يزيد ومن هم على شاكلته في التاريخ صنعوا السلام للناس بقوة السلاح والخداع والتضليل، و أوحوا الى أنهم لا يريدون شراً بأحد، بل ويطلقون لهم كامل الحرية في طريقة الملبس والمأكل، والعمل والسفر، والاستمتاع بالحياة كما يريدون، بينما الامام الحسين، صنع سلاماً للأمة يضمن لهم السعادة دنياً وآخرة...

"إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما".

الإمام الحسين، عليه السلام

من الذي يصنع الحرب؟ ومن الذي يصنع السلام؟ و بأي طريقة؟ طيلة عقود من الزمن، تمكن إعلام السلطة غرز فكرة أن السلطة الحاكمة هي مصدر الأمن والسلام في ربوع الوطن، و أي حركة معارضة يعني الاضطراب والفوضى، ثم الحرب وإراقة الدماء.

ومن أجل هذا عملت الدعاية السلطوية على إظهار حكام مستبدين وطغاة على أنهم حمائم سلام لشعوبهم، بل وحتى للدول المجاورة، لا يريدون سوى الخير للناس، وإن حصل مكروه، فهي "مؤمرات من جهات أجنبية". 

هذه الفكرة لم تلد في القرن العشرين مع ظهور الدويلات المصطنعة على يد الاستعمار، بل هي موجودة في تاريخنا الإسلامي، وتحديداً منذ العهد الأموي الأول المتقنّع بـ"الخلافة"، موجداً واقعاً اجتماعياً وسياسياً لأول مرة بأن "من يخرج على إمام زمانه يقتل"، وإمام الزمان آنذاك؛ يزيد بن معاوية بن ابي سفيان، المنحدر من أسرة مشركة ناصبت العداء بأشدّ ما يكون لرسول الله، ولرسالة السماء برمتها، وعندما أراد الجهاز الإعلامي والقضائي في البلاد الأموي تسويغ الحرب ضد الامام الحسين، رفعت شعار "شقّ عصا المسلمين"، فالمسلمون كلهم –الأغلبية العظمى- راضون عن يزيد، كما حصل الشيء نفسه مع أبيه معاوية، ما عدا الأمام الحسين، وثلّة من أهل بيته، والجمهور الإيماني من اتباع أهل بيت رسول الله.

يزيد ومن هم على شاكلته في التاريخ صنعوا السلام للناس بقوة السلاح والخداع والتضليل، و أوحوا الى أنهم لا يريدون شراً بأحد، بل ويطلقون لهم كامل الحرية في طريقة الملبس والمأكل، والعمل والسفر، والاستمتاع بالحياة كما يريدون، بينما الامام الحسين، صنع سلاماً للأمة يضمن لهم السعادة دنياً وآخرة. 

أدوات لصنع السلام

في المقابل علينا أن نعرف كيف صنع الامام الحسين السلام للأمة، ليس للفترة الزمنية التي عاشها قبل حوالي أربعة عشر قرناً، بل صنعه لنا، وللأجيال القادمة الى يوم القيامة؟

أول خطوة: الإصلاح في الأمة، وليس في الحكم ولا في السياسة أو الاقتصاد، لمعرفته بأن افراد الأمة هم من يكونوا عوامل لنجاح الإصلاح وتحقيق السعادة لانفسهم، كما هم أنفسهم يمكن أن يكونوا وقوداً للحرب والدمار والموت، كما جرّب هذا أهل الكوفة سنة 61للهجرة. 

وفي إعلانه الثوري الشهير، بيّن الامام الحسين، عليه السلام، أدواته لتحقيق الإصلاح، وهي أولاً: تنفيذ إحدى الفرائض الدينية؛ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وثانياً: السير على نهج رسول الله، وأمير المؤمنين، صلوات الله عليهما، بمعنى أن السلام الذي ننشده في الحياة سوف يكون برعاية إلهية، وأيضاً؛ في ظل قوانين ونظم لها تطبيقات عملية على ارض الواقع، شهدها الناس آنذاك، وإذن؛ لسنا أمام قضية غيبية بالمطلق، إنها معادلة السبب والمسبب، ففي عهد أمير المؤمنين، شهد المسلمون لأول مرة منذ غياب النبي الأكرم عنهم، تطبيق الاحكام الإسلامية، و تذوقوا طعم العدل، والمساواة، والحرية، وتطبيق أحكام الله كما نزلت على رسوله الكريم، ولكن! كان جزاءه الحرب المفروضة من قبل أناس تتقاطع مصالحهم مع العدل والمساواة وتحكيم قيم السماء. وحصل ما حصل، في ظل صمت وحياد سلبي للمجتمع آنذاك.

