q
آراء وافكار - مقالات النبأ

تجلّيات مسرحية

مذكرات قابلة للنسيان (13)

انتهى العرض المسرحي، اشتعلت الأضواء كلها في القاعة وفي المسرح وفي الكواليس أيضا، استمرت موجة التصفيق، كان الجمهور واقفا يحيّي الطلاب الممثلين، وهناك لقطة غريبة لا أنساها حتى اللحظة، ففي تلك اللحظات التي انتهت معها المسرحية، كنتُ لا أرى من وجوه الجمهور وتلويحاتهم سوى وجه واحد...

جائزة القلم الباركر ذكَّرتني بـ (قبيلة)، فهي تحب الأقلام، والكتب، وأفلام الكارتون، لكن لم يسعفني الحظ بأن أجلب لها القلم الذي فزتُ به كي تراه وتفرح به، وكي تستمر في إعجابها بي، وكما تعرفون، لم أتمتع بالقلم الباركر أكثر من دقيقة، لأن المدير اشتراه مني على الفور، وحرمني من متعة التملّك، فترك في صدري حسرة، ومع ذلك لا زلت حتى اللحظة أشعر بطعم خاص لتلك الجائزة التي ظننتُ في وقتها أنها الهدية التي طلبتها من السماء قبل أيام.

عند العصر ارتديت بدلتي الانكليزية الغامقة، وحملت معي كتابيّ قبيلة، ديوان القباني ورواية المقاومة الفلسطينية، فقد أمضيتُ معهما رحلة جديدة، سياحة في عوالم القراءة الغنية المبكّرة، كانت كلمات القباني جديدة عليَّ ومؤثرة بي بشكل غريب، لم أقرأ مثلها في دروسي البتّة، تعلّمتُ منها كيف أرسم الجمال بالكلمات.

الرواية الفلسطينية كما أتذكر الآن، بطلها اسمه فؤاد، سأنقل لكم ما أتذكره عنها بحيادية وصدق تام، أنقل ما شعرت به وعشته آنذاك، كان فؤاد بطلا فلسطينيا مقاوما للاحتلال، يقضي أياما في الكفاح المسلَّح، مستمر في ذلك أياما وأسابيع، وكان يسترق الفرص القليلة ليعود من القتال إلى حبيبته، لا أتذكر اسمها، ولم تذكر الرواية بأنه كان يعود لأهله أو عائلته، كأنَّ حبيبته هي كل ما لديه في دنياه، هي عائلته الوحيدة.

وهكذا تخيّلتُ نفسي بأنني البطل (فؤاد)، ورحتُ أخوض عمليات قتالية خطيرة في الخيال، وأنتهز الفرص السانحة كي أعود لرؤية (قبيلة) في حي الإسكان، حدث هذا التماهي أثناء القراءة، وطار بي خيالي إلى فلسطين وعمليات القتال والبطولة والعشق، لقد قضيت لحظات هائلة من الجمال مع الرواية ولم استطع مغادرة أوراقها حتى النهاية، بدأتُ معها قبل الظهيرة، وأنهيتها بعد الغروب في جلسة قراءة واحدة متواصلة.

حين طرقتُ باب بيت عمّتي، توقّعتُ – كما يحدث دائما – أن تفتحهُ لي قبيلة، لكن الباب لم يُفتَح حتى بعد تكراري الطرْق عليه، فعلتُ ذلك للمرة الثالثة ولا جواب، أدرت ظهري وقررتُ المغادرة، كنتُ أتمنى أن تراني قبيلة بالقاط الجديد الغامق، أريد أن أكتشف مشاعرها حين تراني وأنا متغيّر في شكلي، ما هو رأيها، هل أضفت البدلة شيئا جديدا عليَّ؟

عدتُ أدراجي من حيث أتيت، مبتعدا بانكسار شديد، وعندما بلغتُ رأسَ الزقاق، رأيتُ ما يشبه (القمر) يشعُّ أمام عيني، فالصبيان أيضا يحلمون في حضرة الشمس، أو يتخيلون أحيانا أقمارا في وضح النهار، تقلّصت المسافةُ بيننا، كانت قبيلة تتهادى على الأرض مقبلة كأنها موجة ماء هادئة واثقة، تبسَّمتْ قبل أن تصل إليّ، وحين التقينا بادرتني بالتحية: (أهلا سيد علي)، ثم رمقتني بنظرة مستغرِبة، وليست نظرة إعجاب ودهشة.

قالت: لم أعرفك في البداية، أنت ليس عليّا الذي أعرفه سابقا....

وحين سألتها من الأفضل عليُّ الأمس أمْ اليوم؟، لاذت بالصمت، لم تجبْ، كأنها تحيّرت بماذا تجيب، أما أنا فكنتُ لا أدري ماذا أفعل أو ماذا أقول، شعرتُ بأنها لم تحب القاط الإنكليزي، وهذا ما قالته لي بالحرف الواحد:

- هل تدري يا سيد علي، أنت في السابق كنت أجمل!

