ان اي عطار، مهما كانت شطارته، لن يستطيع تطبيب جراح ذاكرة زمن من دون بوصلة عقد اجتماعي متكامل نحو عراق واحد وطن للجميع. من دون ذلك، فان تكرار الاخطاء محصلة معهودة وسياسات غير رشيدة، تنتهي الى ما انتهى اليه المحافظون الجدد في نظريات الاحتواء المزدوج التي فجرت ينابيع الدماء بعناوين مقدسة لم تردم حتى اليوم...
ما بين مسلسل العطار والسبع بنات المعروف في الدراما المصرية الرمضانية، ونموذج مارك سافيا العطار المتخصص بتجارة انواع من المخدرات لأغراض طبية، اكثر من صلة؛ لأنه سيواجه عراقيا ليس مشاكل سبع بنات كما واجهها العطار في المسلسل المصري، بل نماذج من بوصلات محصورة في اجندات الاحزاب او على اكبر تقدير في حدود المكون السياسي، في نموذج اليمن الامريكي الجديد في مؤتمر لندن، الذي انتهى الى طرح فكرة فدرلة العراق الى كانتونات كردية وشيعية وسنية في اتحاد فيدرالي، تحت عنوان عريض للفشل الامريكي في قسم ثم اجمع الذي انتهى الى فشل ذريع.
منذ ان دخلت القوات الامريكية العراق عام 2003 حتى اليوم، ظل سؤال واحد يلح على الاذهان؛ كيف تفشل اقوى الدول بما تمتلكه من اجهزة استخبارات في فهم بلد مثل العراق؟ كيف سيكون الموقف المقبل بعد تسمية مارك سافايا مبعوثا رئاسيا امريكيا للشؤون العراقية؟
لم يكن الفشل الامريكي في العراق حدثا عابرا، بل قصة تتكرر فصولها، والاجابة مشخصة في اربعة كتب تكشف الاسباب العميقة لهذا الفشل، وتستشرف مستقبل العلاقة مع الواقع العراقي المعقد.
الكتاب الاول: سيكولوجية التحليل الاستخباراتي لريتشارد هيور. يؤكد هذا الكتاب الكلاسيكي ان المشكلة الاساسية ليست في نقص المعلومات، بل في طريقة تفكير المحللين انفسهم. يشرح الكاتب كيف ان التحيزات المعرفية تشوش رؤية المحللين وتجعلهم يرون فقط ما يريدون رؤيته.
الكتاب الثاني: السي اي ايه وثقافة الفشل لجون دايموند. يحلل البنية الداخلية لوكالة الاستخبارات المركزية ويكشف كيف ان البيروقراطية والمعارك الداخلية والروتين القاتل تمنع المؤسسة من العمل بشكل صحيح.
الكتاب الثالث: الزمان والسرد في التحليل الاستخباراتي لجوشوا يافي. يتعامل هذا الكتاب مع الفلسفة الاساسية للاستخبارات الامريكية، ويشرح لماذا فشلت احدث التقنيات الامريكية في فهم تعقيدات المجتمع العراقي.
الكتاب الرابع: السرد وصناعة الامن القومي الامريكي لرونالد كريبس. يحلل كيف يستخدم السياسيون الامريكيون تقارير الاستخبارات لبناء قصص سياسية تخدم اجنداتهم، حتى لو كانت هذه القصص غير صحيحة، ويكشف كيف يتم تشويه الحقائق الاستخباراتية لتناسب الاهداف السياسية.
وفق منظور هذه الكتب في تحليل الفشل الامريكي، يتكرر السؤال؛ ما الذي يمكن للعطار سافايا اصلاحه اذا الملح فسد؟ من خلال الربط بين رؤى الكتب الاربعة، يمكننا تشريح جذور الفشل الى اربعة مستويات مترابطة:
المستوى الاول: العقلية المعيبة
من خلال كتاب هيور نكتشف ان المحللين الامريكيين وقعوا في فخ التحيز التأكيدي؛ انهم يبحثون فقط عن المعلومات التي تؤكد ما يعتقدونه مسبقا. فعندما كانوا يعتقدون ان نظام صدام سينهار، تجاهلوا كل الادلة على عكس ذلك، وعندما اعتقدوا ان العراقيين سيرحبون بهم كمحررين، تجاهلوا تاريخ العراق وكراهيته للاحتلال.
المستوى الثاني: المؤسسة المتصلبة
يكمل دايموند الصورة ويكشف لنا كيف ان البيروقراطية الامريكية المعقدة حالت دون تبادل المعلومات بين الوكالات. اصبح كل قسم يحمي مصالحه الخاصة، وباتت السياسة الداخلية اهم من دقة التحليل، والاسوأ ان النظام كافا الموظفين الذين يقولون ما تريد الادارة سماعه، لا الذين يقولون الحقيقة.
المستوى الثالث: المنهجية الفاشلة
يكشف جوشوا يافي جذر المشكلة الحقيقي؛ فقد حاول الامريكيون فهم العراق كما يفهمون مختبرا كيميائيا. احضروا اجهزة متطورة واحصاءات دقيقة، لكنهم نسوا ان العراق ليس معادلات رياضية، بل نسيج معقد من القصص والتاريخ والثقافة. حاولوا قياس كل شيء بعدد الدبابات وحجم الاقتصاد، ونسوا قياس مشاعر الناس وذاكرتهم التاريخية.
