إن تفشي ظاهرة البطالة العمالية المزيفة يشكل تهديدًا حقيقيًا لمبادئ العدالة الاجتماعية وفعالية الإنفاق العام، وهو في جوهره انعكاس لفشل مزدوج في الإدارة والرقابة، وليس مجرد تحايل فردي، إن المعالجة الفعالة لهذا الخلل تقتضي إرادة سياسية وتشريعية وإدارية صارمة، تبدأ من إعادة النظر بالنصوص القانونية وآليات التطبيق، وتمرّ بإصلاح الجهاز التنفيذي...
تُعد برامج الحماية الاجتماعية من أهم مظاهر التكافل المجتمعي الذي تتبناه الدولة الحديثة في إطار التزاماتها الدستورية والقانونية تجاه الفئات الضعيفة والهشّة، غير أن التطبيق العملي لهذه البرامج في العراق، لا سيّما فيما يتصل بمنح الإعانة الاجتماعية للمسجّلين كـعاطلين عن العمل، قد كشف عن ظاهرة مقلقة يمكن توصيفها بـالبطالة العمالية المزيفة، وهي صورة من صور التزييف المؤسساتي المتستّر تحت غطاء الفقر والبطالة، لكنها في حقيقتها تعبّر عن خلل مزدوج في كل من أداء الجهاز الإداري وآليات التحقق والرقابة الاجتماعية.
يقصد بـالبطالة العمالية المزيفة ذلك النمط من البطالة الذي يدّعي فيه الأفراد –وخاصة من فئة الشباب القادرين على العمل– بأنهم عاطلون، في حين أنهم يعملون فعلًا في مهن حرة، أو في قطاعات غير منظمة، أو في أعمال لا تخضع للرقابة الرسمية، ويستفيدون في ذات الوقت من الإعانة الاجتماعية التي خُصصت أساسًا لمن لا يملكون مصدر دخل.
وإذا كانت النصوص القانونية، ولا سيما قانون الحماية الاجتماعية رقم 11 لسنة 2014، قد اشترطت في المادة (1) من القانون أن يكون المستفيد: "اولا- تسري احكام هذا القانون على الفئات التالية من الاسر والافراد ممن هم دون خط الفقر من العراقيين، ورعايا الدول الاخرى المقيمين في جمهورية العراق بصورة دائمة ومستمرة وقانونية فيما يتعلق بمساعدات الحماية الاجتماعية في تلك الدول.
وعلى النحو الاتي: ا- ذو الاعاقة والاحتياج الخاص. ب- الارملة، المطلقة، زوجة المفقود، المهجورة، الفتاة البالغة غير المتزوجة، العزباء. ج- العاجز. د- اليتيم. هـ- اسرة النزيل او المودع اذا زادت مدة محكوميته عن سنة واحدة واكتسب قرار الحكم الدرجة القطعية. و- المستفيدون في دور الدولة الايوائية. ز- الاحداث المحكومين ممن تزيد مدة محكوميتهم عن سنة واحدة واكتسب قرار الحكم الدرجة القطعية. ح- الطالب المتزوج ولغاية الدراسة الاعدادية. ط- الاسر معدومة الدخل او التي يكون دخلها دون مستوى خط الفقر. ثانيا- لمجلس الوزراء بناء على اقتراح الوزير شمول فئات اخرى من غير الفئات المذكورة في القانون"، فإن هذا القيد يُخرِج عمليًا فئة الشباب العامل في القطاع غير الرسمي أو من يمتهنون أعمالًا حرة، من شمول الإعانة، إلا أن الواقع يكشف عن تهاون مؤسسي في تطبيق هذا القيد.
الثغرات القانونية والإدارية في آليات التحقق تتجسد في استحقاق المستفيدين من الحماية الاجتماعية من ضعف بنيوي، يتمثل في نقص أعداد الباحثين الاجتماعيين، وغياب أدوات التحقق الميداني الدقيق، فضلاً عن غياب الربط الإلكتروني بين قواعد بيانات الوزارات والهيئات الحكومية ذات العلاقة (مثل وزارة العمل، وزارة الداخلية، جهاز الأمن الوطني، وزارة التخطيط، وغيرها).
وقد كان بالإمكان تقليص معدلات البطالة المزيفة لو فعّلت المادة (5) من قانون الحماية الاجتماعية التي أوجبت على الوزارة إنشاء مركز تكنولوجيا المعلومات الذي يعمل كقاعدة بيانات وطنية موحدة وربطها بالجهات ذات العلاقة، بيد أن هذا الربط لا يزال دون المستوى المطلوب، ما يتيح لمئات الآلاف من الشباب العاملين التسجيل كعاطلين واستنزاف المال العام دون وجه حق.
الآثار الاقتصادية والاجتماعية للبطالة المزيفة متعددة منها هدر الموارد العامة تسهم البطالة المزيفة في تبديد أموال الدولة، وتحويل الإعانة الاجتماعية من وسيلة حماية إلى أداة للفساد المقنّع، وتشويه سوق العمل تؤدي إلى تضخيم أرقام العاطلين عن العمل بشكل غير دقيق، مما يربك خطط التنمية الاقتصادية وسوق العرض والطلب، وإضعاف ثقة المجتمع بالمؤسسات يتولّد شعور عام بالظلم لدى من يستحق فعلاً الإعانة ولا يحصل عليها، مقابل من يتحايل على القانون.
أما ما يمكن تقديمه من مقترحات إصلاحية تشريعية وإدارية فتكون في ضرورة تعديل قانون الحماية الاجتماعية، بإضافة نص يلزم المستفيد بالإفصاح السنوي الموثّق عن وضعه المهني والدخل الفعلي، وتغليظ العقوبة في حال الإدلاء بمعلومات كاذبة، وتضمين هذا الإقرار ضمن استمارة التجديد السنوي، كذلك في تفعيل المواد التي تجيز للوزارة إجراء التفتيش الميداني، وتفويض مفتشي العمل بصلاحيات رقابية فعالة بالتعاون مع الجهات الأمنية والقضائية، بالإضافة إلى إنشاء وحدات استخبارية إدارية مصغّرة داخل دوائر العمل، تتولى التحري عن صحة المعلومات المقدّمة، باستخدام أدوات حديثة منها الربط الإلكتروني، المتابعة المجتمعية، ومراقبة منصات التشغيل الإلكتروني.
أيضًا فرض جزاءات قانونية واضحة على كل من يقدّم معلومات غير صحيحة بقصد الحصول على الإعانة، وذلك بتعديل القانون لإدراج عقوبة الحبس والغرامة واسترداد المبالغ المصروفة، مع نشر أسماء المخالفين تحقيقًا للردع العام.
ختامًا- إن تفشي ظاهرة البطالة العمالية المزيفة يشكل تهديدًا حقيقيًا لمبادئ العدالة الاجتماعية وفعالية الإنفاق العام، وهو في جوهره انعكاس لفشل مزدوج في الإدارة والرقابة، وليس مجرد تحايل فردي، إن المعالجة الفعالة لهذا الخلل تقتضي إرادة سياسية وتشريعية وإدارية صارمة، تبدأ من إعادة النظر بالنصوص القانونية وآليات التطبيق، وتمرّ بإصلاح الجهاز التنفيذي وتعزيز كفاءة الباحث الاجتماعي، وتنتهي بإرساء قواعد الشفافية والمساءلة في صرف أموال الرعاية الاجتماعية.
اضف تعليق