وعندما انتهت الحرب أخيرًا، استعاد شيئًا ضائعًا من أحلامه بعد أن أصبح شابًا، فحلم بالزواج من زهراء والعودة إلى الحقل لعلّه يعيد إليه الحياة التي فقدها بسبب الحرب. لكن صدام لم يمنح أحلامه فرصة لتَنمو، فبعد عامين فقط، وجد مانع نفسه يُقاد جنوبًا مرة أخرى، مع جحافل من الجيش...

بين خضرة الحقل وهدوء القرية، وما تضفيه أهوار ميسان الشرقية من سكون تاريخي مجهول، نشأ مانع طفلًا، وهو الآن في الثانية عشرة من عمره. تستيقظ أحلامه يوميًا على وقع أقدام أمه العجلة وهي توزع جهدها بين حلب الأبقار وإيقاد التنور.

كانت تحلم بأن يحظى مانع وأخوته بتعليم جيد، فتوقظه بنبرة حنونة غالبًا، لكنها لا تتردد في الصراخ حين يتناوم ويأبى الاستيقاظ للذهاب إلى المدرسة.

كانت تدرك أنه يحب اللعب واللهو الطفولي أكثر من حبه لمدرسته، غير أنها كانت تأمل أن ينجح بتفوق ويواصل دراسته ليكون ذا شأن في المستقبل.

وهو عائد من مدرسته في ظهيرة يوم خريفي من أيام أيلول عام 1980، فوجئ مانع بأرتال طويلة من الجيش تسير على السدة الترابية محاذاة هور الحويزة باتجاه إيران، التي لم تكن تبعد حدودها عن قريته سوى ثلاثين كيلومترًا.

إنها الحرب إذن! وحديثها غزا مجالس الكبار في القرية، كما أصبح مادة إعلامية في التلفزيون والراديو. ولم تمض أيام قليلة حتى عاد سلام وعقيل ـ أبناء القرية ـ جثتين ملفوفتين بعلم العراق.

انقلبت الحياة رأسًا على عقب، ومزق صلاح، شقيق عقيل، صورة صدام تعبيرًا عن حزنه وغضبه، لكنه اختفى إلى الأبد بعد أن خطفته سيارة الفرقة الحزبية، بينما صارت الجنازات عادة يومية، كما لو أن الموت أصبح مهنة الفقراء الوحيدة.

أرغمته الحرب على الحزن المبكر بعد أن كان يعشق اللعب، وما إن رسب عامين متتاليين حتى وجد نفسه في خنادق البصرة بين قذائف لا تتوقف، يتلقى الأوامر من ضباط يختلفون عن جنود الجنوب في كل شيء.

كأن قلوبهم مخلوقة من القسوة والكره والطغيان. هناك، أمضى سنوات متنقلًا بين خنادق من الوحل والرعب، وطالما حلم برغيف خبز ساخن، ويد أمه التي كانت توقظه وتشجعه ليذهب إلى المدرسة.

كان يسأل نفسه دائمًا: "هل ما زالت تنتظرني عند باب المنزل، كما كانت تفعل حين كنت في المدرسة؟"

لكن الأم ماتت ذات مساء كمدًا عليه، وتفرق الإخوة بين جبهات القتال والمنافي، بينما ذبل الأب وحيدًا في الحقل الذي خلا من الحياة.

وعندما انتهت الحرب أخيرًا، استعاد شيئًا ضائعًا من أحلامه بعد أن أصبح شابًا، فحلم بالزواج من زهراء والعودة إلى الحقل لعلّه يعيد إليه الحياة التي فقدها بسبب الحرب.

لكن صدام لم يمنح أحلامه فرصة لتَنمو، فبعد عامين فقط، وجد مانع نفسه يُقاد جنوبًا مرة أخرى، مع جحافل من الجيش، ليس للتدريبات كما قيل لهم، بل لغزو الكويت.

شعر بالخزي والارتباك، كيف نغزو مواطنين آمنين في بيوتهم؟ ولأجل ماذا؟

ألم تكفِ صدام ثماني سنوات من الموت والدمار والفشل والهزائم ليبدأ حربًا أخرى؟

كانت تلك تساؤلاته التي لم تسمعها شفتاه، فلا أحد يجرؤ على الاعتراض في ذلك الزمن، لذا اكتفى مانع بإفراغ أحزانه في دفتر صغير كان يخفيه بين طيات ملابسه.

دوّن فيه خوفه ورفضه وأحلامه المحطمة، وكتب ما لم يستطع قوله.

وفي العبدلي، حيث تهاوت الفيالق وتحولت إلى جثث متفحمة وآليات مدمرة، وتاهت النفوس على وجوهها، ظل مانع مختبئًا من هول المحرقة في مخبأ تحت الأرض، ينتظر الموت بصمت، يودع في خياله صورة أمه وأبيه وزهراء.

وأغلق دفتره إلى الأبد بعد أن كتب على آخر صفحة:

"إن ضاعت رفاتي في العبدلي، فلتشهد كلماتي أنني أحببت الحياة، وكرهت الحرب، ومِتُّ لحظة مغادرتي منزلي، مودعًا بدموع أمي، وانكسار إخوتي، وخوف أبي."

اضف تعليق