في هذه اللحظة، أدركتُ المأساة الحقيقية: لقد تعلمنا العيش مع الوحش، حتى صرنا نعلم أطفالنا رقصته. جلستُ في ظلام الغرفة، أراقب ظل الشمس وهو يموت خلف الغبار. شعرتُ كأنني حجرٌ في جدار قديم، شاهد على نفس المأساة تتكرر بلقطات متطابقة. ثم نهضت، وأنا أحمل في قلبي وصيةً لم...
قبل عِشرين خريفًا، في مساءٍ كانت أنفاسه لهبا وفتنة، أغلقتُ باب بيتي بإحكام، كمن يدفن كنزاً ثميناً.
لم يكن إقفالاً عادياً، بل كان محاولة لصدّ عاصفةٍ من الخطر والقلق والكراهية كانت تعوي في شوارع المدينة.
أمسكتُ بأكتاف أطفالي الصغار، الثلاثة، كطيورٍ مرتجفة. "لا تقتربوا من النوافذ"، همستُ وصوتي يكاد ينكسر. "لا تضحكوا بصوت عالٍ.. قد يسمعكم أحد". نظروا إليّ بعيونٍ واسعة لم تدرك بعد لماذا أصبحت الضحكة جريمة.
من خلف الباب، كنتُ أراقبهم وهم يلعبون بمحيطهم الضيق الذي سجنتهم فيه مرغما.
رأيتُ براءتهم تتصادم مع قسوة العالم خارج الجدار. شعرتُ أن وطناً بأكمله قد جثم على صدري، يحطم أضلاعي واحدا تلو الأخر، ويخنقني، وكم هو مؤلم حين يخنقك الوطن!.
في تلك الليلة، خططت في مفكرتي على ضوء مصباح نفطي : "هنا.. تتحكم الأهواء بمصائر البشر، وتتحول المدارس إلى ثكنات، والبيوت إلى قلاع للخوف. هنا يرقص المغامرون والمقامرون على أنغام الخراب، ويضحكون حين يبكي الأطفال".
والآن، بعد عِشرين خريفا، مازلت أقف أمام نفس الباب. أولادي الذين كانوا يلعبون على الأرض أصبحوا رجالاً، وحفيدتي "ندى" تملأ البيت بضحكتها التي تشبه ضحكة أبيها تماماً.
لكن شيئاً واحداً لم يتغير.
الضجيج نفسه، الرصاص نفسه، حتى رائحة الخوف نفسها لا تزال عالقة في هواء هذا البلد. كأننا ندور في نفس الحلقة.
قلقنا لايريد ان ينتهي، وجهلنا لايريد ان يتعلم، وسفيهنا يأبى أن يعقل، كأننا توقفنا عند نقطة النهاية.
اليوم، بينما كانت ندى تلعب في الفناء، سمعت دوي هتافات غاضبة تشق عنان السماء من بعيد. رأيتُ كيف توقفت فجأة، كيف التقطت لعبتها وهرعت إلى الداخل ببراعة مريبة. إنها تعرف الحكاية منذ كانت في عالم التكوين.
في هذه اللحظة، أدركتُ المأساة الحقيقية: لقد تعلمنا العيش مع الوحش، حتى صرنا نعلم أطفالنا رقصته.
جلستُ في ظلام الغرفة، أراقب ظل الشمس وهو يموت خلف الغبار. شعرتُ كأنني حجرٌ في جدار قديم، شاهد على نفس المأساة تتكرر بلقطات متطابقة.
ثم نهضت، وأنا أحمل في قلبي وصيةً لم تُكتب بعد على الورق، لكنها محفورة في روحي:
لا تورثوا أبناءكم خريطة عداواتكم..
لا تعلّموهم أن يحملوا السلاح بدلاً من الحلم..
ورِّثوهم أرضاً.. ورِّثوهم وطناً.
اضف تعليق