وفي القرآن الكريم إشارات واضحة تكشف هوية من يشعل فتيل الحرب ويتسبب بإراقة الدماء، وهم الطغاة، والبغاة، ومن ينتهكون حقوق الآخرين، {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمْ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ}، (سورة التوبة، الآية:13)، والآية الكريمة من سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}، والآية الكريمة من سورة البقرة، التي تتحدث عن موضوع اقتصادي بحت، بيد أنه يفضي الى إشعال نار الحرب في كيان المجتمع: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}، ولو لم تكن الآثار الكارثية للربا على المجتمع، لما جاء التهديد المباشر من الله –تعالى- بإعلان الحرب لمواجهة هذا اللون من الإفساد العظيم من قبل الطامحين للإثراء الفاحش والظالم. 

أدوات لصنع الحرب

أولها الإفساد في جميع زوايا كيان المجتمع، يبدأ من الفساد الأخلاقي، وتحطيم كل الأطر والقوانين المنظمة للسلوك الفردي والاجتماعي لتعمّ الفوضى الجنسية والأخلاقية، وتهميش دور الأسرة والوالدين، وإلغاء لدور التربية والتعليم، ومن ثمّ يأتي دور الإفساد المالي الذي يسوّغ لصاحبه فعل كل شيء يلبي الرغبات الجامحة للتملك والحصول على الامتيازات، فمن يكون خالياً من الأخلاق والآداب، لن يردعه شيء في طريقه الى كسب الربح السريع او الاستحواذ على عقارات او امتيازات او مناقصات تكون على حساب الكفاءة والجدارة. 

ولمن يقلب تاريخ الأنظمة السياسية العربية في القرن الماضي يجد أن الفساد والإفساد هو الذي خلق أرضية الحروب الاهلية، وحالة الاضطراب، وإزهاق أرواح الملايين من البشر، لسبب بسيط؛ أن الذين يتقاتلون من اجل السلطة هم ضحايا تلك السياسات الفاسدة في العهود الديكتاتورية البائدة، وهذا يؤكد الخطأ القاتل التي وقعت فيه الشعوب العربية بظنها أنها تنعمّ بالأمان والسلام والسعادة بمجرد سقوط الديكتاتور الصنم الجاثم على صدرها، بينما الحقيقة أن خطر الموت الذي يرافقها هي الثقافة السامة المتفشية في كيانها مثل داء السرطان الوبيل. 

ولنعود الى النهضة الحسينية المقدسة، والتي نطلق عليها تسمية "ثورة" استعارةً، وإلا فهي أكبر من ثورة وفق المفهوم والمصطلح الشائع في العالم، فهي تضم مفاهيم وقيم إنسانية تدعو الى السلام والحرية، وهي بعيدة كل البعد عن مفردات الحرب، من تهديد، او استفزاز، أو عرض عضلات على الغير، او الدخول في سباق تسلح ونفوذ على حساب مصالح الناس، وايضاً؛ الثوابت الدينية، وهو ما فعله الأمويون، وتحديداً يزيد، ومن قبله ابوه، مما أفقد المجتمع الإسلامي آنذاك أمنه واستقراره، فأهل الكوفة، والشام، والحجاز، لم يتذوقوا طعم السلم والاستقرار منذ استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، وتحقيق الانتصار العسكري المزعوم عليه.  

وهذا تحديداً ما جعل هذه النهضة المباركة، بما فيها من تضحيات، ودماء، وآلام، بمنزلة النموذج الحيّ عبر الزمن لكل الشعوب الطامحة للعيش بسلام وكرامة في هذا العالم، ولاسيما الشعوب الإسلامية المدعوة قبل غيرها لدراسة هذه النهضة التي تعد امتداداً للنهضة الرسالية بقيادة النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فهي نهضة إسلامية بامتياز تحمل كل ما بشّر به الإسلام للمسلمين وللعالم أجمع. 

اضف تعليق