الإمام الحسن أراد أولا أراد أن يكشف معنى السلطة، وأراد ثانيا أن يحتوي الأخطار التي تداهم المجتمع، حقن الدماء، تحقيق الأمن الاجتماعي، عدم انتشار الفساد، أراد أن يحمي المجتمع من المخاطر الكبيرة التي تأتي من استمرار الحروب والنزاعات والصراعات. وهذا واجب مهم اليوم على كل حكومة ونخبة ومجتمع...

ذكرنا في مقالنا السابق، ما هي القيم التي تقوم عليها السلطة الإلهية والنبوية والعلوية والحسنية الصالحة، فالسلطة ليست هدفا بل هي وسيلة، لتحقيق كرامة الإنسان وفتح الطريق امامه لممارسة حريته والارتقاء بعزته ليتم بناء ذلك المجتمع الصالح، وذلك من خلال تحقيق أطر:

 1- الكرامة، 2- الأمانة للعدالة والإنصاف، 3- الرحمة واللين، 4- السلم، 5- الوفاء بالعقود والعهود، كأركان يقوم عليها بنيان السلطة الشرعية.(1)

الاطار السادس: القيادة الصالحة

لا يمكن لأية سلطة أن تكون ناجحة أو لها غايات سامية ما لم تكن فيها قيادة صالحة، لذلك نقرأ في الزيارة الجامعة:

 ((اَلسَّلامُ عَلَيْكُمْ يا اَهْلَ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَمَوْضِعَ الرِّسالَةِ وَمُخْتَلَفَ الْمَلائِكَةِ وَمَهْبِطَ الْوَحْيِ وَمَعْدِنَ الرَّحْمَةِ وَخُزّانَ الْعِلْمِ وَمُنْتَهَى الْحِلْمِ وَاُصُولَ الْكَرَمِ وَقادَةَ الاْمَمِ وَاَوْلِياءَ النِّعَمِ وَعَناصِرَ الاْبْرارِ وَدَعائِمَ الاْخْيارِ وَساسَةَ الْعِبادِ وَاَرْكانَ الْبِلادِ وَاَبْوابَ الاْيمانِ وَاُمَناءَ الرَّحْمنِ)(2)، فالقيادة الصالحة تعمل على تشكيل البناء المعنوي للإنسان والمجتمع بتحصين وجوده في تقواه وفضائله الاخلاقية.

أما السلطة الفاسدة فإنها قد تشتغل على بناء الوجود الخارجي المادي فقط، من دون تحقيق قيمة الإنسان الداخلية، وان كانت في حالات كثيرة تؤدي الى التدمير الشامل، لذلك نلاحظ الفرق بين القيادة الصالحة وهم أئمة اهل البيت عليهم السلام، والقيادة الفاسدة وهم الأمويون، حيث قاد معاوية الأمة إلى الانحراف الشديد والانهيار الشامل عقائديا واخلاقيا والعيش بذلة وانكسار وتخلف وفقر.

الإمام علي يخاطب معاوية في كتابه فيقول: (وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ وَوُلَاةَ أَمْرِ الْأُمَّةِ بِغَيْرِ قَدَمٍ سَابِقٍ وَلَا شَرَفٍ بَاسِقٍ)(3)، فهؤلاء يقودون نحو البؤس، لذلك نرى الفرق الشاسع بين معاوية الميكافيلي الانتهازي الذي قاد الأمة نحو الشقاء والرذيلة والخيانة والتسافل، وبين الإمام علي (عليه السلام) الذي ارتقى بالإنسان عبر المبادئ الإلهية والفضائل السامية الى القمم الباسقة. 

لذلك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) خاطب الإمام علي (عليه السلام) حول معنى السلطة، بقوله: (يا علي أنت بمنزلة الكعبة تؤتى، ولا تأتي فان أتاك هؤلاء القوم فسلموها إليك -يعني الخلافة- فاقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك)(4)، فلا معنى للسلطة ان لم تكن مشروطة بالإصلاح ووعي الناس بالقيادة الصالحة وطاعتهم لها واجتماعهم حولها.

فالإمام علي وأئمة أهل البيت (عليهم السلام) لهم العصمة والتقوى والقيادة الصالحة، لكن لابد للأمة أن تكون لها معرفة بهذه القيادة الصالحة المعصومة من خلال الطاعة والالتزام والاتباع، والوعي بغاياتها من الخير والحق والصدق والعدالة، فالمعرفة والوعي والتقوى شروط أساسية في طاعة المعصومين (عليهم السلام).

وعندما لاتتحقق هذه الشروط تصبح السلطة بيد الفاسدين والطغاة، الذين يسعون ورائها بأي ثمن وبأي وسيلة كانت من وسائل الشر والخداع والتضليل والتلاعب بعقول الناس وتصبح السلطة هي الغاية والوسيلة، كما فعل معاوية حيث يقول الإمام علي عليه السلام: 

(وَاللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَلَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ وَلَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ وَلَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَلِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَلَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ)(5).

