الفرضيات المثالية تُلزم المبدع سواء أكان شاعرًا أم أديبًا أو فنانًا أن يكون لسان حال شعبه وضمير عصره في مواجهة منظومات الجهل والجور والقبح، لا أن يكون بوقًا رخيصًا من أبواق السلاطين، لكن هذه الفرضيات أقرب ما تكون إلى الشعارات الحماسية منها إلى النظريات القابلة للتطبيق...
الفرضيات المثالية تُلزم المبدع سواء أكان شاعرًا أم أديبًا أو فنانًا أن يكون لسان حال شعبه وضمير عصره في مواجهة منظومات الجهل والجور والقبح، لا أن يكون بوقًا رخيصًا من أبواق السلاطين، لكن هذه الفرضيات أقرب ما تكون إلى الشعارات الحماسية منها إلى النظريات القابلة للتطبيق؛ ذلك أن جمهرة المبدعين تنحى تاريخيا نحو مغازلة ذوي النفوذ والسلطات، مع استثناءات قليلة للغاية.
لقد برزت في تاريخنا العربي القديم نسبيا، لاسيما في عصري بني أمية وبني العباس برزت ظاهرة أدباء البلاط، وهم خليط من نوابغ المثقفين في مجالات الآداب والفنون، وجلُّ هؤلاء كانوا قد جعلوا من مديح الحكّام وسيلتهم للعيش والارتزاق، وقد بلغ التملق للسلاطين لدى بعضهم حدًا مخزيًا فعلا ، من ذلك ما فعله الشاعر ابن القاضي حين أنشد بين يدي صاحب الأندلس قوله:
ما شئتَ لا ما شاءت الأقدار ... فاحكم، فأنت الواحد القهار....
وحتى الـ(المتنبي العظيم)، وعلى الرغم من عبقريته الفذّة توّرط في كتابة قصائد مديح فخمة وفاخرة لكافور الإخشيدي...
ومن قلاع الملوك، وقصور الخلفاء إلى صالات المهرجانات الحديثة يتكرر نمط شعراء البلاط والخيط الناظم لهم جميعا هو التزلّف قصد الارتزاق، وتتباين درجات هؤلاء المرتزقة المتزلفين لكنهم متحدون من حيث النوع، ويمكنك أن تعثر من بينهم على نوابغ تحوّلوا راغبين غالبا ومرغمين نادرًا إلى جزء من جهاز السلطة الدعائي، ومن هؤلاء النفر النادر في تاريخنا الحديث هو الشاعر محمد مهدي الجواهري الذي كان شاعر البلاط الملكي في عهد الملكين فيصل الأول وغازي لكنه اتخذ قرار الانفصال عن البلاط طواعية، ثم ندم على قراره هذا في أخريات أيام حياته...
وبصرف النظر عن القيمة الإبداعية العالية للأعمال التي نسجها بعض أدباء البلاط فإن ارتباطها بالمصلحة الشخصية أفقدها روح الصدق، وجعلها سجلاً مذموما للتكسب أكثر من كونها صوتًا للحقيقة، ويمكن أن يقاس على الأدب الرفيع الفن الرفيع، فكثيرة هي التحف الإبداعية التي زويت وأُهملت أو هُدّمت لاسيما التماثيل المبهرة التي شُيدت احتفاءً بالحكام الطغاة من أمثال ستالين وصدام وغيرهما...
للأسف الشديد لقد تحوّل كثير من رموز الثقافة العربية ومنها العراقية خاصة الشعراء إلى مستشارين ثقافيين لأنظمة الحكم يبررون الاستبداد والفشل بدعاوى شتى، ويهاجمون المعارضين بذرائع شتى! وأسماء الأدباء والفنانين ممن اصطفوا إلى جانب طاغية العراق، ونالوا من جوائزه وأوسمته أظهر من أن تُخفى، ولم تشفع لغالبيتهم مواهبهم بعد زوال حكمه!
لكن الغريب العجيب أننا نرى هذا النموذج البائس يتكرر في زمننا العراقي الحاضر أيضًا على الرغم من طبيعة النظام السياسي المصاغ إلى حدّ ما صياغة ديمقراطية.
وللإنصاف فإن ظاهرة (أدباء البلاط) من حيث المفهوم لا الاصطلاح ليست ظاهرة عربية فحسب، ففي أوروبا، عُرفت ظاهرة (أدباء البلاط) منذ عصر النهضة حين كان الأدب والفن عموما وسيلة لتلميع الملوك، وحواشيهم، فحتى (شكسبير العظيم) كتب بعض مسرحياته في ظل رعاية الملكة إليزابيث الأولى، وحرص على ألا يصطدم بالسلطة الدينية والسياسية في زمنه، على أن عظمته جعلت منه استثناء لقاعدة الرفض العام بعد وفاة الملكة، ولعلّ شكسبير البريطاني يشابه المتنبي من هذه الجهة.
ومن الإنصاف أن يقال أيضا إن المبدع يمرّ أحيانا بأزمات نفسية حادّة جراء ما يشعر به من تناقض بين ما يؤمن به حقًا، وما يمارسه على أرض الواقع، ففي روسيا مثلا كان (فلاديمير ماياكوفسكي) شاعر الثورة الشيوعية البلشفية بامتياز، وقد تحوّل بمرور الوقت إلى آلة دعائية لنظام القمع السوفييتي ليعيش بعد ذلك صراعا نفسيا مريرا انتهى به إلى الانتحار! وكما يقال فإنّ المبدع الحقيقي ليس معارضًا بالضرورة لكنه حرٌّ بالضرورة، ولهذا فإن أمثال هؤلاء النوابغ لا يناسبهم أبدًا دور الملق والاستخذاء لحكّام الجور والقبح والجهل، ومهما أحرز أدباء البلاط من مكاسب مؤقتة ولمع بريقهم تحت أضواء السلطة فإنهم سيظلون في الهامش من الذاكرة الإنسانية حتما وتبقى الصدارة أبدا لأولئك الذين اختاروا طريق الكلمة الحرة، وتسجيل الموقف الحر بوجه الحكّام الظلمة ومَن لفّ لفهم...



اضف تعليق