إن الاعتراف بأخطاء الماضي، وما أكثرها في تجربة الحكم المستمر منذ الإطاحة بالنظام السابق عام 2003 ، والنأي عن ألاعيب التبرير المكشوفة، وكذلك انتهاج نهج الشفافية بخصوص الإنفاق الحكومي، ومحاربة الفساد والمفسدين محاربة حقيقية كفيلةٌ بردم الهوّة السحيقة بين أفراد الشعب ومن يُفترض بهم أن يكونوا ممثليه أو قادته السياسيين...

إذا جعلنا نقطة الشروع في هذا المقال ابتداءً من تاريخ الحرب العالمية الأولى عام 1914فإن الظاهرة التي لا ينبغي إغفالها تتمثّل في وجود الاضطراب الذي كان يسود العلاقة بين بعض القبائل والمدن العراقية من جهة، وبين السلطات العثمانية الحاكمة من جهة أخرى.

 فقد أعلنت كلٌ من مدن الحلة وكربلاء والنجف العصيان المسلّح ضد الاتراك أثناء قيام تلك الحرب العالمية في ما عرف تاريخيا بواقعة (عاكف بك)؛ إذ قام هذا القائد العثماني بمجزرة بشعة ضد السكان المحليين في مدينة الحلة، فقتل من أهلها سبعين رجلا شنقا، وسبى بعض النساء، وبحسب بعض المصادر التاريخية المعتبرة فإن هذا السفّاح أراد أن يتوجه إلى النجف وكربلاء، ويصنع فيهما ما صنعه في الحلة، ولكن (الباب العالي) منعه من القيام بذلك خوفا من ردة الفعل الشعبية...

وبعد تأسيس الدولة العراقية وإقامة الحكم الوطني تمرّدت بعض القبائل أواسط الثلاثينيات قصد الانقلاب على الحكومة لكنها عوملت بقمع شديد للغاية من طرف العسكري بكر صدقي، وهو الأمر الذي جعل من رؤساء تلك القبائل يستبدلون التزلّف للدولة بالتمرّد عليها، لاسيما مع تنامي الإحساس الشعبي -مدعوما بوثائق وبيانات دقيقة- بأن الحكم الوطني العراقي استطاع رجاله أن ينجزوا ما عجزت الدولة العثمانية عن إنجازه في العراق خلال أكثر من أربعة قرون، وهي مدة حكم الأتراك للعراق...

لقد طبعت الذهنية الشعبية العراقية بوجه عام فكرة أن الحكومة هي السبب المباشر بتردّي أحوال الناس، وكانت غالبية أبناء الشعب تأمل بالمعجزات التي تحققها لهم الإنقلابات، ولكن سرعان ما يخيب الظن الشعبي العام، وتعود نغمة التذمّر من الحكومة من جديد، وذلك بحسب ما تذكره كتب التاريخ الحديثة خاصة تلك التي تربط معطيات علمي التاريخ والاجتماع ربطًا محكما. 

ومن جهتهم فإن حكّام العراق سواء القدماء منهم أم المحدثين غالبا ما نظروا إلى الشعب العراقي عموما بوصفه شعبًا مشاكسًا لا تنفع معه سوى أساليب القمع والبطش. وقد عمل كثير منهم بهذا المقتضى، وحقق قسم منهم نتائج آنية استفاد منها بتعزيز قبضته مؤقتا، لكنّه بقي معزولا، ومنبوذا كما هو الحال مع نظام صدام وأزلامه، أو من جاء بعده، وسار بنهجه وإن ادعّى ظاهريا معاداته، والتبرئ من أفعاله! 

آخر ما رصدتُه من متابعاتي لمسلسل الشدّ والجذب بين الشعب والحكومة هو تصريح لأحد سياسي الشيعة مضمونه أن جماهير الأكراد، والسنة يعاملون قادتهم بشكل أفضل من حيث التبجيل والاحترام قياسًا بجماهير الشيعة من حيث تعاملهم مع قادتهم مطالبا إنزال نوع من القصاص بهؤلاء!

والملاحظة العامة على التصريح السابق أنها مبنية على مغالطات واضحة تتصدرها مغالطة المصادرة على المطلوب، فليس كل جماهير السنة والأكراد ينظرون إلى زعمائهم بالمنظار الذي رسمه هذا السياسي السفسطائي...

إن الاعتراف بأخطاء الماضي، وما أكثرها في تجربة الحكم المستمر منذ الإطاحة بالنظام السابق عام 2003 ، والنأي عن ألاعيب التبرير المكشوفة، وكذلك انتهاج نهج الشفافية بخصوص الإنفاق الحكومي، ومحاربة الفساد والمفسدين محاربة حقيقية كفيلةٌ بردم الهوّة السحيقة بين أفراد الشعب ومن يُفترض بهم أن يكونوا ممثليه أو قادته السياسيين، وبدلا من السير وراء المهاترات الحزبية لا بد لهؤلاء التقرّب من هموم المواطنين اليومية، والتركيز على إنجاز الملفات الرئيسية خاصة ما يدخل في مجال البنى التحتية والصحة والتعليم. 

ومن الضرورة بمكان ضمان توزيع الثروة الوطنية بشكل عادل بين مدن البلاد كافة، واعتماد مبدأ الكفاءة أساسا في التوظيف والترقية لا مبدأ الولاء! وكذا تقديم القدوة الأخلاقية من طرف الساسة، والابتعاد عن حياة الترف، والترفّع...

 وأهم من ذلك كله العمل الجاد على إحياء الهوية الوطنية الجامعة، وإشراك الشباب، ودعم قوى المجتمع المدني الحقيقي لا تهميشها أو التضييق عليها، ومزاولة السياسة من قبل زعماء الأحزاب وأعضائها بوصفها خدمة لا سلطة...

إن هذه الآليات وغيرها مما لا يجهله كثير من ساسة العراقيين الجدد كفيلة بأن تحوّل علاقة الشعب برموز الحكم إلى علاقة مبنية على قواعد المحبة لا العداء. وبمناسبة اقتراب الموسم الانتخابي العراقي الجديد فإن من المناسب قوله هنا إن العراقيين تعبوا من الخطابات والشعارات الكاذبة، وآن لهم أن يشهدوا من الساسة أفعالا صادقة تعكس تحليهم بروح المسؤولية، وحسب ذلك التصرّف مجلبة للفوز برضا الناس من دونما دعاية...

اضف تعليق