إيران تبدو واعية لهذا المسار المحتمل، وترفض الانجرار إليه. وقد سارعت فور توقف القتال إلى التحرّك نحو بكين، في خطوة ذات دلالات استراتيجية واضحة تهدف إلى معالجة الثغرة الأخطر في المعركة الأخيرة: التفوق الجوي الإسرائيلي-الأميركي. فإذا ما نجحت طهران، عبر شراكات تقنية مع الصين، في تحييد هذا التفوق الجوي...
هدأ أزيز الطائرات، وسكتت الانفجارات، وانقشع الدخان تدريجيًا من سماء المدن، وبدا المشهد وكأن حربًا انتهت، لكن السؤال الأكثر إلحاحًا: هل الصراع فعلاً انتهى، أم أننا سنشهد انتقاله إلى مرحلة أشد تعقيدًا ودهاءً؟
في ظل ما تُخطط له إسرائيل وحلفاؤها من شرق أوسط جديد تقوم دعائمه على تفتيت الدول أو استبدال أنظمتها بأخرى موالية، مُحيَّدة، ضعيفة، ومجردة من أدوات الردع، كما الحال في لبنان وسوريا والعراق، تبرز إيران كعقبة مركزية أمام هذا المشروع.
من هنا، فإن إيقاف العمليات القتالية لا يعني أن إسرائيل قد استسلمت للوقائع. بل قد يعني ببساطة أنها تعيد التموضع، بعدما أيقنت أن كلفة الحرب الشاملة مع إيران تتجاوز قدرتها على الاحتمال.
توقفت المدافع، لكن الصراع لم يُطوَ بعد. كلا الطرفين، إيران وإسرائيل، انشغلا فورًا في فحص جبهاتهما وتفكيك نتائج المواجهة وترميم الثغرات، وإعادة رسم خطوط الاشتباك المقبلة. فالمعارك الكبرى لا تنتهي بتراجع الجيوش خطوات الى الوراء، بل تبدأ من حيث تُفتَح دفاتر الخسائر وتُعاد هيكلة الردع، ونحن يقينا أمام معركة كبرى.
ولفهم السلوك الإسرائيلي في المعارك وبعدها، لابد من العودة إلى حرب تموز 2006، يوم تذوقت إسرائيل طعم الهزيمة أمام حزب الله.
منذ ذلك اليوم، تحوّلت سوريا إلى ممر مشبوه في نظر تل أبيب واعتبرتها مصدر دعم وذخيرة وعمق استراتيجي لمحور المقاومة كان مهما في هزيمة الجيش الاسرائيلي.
ومن هذا الفهم تبلورت لدى تل ابيب معادلة جديدة طُبّقت لاحقا بشكل دقيق: تدمير سوريا أولًا، ثم التفرغ لحزب الله لاحقًا. وهذا ما حدث فعلاً. كل ما تلا تلك الهزيمة في 2006 كان بطريقة أو بأخرى ردًا إسرائيليًا مؤجلًا على ما تذوقته في جنوب لبنان.
اليوم، إسرائيل لا تفكر بتكرار المعركة ذاتها مع طهران وبنفس الخيارات والمعدات الحربية، فهي تعيد النظر حاليا في أدواتها وتناقش المحاور التالية المتاحة:
1- اللجوء إلى زعزعة الداخل الإيراني عبر مجاميع مسلحة مسنودة بجواسيس اسرائيل في ايران؟
2- استهداف شخصية المرشد الأعلى بعد أن ثبُت أنه الركن الأساس في النظام الاسلامي؟
3- افتعال صدام إقليمي بالوكالة، وتبدو أذربيجان مرشّحة محتمَلة لهذا الدور، بفعل موقعها الحدودي، وعلاقاتها الأمنية المتقدمة مع إسرائيل.
وقد تحاول تل أبيب استنساخ ما يشبه "النموذج الأوكراني"، حيث تُستخدم دولة حدودية لجرّ خصم إقليمي إلى حالة استنزاف دون إعلان حرب مباشرة بين الخصوم الأساسيين.
بعض الأدوات الإسرائيلية فُعِّلت سابقًا وفشلت بشكل واضح؛ فقد أُطيح بخلايا التجسس، وأظهر الداخل الإيراني وحدة نادرة، حيث اصطفت معظم التيارات -بما فيهم بعض المعارضين- خلف القيادة السياسية والعسكرية في وجه العدوان الخارجي.
مع ذلك، يبقى احتمال استهداف المرشد الأعلى قائما، وتفجير صراع حدودي مع أذربيجان مرجّحًا، في ظل ما يجمع الاخيرة من روابط استراتيجية مع كل من تركيا وإسرائيل، وسماحها العلني بنشاط استخباري مكثف على أراضيها.
وإذا ما توفّر لأذربيجان دعمٌ إقليمي ودولي، فقد تتحوّل إلى ساحة مواجهة مفتوحة بالوكالة، تُعيد إلى الأذهان استخدام أوكرانيا كأداة ضغط على خاصرة روسيا الشرقية.
غير أن إيران تبدو واعية لهذا المسار المحتمل، وترفض الانجرار إليه. وقد سارعت فور توقف القتال إلى التحرّك نحو بكين، في خطوة ذات دلالات استراتيجية واضحة تهدف إلى معالجة الثغرة الأخطر في المعركة الأخيرة: التفوق الجوي الإسرائيلي-الأميركي.
فإذا ما نجحت طهران، عبر شراكات تقنية مع الصين، في تحييد هذا التفوق الجوي، فإن بنية الصراع ستتبدّل جذريًا. وعندها، قد تُكتَب الجولة القادمة سواء مع اسرائيل او مع أي من حلفائها، بلغة مختلفة، وبأثمان أشدّ لا تُقاس بحسابات المعارك السابقة.
اضف تعليق