكية، ومعه ينبغي على صانعي السياسات إدراك التأثيرات الجانبية التي قد يُحدثها الاتفاق المحتمل، مدفوعين على الأقل بدافع السعي إلى استراتيجيات من شأنها تقليل هذه الآثار إن دعت الحاجة، وسيجري في الواقع التخفيف من هذا التأثير جزئيًا من خلال إدراك حقيقة أن الإنتاج الإيراني قد ارتفع بالفعل بشكل كبير خلال السنوات الأربع الماضية، ويرجع ذلك في الغالب إلى التراخي في تنفيذ العقوبات الأمريكية خلال إدارة الرئيس جو بايدن؛ إذ سجّل إنتاج النفط الإيراني زيادات بحوالي مليون برميل يوميا خلال السنوات الماضية، وبلغ متوسطه نحو 3,3 مليون برميل يوميا خلال عام 2025 الجاري، وتختلف التقديرات بخصوص حجم ما يمكن أن ترتفع به صادرات إيران عن هذا المستوى، لكن إزالة العقوبات بالكامل قد تؤدي إلى عودة ما يصل إلى 500,000 برميل يوميا من الصادرات الإيرانية الإضافية إلى السوق العالمية.
الآن ما الذي يمكن فعله لتقليل المخاطر؟
في حال توصلت الولايات المتحدة وإيران إلى اتفاق نووي جديد وفي وقت ما تزال فيه أسعار النفط منخفضة بسبب ما أشرنا له آنفا أي عدم اليقين أو فائض الإمدادات أو غير ذلك، فعلى الولايات المتحدة أن تولي اهتمامًا خاصًا بالمخاطر التي تطرحها الأسعار المنخفضة، سواء لصالحها أو لصالح شركائها في الخليج:
أولا/ لأن أجندة "الهيمنة في مجال الطاقة" التي تبنتها إدارة ترامب تتطلب في نهاية المطاف أسعارًا للطاقة عند مستوى مرتفع قليلًا من أجل تحقيق مزيد من النمو.
ثانيا/ لأن المليارات من الاستثمارات التي وُعد بها بعد زيارة الرئيس الأخيرة للشرق الأوسط ستتأخر في التحقق إذا قيدت الأسعار المنخفضة قدرة دول الخليج على الاستثمار في الخارج.
على الأرجح، فإن الأدوات المتاحة لكبح الانهيار المحتمل في الأسعار بسبب تدفق البراميل الإيرانية إلى السوق المفتوحة سيكون محدودًا، ولكن هناك خيارات متاحة للولايات المتحدة يمكن تنفيذها لاحتواء المخاطر ومنع تداعيات سوق النفط من تقويض ما يبدو أنه رغبة واسعة في تحقيق تقدم دبلوماسي مع طهران، وأحد الخيارات الأولية سيكون الاستفادة من انخفاض أسعار النفط لبدء إعادة تعبئة الاحتياطي البترولي الاستراتيجي (SPR)، وهي الرغبة التي عبّر عنها وزير الطاقة كريس رايت بالفعل، وتاريخيا فقد جرى إنشاء SPR بموجب قانون سياسة الطاقة والحفاظ عليها لعام 1975، وتديره وزارة الطاقة لحماية الولايات المتحدة احترازا من اضطرابات كبيرة في إمدادات النفط.
وقد أشرفت إدارة بايدن على أكبر عملية سحب من SPR في تاريخ الولايات المتحدة من خلال بيع طارئ بنحو 370 مليون برميل في عام 2022، وفي حين كان الهدف من تلك الخطوة معالجة أسعار النفط المرتفعة نتيجة للحرب الروسية الأوكرانية، فقد كانت مثار جدل بسبب عدم وجود عجز في الإمدادات.