صدمتني بشدة كلماتها هذه، لم أكن أتوقع أن يكون رأيها بي هكذا بعد أن ارتديت بدلتي الجديدة، الحقيقة كنتُ أظن أنها سوف تطير فرحا بشكلي الجيد، وكثيرا ما فكَّرْتُ بأن ملابسي البسيطة التي كنتُ أرتديها سابقا، كانت تدفعها للشفقة عليّ، لذلك تسبق اسمي بكلمة (سيد)، لم أكن أتوقّع رأيها هذا بشكلي الجديد.

ظهر شعوري بالصدمة في ملامح وجهي، بدوتُ مكسورا أمامها، وحين مددتُ يدي بالكتابين لها، قالت بإصرار:

- هذين الكتابين هدية مني لك.

حينها سألتها بشكل مباشر:

- ألمْ يعجبك قاطي الجديد؟

لاذت بالصمت، وقالت بهدوء:

- يا سيد علي الناس ليس بأشكالها بل بقلوبها.

منذ تلك اللحظة لم أرتدِ القاط الإنكليزي أمام قبيلة مطلقا، نعم أذهب به إلى المدرسة بشكل يومي متكرر حتى أتساوى به مع الطلبة الأغنياء، ولكن حين تسنح الفرصة لي لزيارة قبيلة، أرتدي ملابسي البسيطة، فيظهر عليَّ الفقر والبساطة، تفرح قبيلة وتنتعش، وحين نتحاور تظل تردد بلا توقّف (سيد علي)، فأعرف أنها تُعجَب بي كإنسان أو صبي بسيط، ولا تحب أن تراني بالقاط الإنكليزي.

كنتُ ناويا أن أفاتح قبيلة بما طلبه منّا المخرج عزّي الوهاب، وهو فنان لهُ حضوره في المدينة وفي العراق، وعُرِفَ باشتغاله في مسرح الدمى، كان قد طلب منّا العثور على فتيات للتمثيل في إحدى مسرحياته الجديدة، فقبل أيام دخل علينا للصف، وسأل الطلاب: من منكم يرغب بالتمثيل في المسرح؟

ودون أدنى تردّد رفعتُ يدي ومعي رفع طالبان آخران يديْهما، سجَّل أسماءَنا وحدّد لنا موعدا لإجراء الاختبار في مسرح الإدارة المحلية، وقال: يوجد طلبة آخرون معكم.

كان موعد الاختبار في الساعة الخامسة من عصر يوم الأحد، لا أدري إذا كان أحدكم جرّب هذا الشعور سابقا، شعور يسبق الدخول في عالم غامض، شعور مجهول ومفعم بالدهشة، إنه عالم التمثيل والخيال والأضواء والشهرة، في ذلك الوقت لم تكن أمامنا سوى الشاشة الصغيرة، التلفزيون، ولا توجد صالات سينما، وكانت الأفلام التلفزيونية جميعها بالأسود والأبيض، كنّا نتابع أحد أفلام فاتن حمامة أنا و قبيلة و عمّتي، في تلك اللحظات قلتُ لقبيلة: سوف أكون ممثلا.

ضحكت وقالت: هل بدأت تتخيّل، أم هي حقيقة؟

حكيتُ لها ما جرى مع المخرج عزّي الوهاب، لكنها رفضت أن تنضمّ لنا، وباركت لي خطوتي.

في عصر يوم الأحد، ارتديتُ بدلتي الغامقة، وحذائي الجديد، شعرتُ بمظهري الجيد، و وثقتُ أكثر بنفسي، وانطلقتُ إلى مسرح الإدارة المحلية، حين وصلت فوجئت بنوعية المكان، فهو غريب عليَّ بشكل كلّي، لم أدخل قاعة مسرح سابقا، لا أعرف الكواليس وما يجري فيها، والآن أنا في قلب الكواليس، تحيط بي أجواء ومشاعر غامضة، أرى مصابيح الإضاءة، وأزرار التشغيل المختلفة، أمسك الستارة، أمرّر أصابعي على قماشها القطيفة، يدهشني لونها الماروني، كانت هناك رائحة خاصة تنبعث في المكان، رائحة لا زلت أجهل نوعها أو مبعثها، فهي غامضة مثل تفاصيل كواليس المسرح.

حضرَ اثنا عشر طالبا، ثلاثة من صفّنا، وتسعة من صفوف أخرى، أعمارنا متقاربة تقع بين 14 و 18 سنة، طلب منا المخرج عزّي الوهاب أن نجتمع معا، بعد قليل تم توزيع الأدوار واختيار الممثلين من قِبَل المخرج، ولم يبق سوى تخصيص أحدنا لإلقاء أبيات شعرية لمحمود درويش، فطلب عزّي الوهاب أن نتلو الأبيات تباعا لكي يعرف الصوت الأفضل للإلقاء، فبدأ المخرج من الأكبر سنّا إلى الأصغر، كنت أصغر الطلاب الممثلين، عمري 14 عامًا.

