إن نموذج الأسرة في الإسلام يمثل الوسيلة الجاهزة الأولى التي يتوارث فيها الأبناء والأحفاد رايات الهوية الدينية والثقافية عن الآباء والأجداد، وهي المزرعة التي تغرس في قلوب أبنائها، وعقولهم حب الخير، وسائر مكارم الأخلاق، وعلى رأسها التضحية، والإيثار، والصبر...
ما أكثر المواقف التي تشع من لوحة الطف الكربلائية، ويتسيّد فيها الحسّ العائلي النبيل على نوازع الذات وحبّ البقاء.
وما أسهل على المتأمل المنصف في هذه اللوحة البانورامية أن يجمع صورا شتى للعلاقات الرحيمة التي جمعت في خطوطها بين الأخ وأخيه، أو أخته، وبين الوالد وبنيه، وبناته، حتى لتكاد فكرة الأسرة المتراحمة تختزل كلّ معاني الأمة المرحومة، سواءً ما يُستمد من مشاهد ظهيرة عاشوراء أم مما وثّقه الرواة من تفاصيل رحلة الأربعين التي أعقبت تلك الظهيرة العصيبة، أي عندما أنيطت قيادة الأسرة الهاشمية، وإدارتها إلى يد السيدة زينب عليها السلام، وقد بلغت ذروة الملحمة العائلية في بعض تجليّات تلك المسيرة المثيرة عندما عزم الطاغية عبيد الله بن زياد على قتل الإمام علي زين العابدين عليه السلام، وهو الناجي الوحيد -بسبب مرضه- من مذبحة كربلاء، لكن ذلك الجائر المتجبر أحجم عن إتمام ما نواه في حينها مأخوذا بما رآه من ردة فعل السيدة زينب عليها السلام، وتصميمها على أن تُقتل هي أولا... فلم يزد حينها ابن زياد عن قوله مستغربا:((عجبًا للرحم! والله إنّي لأظنها ودّت أنّي قتلتها معه))...
ومن هنا يتأكد وجوب ترسيخ سردية الطف في المنهج الأسري بوصفها قصصا أخلاقية تعزز تجربة التضامن، والتضحية، والإيثار، لا مجرد واقعة عسكرية تاريخية كما تنظر لها بعض القراءات الإسلامية المؤدلجة ...
إن الأسرة في الإسلام هي النواة الاجتماعية القابضة لكلمة السرّ التي تحفظ هوية الفرد، وما يتفرّع عنها من قيم، وتقاليد؛ إذ الأسرة في المنظور الإسلامي ليست مجرد رابطة عاطفية، أو دموية، إنما هي حبلٌ متين متصل بالخالق عزّ وجلّ الذي جعل من عقد الزواج محلًا للأمان، والأمانة، ومناطا للرحمة والمحبة. ولكل عضو من أعضاء الأسرة الواحدة حدّد الشارع دورا مميزا له من حيث طبيعة الحق، وطابع المسؤولية...
وقد تولت المدونة القرآنية مهمة إجمال كنه كل دور في حين باشرت السنة النبوية مهمة شرحه، وتصدى الصالحون عبر العصور إلى ترسيخه بالتبيين والوعظ والإرشاد.
ولعل في ما ورد من بنود رسالة الحقوق للإمام علي زين العابدين عليه السلام بخصوص حقوق الأبوين، وسائر أعضاء الأسرة ، وما ينبغي لكل فرد منها، وما يترتّب عليه خلاصةً للمنهج النبوي الخاص بتوزيع الحقوق والمهام ، وبما يكفل حفظ التماسك، والانسجام، والحيلولة دون التفكك، والانحلال العائلي، وكل ذلك في إطار التكامل، والتعاضد لا التنافس، والتصارع كما هو الحال واقعًا في منظور بعض التيارات النسوية (الراديكالية) السادرة في مشروع تهشيم أواصر الأسرة، وضربها في الصميم من خلال دعوة الشباب علنا عبر واجهاتها الإعلامية الظاهرة والمستترة، دعوتهم إلى العزوف عن الزواج الشرعي، وتسويق مؤسسة الزواج الإسلامي على وجه التحديد بأبشع صورة، وأكثرها قتامةً، وسوداوية، من ذلك النظر إلى الأسرة المسلمة بوصفها أداة لاضطهاد المرأة، ووسيلة لإدامة سلطة (الذكر) مما يستلزم في نظرها إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية بعيدًا عن الزواج الشرعي الذي هو عبارة عن سجن للمرأة الحرّة! لاسيما الأم المستعبدة من طرف زوجها وذويها!
فضلا عن الترويج لأمومة هجينة عبر ما يُعرف ببنوك الإنجاب، وإشاعة مفهوم الأسرة البديلة، هذا المفهوم المؤسس على تعريفات شاذة للزواج لا تشترط بعضها التعايش المنزلي، أو التغاير الجنسي، وهو ما يناقض منطق الإسلام الذي يرى في الزواج رباطا مقدسا، وفي مؤسسة الزواج مشروعا ناجحا لتربية الأطفال، ومعهدا لغرس الأخلاق الفاضلة في نفوسهم بحيث تكون الذات امتدادا للآخر، لا استغراقا في الأنانية، وبحيث تتجلى حقيقة الفلاح في خصلة إيثار الجماعة الإنسانية مطلقا على الذات الضيقة، وعلى ذلك قوله تعالى: ((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))، وبحيث يكون طلب التساوي مع الآخر في أمور الخير والشر شرطا لصحة العقيدة والتدين في نطاق الدائرة الإسلامية هذه المرّة، وعليه قول المصطفى صلى الله عليه وآله:(( لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لنفسه ما يُحب لأخيه)).
إن نموذج الأسرة في الإسلام يمثل الوسيلة الجاهزة الأولى التي يتوارث فيها الأبناء والأحفاد رايات الهوية الدينية والثقافية عن الآباء والأجداد، وهي المزرعة التي تغرس في قلوب أبنائها، وعقولهم حب الخير، وسائر مكارم الأخلاق، وعلى رأسها التضحية، والإيثار، والصبر...الخ والأمل كبيرٌ في أن يكون هذا النموذج هو النموذج السائد في مجتمعنا العربي، والإسلامي بلا منازع، كما أن الأمل كبيرٌ أيضا في أن تكون الظاهرة الحسينية ذات أثر بارز في ترسيخ هذا النموذج العظيم في أذهان الناس وأفئدتهم.
اضف تعليق