ومهما كان الجدل المحيط بسياسة إدارة بايدن، فإن النتيجة النهائية كانت أن نظام SPR وصل إلى أدنى مستوى له خلال أربعين عامًا، وبعد اكتمال هذا السحب فقد حددت وزارة الطاقة نطاق سعر يتراوح بين 67 إلى 72 دولارًا للبرميل بوصفه سعرا مفضلا لشراء النفط الخام بغية إعادة تعبئة الاحتياطي، ومن المحتمل أن تدفع زيادة الإمدادات الإيرانية الأسعار إلى ما دون هذا المستوى المستهدف، مما يوفر لواشنطن بيئة أسعار مناسبة من الناحية المالية لدعم عمليات إعادة التعبئة، كما أن أي إعلان من الحكومة الأمريكية بشأن نيتها القيام بذلك من لوازمه التأثير على توقعات السوق ويخفف من ضغط هبوط الأسعار مما يشكل نوعًا من الدعم غير المباشر لرغبة الإدارة في رؤية نمو في الإنتاج الأمريكي.
على أن إعادة تعبئة SPR تمثل على الأرجح الفعل الأحادي الأكثر فاعلية الذي قد تتخذه واشنطن للحد من المخاطر، أي خطر انخفاض حاد في أسعار النفط جراء زيادة الإنتاج الإيراني-، ومع ذلك، فقد تكون هناك مساحة -وإن كانت محدودة- للتنسيق مع الشركاء الإقليميين لوضع ستراتيجيات تخفيف أخرى، وعلى سبيل المثال فإن إيران وعلى الرغم من كونها عضوا مؤسسا في أوبك، فقد كانت مستثناة من حصص الإنتاج منذ ما يقرب من عقد، ومن ثم يمكن لإدارة ترامب نظريا أن تحاول استخدام علاقاتها الدافئة مع القائد الفعلي لأوبك، إي السعودية، للسعي من أجل توفير حصة إنتاج جديدة لإيران إذا رُفعت العقوبات، ونعيد التأكيد هنا أن طهران سترفض أي جهود أمريكية أحادية لتقييد قدرتها على زيادة الإنتاج بوصفها جزءا من اتفاق نووي جديد؛ لكن من المفترض أن تكون الحكومة الإيرانية أكثر استعدادًا لقبول مثل هذه القيود إذا كانت مفروضة من لدن منظمة متعددة الأطراف تنتمي إليها منذ زمن طويل! وسيساعد امتثال إيران بدوره في دعم الأسعار بما يتماشى مع مصالح الرياض، وسيظهر تماسك مجموعة OPEC+ التي تعاني منذ أشهر من إفراط الإنتاج لدولتين هما كازاخستان والعراق.
إن خطر انهيار الأسعار نتيجة لعودة واسعة النطاق للبراميل الإيرانية إلى الأسواق واضح، والأوضح من ذلك هو مدى محدودية خيارات واشنطن لاحتواء هذا الخطر، ومن المرجح أن الأساليب المذكورة آنفا قد تحقق بعض النجاحات إذا جرى تنفيذها بالفعل، لكن ربما السؤال الأعمق هو ما إذا كان البيت الأبيض مهتمًا فعليًا باحتواء هذه الآثار السلبية!.
وفي حين كرر ترامب أثناء الانتخابات الأمريكية الماضية شعار "احفر، احفر، احفر" عند الحديث عن سياسته في مجال الطاقة، فإن تفضيله للأسعار المنخفضة للنفط قد طغى بوضوح على أولوية نمو الإنتاج الأمريكي، وعليه من الممكن جدًا أن يرى البيت الأبيض في انخفاض الأسعار وسيلة لتعويض التقلبات الاقتصادية الناتجة عن استخدامه الواسع للرسوم الجمركية، وقد يكون هذا بالفعل السيناريو الأساسي لدى العديد من الجهات في صناعة الطاقة والدول المنتجة للنفط، لكن حتى الآن، تشير معظم المؤشرات إلى أن الولايات المتحدة ستتخذ نهجًا متساهلًا في حال أدى تدفق الإمدادات الإيرانية إلى انخفاض كبير في الاسعار.
اضف تعليق