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن)(6).

فالغدر من سلوكيات الخائنين، أما المؤمن فلا يغدر، لأنه واضح وصريح، ولن يسلك طريق النصر بالوسائل السيئة والغادرة، مثلا بشراء الذمم والانقلابات والاغتيالات والتسقيط والقمع والتضليل، فهذه من الصفات المتلازمة للسلطة الغاشمة والفاسدة التي ترتع بالخيانة.

وعن الامام علي (عليه السلام): (أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ وَلَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ وَمَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ، وَلَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً وَنَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَدُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا وَيَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ)(7).

الفرق بين الخليفة والملك

لذلك في الواقع الخليفة ليس بخليفة إلا الإمام المعصوم (عليه السلام) فهو خليفة رسول الله، أما غيرهم فهو يسمى ملك، ولذلك خاطب الإمام الحسن معاوية بقوله أنت ملك ولست بخليفة، فقد ورد في التواريخ (أن معاوية أمر الحسن أن يخطب لما سلم الأمر إليه وظن أن سيحصر، فقال في خطبته: إنما الخليفة، من سار بكتاب الله وسنة ونبيه (صلى الله عليه وآله). وليس الخليفة من سار بالجور. ذلك ملك، ملك ملكاً يمتع به قليلاً، ثم تنقطع لذته وتبقى تبعته، وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين)(8). وهنا بين الامام الحسن (عليه السلام) ماهي القيادة الصالحة ومن هي، وبين القيادة الفاسدة ومن هي..

وكذلك ورد عن الإمام الحسن (عليه السلام): (ويلك يا معاوية إنما الخليفة من سار بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعمل بطاعة الله ولعمري إنا لأعلام الهدى ومنار التقى ولكنك يا معاوية ممن أبار السنن وأحيا البدع واتخذ عباد الله خولا ودين الله لعبا فكان قد أخمل ما أنت فيه فعشت يسيرا وبقيت عليك تبعاته...)(9)، 

فهذا الملك الفاسد ليس له هم الا استعباد الناس، واتخاذهم عبيدا يتلاعبون بهم ويجعلونهم وقودا يحترق في الفتن. لذلك فإن معاوية ليس عنده أية شرعية، وليس لديه أي دافع غير السلطة التي قد يتمتع قليلا في هذه الدنيا، ومواقفه في التاريخ تكشف نواياه السيئة، فعندما رجع الإمام الحسن (عيه السلام) بعد المعاهدة إلى الكوفة وسار معاوية إلى النخيلة وهو موقع قرب الكوفة، وخطب خطبة كشفت للتاريخ من هو معاوية قال: 

(إنّي والله ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنّكم لتفعلوا ذلك، ولكنّي قاتلتكم لأتأمّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون، ألا وإنّي كنت منّيت الحسن وأعطيته أشياء، وجميعها تحت قدميّ لا أفي بشيءٍ منها له)(10)، 

فلم يبق شيئا للقرآن والعقل، والكرامة والانسانية، وانتهك المواثيق وخان الأمانة، ولم يُبق شيئا لقيم الوفاء والالتزام والاحترام والمسؤولية التي ترتبط بالهوية الانسانية. لذلك فإن أهم هدف في قضية الصلح كان إثبات اهداف معاوية الخبيثة.

ما هي بنود المعاهدة؟

صلح الإمام الحسن (عليه السلام) هو معاهدة وليس تنازل أو انسحاب، لأن الشروط كانت واضحة جدا، وهذه المعاهدة انتصر فيها الإمام الحسن (عليه السلام)، وان كان معاوية هو الذي نال السلطة مؤقتا، لكن الظروف هي التي أدت الى ذلك، منها ما قاله الرسول صلى الله عليه وآله للإمام علي (عليه السلام): (يا علي أنت بمنزلة الكعبة تؤتى، ولا تأتي..)، وهذه قاعدة ثابتة لكل الائمة (عليهم السلام)، فالإمام الحسن (عليه السلام) في ذلك الوضع كان لا يؤتى، فالناس تخلوا عنه، ولو أراد أن يحارب كان لابد عليه أن يستخدم نفس الأساليب التي استخدمها معاوية في الغدر والفتك وشراء الذمم والامام الحسن (عليه السلام) لن يفعل ذلك.