المستوى الرابع: التوظيف السياسي
يكشف كريبس كيف ان السياسيين الامريكيين استخدموا تقارير الاستخبارات كأوراق لعب في لعبة سياسية. لم يكونوا يريدون الحقيقة، بل ما يدعم سرديتهم عن تحرير العراق ونشر الديمقراطية.
بناء على هذا التحليل، وما يمكن ان يكون في عراق يتعامل مع مبعوث رئاسي امريكي، يمكننا استشراف ثلاث مسارات للمستقبل:
المسار الاول: استمرار الفشل
امكانية ان تستمر واشنطن في النجاح بالأمور الصغيرة مثل ملاحقة الارهابيين والفشل في الامور الكبيرة مثل فهم التحولات المجتمعية. السبب بسيط ومباشر؛ مؤسسة العملية السياسية في ضوء نموذج مجلس الحكم بزعامة بول برايمر ما زالت تقاوم التغيير وستبقى كذلك.
المسار الثاني: تحسن محدود
إذا حدثت صدمة كبيرة للولايات المتحدة في العراق كما حدث مع صعود داعش، قد تضطر الى مراجعة نفسها. لكن هذا التحسن سيكون محدودا ومؤقتا وسرعان ما تعود الامور الى سابق عهدها. هذا لا يسهل مهمة العطار سافيا بل يعقدها، لان الصورة المرسومة بين تعريف الارهاب امريكيا والمقاومة الاسلامية بمنظور فيلق القدس الايراني تتناقض كليا داخل المؤسسة ذاتها التي يريد اصلاحها. ويكفي الاشارة الى واقعة الخطأ غير المقصود في الوقائع العراقي التي نشرت ما اعتبر حزب الله والحوثيين ارهابيين.
المسار الثالث: تحول جذري
يتطلب ثورة شاملة؛ تغييرا في عقلية صانعي السياسات ومتخذي القرارات، اصلاح مؤسسة العملية السياسية، تبني منهجية جديدة، وتوقف الاباء المؤسسين للعملية السياسية عن توظيف المعلومات لأغراضهم الخاصة. وهذا يحتاج ارادة سياسية وشجاعة مؤسسية لا نراها في الافق القريب.
كما تؤكد تحليلات مراكز التفكير الامريكية ان العراق على مفترق طرق ما بعد انتخابات 2025، فان المطلوب في المقابل ان تكون السياسات الامريكية ايضا على ذات المفترق؛ مغادرة الفشل وتبني نهج جديد يقوم على الاعتراف بان النهج القديم لم ينجح، وان التغيير الجذري ضرورة لا خيارا.
المعضلة ان الكثير حتى من العراقيين او العرب العاملين في مراكز التفكير الامريكية او اداراتها يغرقون في المنهجية الخاطئة ذاتها؛ مرة لانهم يحاولون ان يكونوا امريكان اكثر من رؤسائهم في العمل، ومرة اخرى لانهم يتمسكون بأجندات الاحزاب التي اوصلتهم الى هذه المراكز، فيكونون مجرد صدى بلا نتائج حقيقية لإعادة النظر الجادة بالسياسات الامريكية في العراق.
ابرز الامثلة؛ اتفاق الدكتور احمد الجلبي على افتتاح مقر للمؤتمر العراقي في طهران الممول من قانون تحرير العراق، وضم الاحزاب المؤيدة للثورة الاسلامية اليه، فانتهى بعد التحرير الى الصف الايراني لإغراق القوات الامريكية في المستنقع العراقي.
لذلك فشلت واشنطن قبل وبعد 2003 في فهم العراق، لأنها حاولت ذلك من خلال ارقام واحصاءات وحكايات توظف التقية سياسيا، تخفي وراء الاكمة ما تخفيه، بينما الحقيقة كانت دوما في القصص والشعر والذاكرة الجمعية التي توحد ولا تفرق.
فالعشائر العراقية تمتد من شمال العراق الى جنوبه، بمختلف المذاهب بأخلاق واحدة. وما داموا لم يتعلموا هذا الدرس، فسوف يستمرون في المفاجأة بما يحدث في ارض الرافدين.
وكما قال احد الخبراء؛ المشكلة ليست اننا لا نملك معلومات كافية، بل اننا نفهم المعلومات التي نملكها بطريقة خاطئة. هذا هو الدرس الاكبر الذي يمكن ان يتعلمه المبعوث الامريكي الى العراق، لان الوقوع في عدم فهم لعبة بنات السياسة في تطبيقاتها العراقية كما هي في مسلسل العطار والسبع بنات المصري، يؤكد ان اي عطار، مهما كانت شطارته، وان تاجر بأنواع الحشيش والافيون لأغراض طبية، لن يستطيع تطبيب جراح ذاكرة زمن من دون بوصلة عقد اجتماعي متكامل نحو عراق واحد وطن للجميع. من دون ذلك، فان تكرار الاخطاء محصلة معهودة وسياسات غير رشيدة، تنتهي الى ما انتهى اليه المحافظون الجدد في نظريات الاحتواء المزدوج التي فجرت ينابيع الدماء بعناوين مقدسة لم تردم حتى اليوم.



اضف تعليق