حين بدأ الطالب الأول بإلقاء الشعر، كنتُ أضع درجة قبول أو رفض بيني وبين نفسي، وكنتُ أستعدّ نفسيا لهذه المنافسة الحاسمة، حفّزتُ نفسي كثيرا، وطلبتُ منها النجاح، وأنها فرصة سأظهرُ فيها أمام قبيلة ممثلا، فقد وعدت بالحضور، وهذا كفيل بنجاحي.

كانت أصوات الإلقاء تتردد في كواليس المسرح، باهتة، خالية من التأثير، لا مشاعر فيها، تُتلى بأصوات خاملة، هكذا شعرتُ بها، وحين وصل الدور لي كنت في قمة الاستعداد وبدأ صوتي يتلو الأبيات الشعرية، كنتُ أترنّم في الكلمات صعودا وهبوطا، أتوقف هنا، ثم أنطلق، ويعلو صوتي، ثم يخفت فجأة، ليبدأ يعلو تدريجيا، لم يكن إلقائي بنبرة واحدة خاملة، كنتُ على يقين بأنني أفضل من ألقيتُ الشعر الدرويشيّ من بين الطلاب المختبَرين، كأني حسمتُ النتيجة مسبقا لصالحي.

حين انتهيتُ من الإلقاء، في لحظة الانتهاء الأولى، أشار المخرج عزي الوهاب بيده نحوي وقال: أنت الأفضل إلقاءً من بين الجميع.

ثم أسند لي هذا الدور، وبدأت (البروفات) والتدريبات بشكل يومي تقريبا، جرى ذلك في قاعة الإدارة المحلية، في أحد الأيام أخبرتُ قبيلة بأنني أصبحتُ ممثلا بالفعل لا بالخيال، ضحكت وقالت هذا محال، حين سألتها لماذا؟، قالت:

- لأنك بعد حصولك على البدلة الإنكليزية تغيّر تفكيرك وبدأت تحلم بالكثير.

- وهل يوجد ما يمنعني من الحلم بالتمثيل أو بغيره؟

- نعم هناك ما يمنعك عن هذا؟

صدمتني قبيلة بقولها هذا، فسألتها:

- ماذا يمنعني؟

- فقركَ يمنعك، بساطتكَ تمنعك، طيبتكَ تمنعك....

- هل أترك الذهاب للتدريب في رأيكِ؟

قالت قبيلة مستدركة:

- لماذا تنتظر رأيي؟، هل تسمح للآخرين يفكرون لك، ويحتلّون عقلكَ؟

- لا طبعا، ولكن أريد أن أعرف رأيك.

- خذْ قرارك بنفسك أولا، ثم اطلب مني أو من غيري ذلك.

- أنا اتخذتُ قراري فعلا، أن أستمر بخوض التجربة.

هنا توقفت عن الكلام، ثم سألتني:

- اذا اتخذت قرارك لمَ تسألني إذن؟

- كي أطمئن لا أكثر.

حين بدأ العرض، كنتُ جالسا في الكواليس، استطيع رؤية الجمهور الذي غصّتْ به كراسي القاعة، كان جمهورا كبيرا، يبثُّ الرهبة في النفس، بدأتْ أحداث المسرحية، وساد الصمت، وأخذت مصابيح المؤثّرات الضوئية تلوِّن المكان بعد أن تم إطفاء مصابيح القاعة وساد الظلام، كانت رؤوس الجمهور كثيرة وكبيرة لكن الوجوه غير واضحة، فجأة تضجّ القاعة بتصفيق عالٍ متواصل حين ذكر البطل اسم فلسطين، وتواصلت الأحداث حتى حان دوري.

كان جسدي قصيرا، وفي حركة ذكية من المخرج، جعلني أقف على كرسي في قلب خشبة المسرح، فارتفعَ جسدي وأصبحتُ أطول من جميع الممثلين الذين اصطفّوا أمامي، ثم انطلقتُ بإلقاء الأبيات الشعرية التي ستختمُ هذا العمل المسرحي، صدح صوتي عاليا، رأيت وجهَ قبيلة في السطر الأمامي للجمهور حين انسكبتْ عليه بقعة ضوء من سقف المسرح، وأخذتْ تلوّح بيدها، حدث شعور هائل في داخلي، تضاعفت ثقتي بنفسي، وتعمَّقت نبرة صوتي، فازددتُ تماسكًا وتماهيًا مع الشعر، ثم دهمتني موجة تصفيق عالية متواصلة لم تتوقف حتى بعد انتهائي من الإلقاء.

انتهى العرض المسرحي، اشتعلت الأضواء كلها في القاعة وفي المسرح وفي الكواليس أيضا، استمرت موجة التصفيق، كان الجمهور واقفا يحيّي الطلاب الممثلين، وهناك لقطة غريبة لا أنساها حتى اللحظة، ففي تلك اللحظات التي انتهت معها المسرحية، كنتُ لا أرى من وجوه الجمهور وتلويحاتهم سوى وجه واحد، وجهها هي مع تلويحة يدها.

اضف تعليق