وعندما تخلى الناس عنه، أصبح في حل من بيعته، وبالتالي أراد أن يحقن الدماء، وأن يؤسس لصلح يكشف به الزيف ويمنع منح الشرعية لمعاوية، ولو أن في تلك الظروف لم يكن هناك صلح واستمرت الحرب وانتصر معاوية فيها، لأصبح في التاريخ هو الحاكم الشرعي، لكن التاريخ الآن يتحدث عن كونه مجرد طاغية يحارب لأجل السلطة، لذلك حتى ابن تيمية قال عن معاوية أنه مجرد ملك.

كانت معاهدة الصلح مع معاوية تتضمن عدة شروط مهمة، يمكن من خلالها معرفة الحكمة في موقف الإمام الحسن (عليه السلام):

شرعية الحاكم

الشرط الأول: يلزم على معاوية أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وآله).

فالحاكم الذي لا يعمل بكتاب الله وسنة رسوله ليس شرعيا، ولكن معاوية قال بعد الصلح: (ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا...)، وبقوله هذا انتهك الشرط الأول وسلب الشرعية عن نفسه بنفسه.

سلطة انتقالية مؤقتة

الشرط الثاني: أن يكون الأمر للحسن عليه السّلام من بعده، فإن حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد به إلى أحد.

وهذا استشراف للمستقبل، ويعني ان سلطة معاوية سلطة مؤقتة، ومجرد حاكم انتقالي، أو سلطة انتقالية وليس بخليفة، وهذا الحاكم المؤقت والسلطة المؤقتة يعني إن أحكامه ليست نافذة، وإنما تمشية أمور، أو (حكومة تصريف أعمال)، وأية حكومة مؤقتة في العالم تكون سلطتها انتقالية، وليس لها أي دور قانوني، وقراراتها ليس لها قيمة دستورية(11).

لذلك الحكومة التي تليها تُلغي كل قراراتها، لأنها تعد مجرد سلطة مؤقتة ظرفية، فالإمام الحسن عليه السلام، بهذا الشرط يؤكد عدم شرعية حكم معاوية، وعدم شرعية يزيد بل ان ما فعله معاوية بتولية يزيد يعد انقلابا عسكريا، وقد كان الامام الحسين (عليه السلام) بحكم الوثيقة هو الحاكم الشرعي بعد استشهاد الامام الحسن (عليه السلام).

سلطة فارغة من الشرعية

الشرط الثالث: عدم تسمية الحسن (عليه السلام) معاوية بأمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة.

وهذا الشرط تأكيد على أنها سلطة انتقالية لاقيمة لها على الاطلاق، حيث لا بيعة ولا قرار ولا حكم ولا قانون يصدر منه ولا قضاء للحقوق يكون مقبولا منه، وهذا من اقوى الشروط التي تكرس عدم الشرعية لمعاوية حيث أصبح بذلك مجرد هيكل صوري للحكم.

فالسلطة الانتقالية ليست بيعة دستورية، وكمثال على ذلك حكومة السلطة المؤقتة اليوم في الأنظمة البرلمانية والأنظمة السياسية والديمقراطية تكون محدودة جدا، لانه لم يحصل عبر انتخاب الشعب له، فإذا لم ينتخبه الشعب فليس له بيعة تعبر عن شرعية الحكم، وقراراته ليس لها قيمة نافذة، بل حتى التحاكم اليه في القضاء ليس شرعيا ولاتقبل الشهادة عنده.

إيقاف التضليل الاعلامي

الشرط الرابع: أن يترك سب أمير المؤمنين (عليه السلام)، والقنوت عليه بالصلاة، وأن لا يذكر علياً (عليه السلام) إلا بخير. 

وهذا الشرط بمثابة إيقاف للتضليل الإعلامي، الذي كان يمارسه معاوية. وهو شرط سيؤدي الى كشف وزيف الحاكم الفاشل والفاسد، وحينئذ يعرف الفرق بين الصالح والطالح، فالصالح توجد عنده حدود، لا يغتاب الآخرين، ولا يتهم أحدا باطلا، ولا يسقّط الآخرين، لا يستخدم ولا يستعين بالرذائل لتدمير سمعة الآخرين.

بينما الذي عنده سلوك ساقط فاسد ليس عنده أي رادع، وليس لديه حدود، يسب الآخرين، ويشتم، ويسقّط ويتهم ويعمل كل شيء، واذا انتشر الفساد فبسبب الأساليب التضليلية لأولئك الفاسدين، وهذه المعاهدة أثبتت شيئا مهما هو ماذا كان معاوية.

حماية الشيعة من الابادة

الشرط الخامس: أن لا يأخذ أحداً من أهل العراق بإحنة، وأن يؤمن الأسود والأحمر ويحتمل ما يكون من هفواتهم، ولا يتعرض لأحد منهم بسوء ويوصل إلى كل ذي حق حقه.

وهذا الشرط هو حماية الناس من الإبادة، وخصوصا الشيعة، لأن معاوية كان عنده مشروع لإبادة الشيعة ولو كانت إبادة الشيعة مستمرة لما بقيَ أحد من الشيعة، لذلك هذا بند ذكي لتحقيق الأمن الاجتماعي وحقن الدماء وحماية الناس من الملاحقة.

ولو أن معاوية بالنتيجة لم يعمل بالمعاهدة كثيرا لكنها مع ذلك كانت رادعا له، ومن نتائجها حماية الشيعة من الإبادة كليا. كما انها تعتبر وثيقة تاريخية صادق عليها معاوية تكشف عن جرائمه في القتل والذبح والاستباحة.

تحقيق الامن والامان

الشرط السادس: الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.

وهذا الشرط هو تحقيق الأمن العام الذي يحتاجه المجتمع حتى يتنفس، والسلم الاجتماعي العام حتى يتحقق الاستقرار، فالمجتمع الذي لا أمن فيه وينتشر فيه الإرهاب والجريمة والعنف، فهو مجتمع بالنتيجة لا يستطيع أن يحقق الفضيلة والاستقامة، لذلك كان هذا مهما لتحقيق مرحلة انتقالية لتنفس العيش والسلام في الدولة.

وكذلك أراد الإمام الحسن عليه السلام من هذا البند، أن يقول لمعاوية إن الناس ليس في مأمن منك، حيث نشر معاوية الفوضى والاضطراب والاختلال الأمني حتى يصل الى السلطة بأي ثمن كان، والحال ان الناس تحتاج إلى حاكم أمين عليهم يوفر لهم الطمأنينة، ومعاوية ليس بأمين عليهم.

أهمية الفترات الانتقالية في الرسالات

على طول التاريخ كانت الغلبة للظالمين والطغاة، وافعال الظالمين تصب دائما في تدمير القيم والفضائل التي جاءت بها الرسالات، وبالتالي تحطيم كرامة الإنسان وآماله في حياة صالحة ومستقرة، ولكن كانت هناك فرص معينة تحصل في فترات انتقالية أو فجوات زمنية معينة، يتحقق فيها بعض الأمان والاستقرار، كان الانبياء والأئمة عليهم السلام يستثمروها في نشر العلم والفضيلة والأخلاق والخير والأمل.

وقد كانت هذه مرحلة انتقالية مهمة، ولو لم تكن هذه الشروط لما حدثت هذه المرحلة الانتقالية، ولسار معاوية في تدمير كل شيء، ولكن هذه كانت فرصة كالفرصة التي حصل عليها الإمام الصادق (عليه السلام) في الفترة الفاصلة بين الدولة العباسية والدولة الأموية، فانتشر العلم في كل مكان.

هذه الفرص الانتقالية تحتاجها المجتمعات، كما في العراق الآن، حيث رزح الشعب تحت نير الدكتاتورية، وحصلت إبادة للشيعة، وقمع للدين والمذهب ومنعت الشعائر الحسينية، ولكن الآن يعيش في فترة انتقالية يشعر فيها الناس بالحرية، والناس يتلمسون الحرية صوت أهل البيت (عليهم السلام) ينتشر في العالم كله، كما تنتشر الشعائر الحسينية في العالم كله، وأصبحت زيارة الاربعين معلما عالميا.

الاحاديث والمذاهب الموضوعة

وكذلك كانت هذه الفترة من معاهدة الإمام الحسن عليه السلام أدت الى سلب شرعية معاوية، فاكتشف الناس بأن معاوية مجرد ملك، لا يمثل الدين، وانكشف تضليله للناس، فأهل الشام كان يعتقدون بأن الامام علي عليه السلام (لا يصلي). وانكشفت تلك الفترة التاريخية بشكل أكبر وأعمق، حيث تبين من هو معاوية، ومن هو يزيد، ومن هم الأمويون، وهذه المعاهدة كانت بداية سقوط الدولة الأموية، فاندثرت الشرعية لأن الناس أصبحت تعلم ان هناك قرآن هو دستور، وهناك أحاديث شريفة وسيرة نبوية وعلوية.

وعندما اكتشف معاوية تآكل شرعيته استخدم الوضاعين لاختلاق الأحاديث الزائفة، التي تسلب الفضل من أهل البيت (عليهم السلام) وتنسب الفضل اليه، لتضليل الرأي العام، كما قام اختلاق المذاهب الجبرية، مثل (وقد أعطاني الله ذلك وأنتم له كارهون)، الجبرية تعني بأن الإنسان غير مختار وغير مسؤول عن افعاله وغير محاسب عليها.

وهناك بعض الحكام والطغاة ومن يزعم انه من العلماء، اقتبسوا سيرته ومذهبه وأخذوا يعتبرون بأن الحاكم الفاسق والظالم والمستبد هو خليفة شرعي، وهذا خطأ، فلا شرعية لحاكم فاسق ظالم، وهذا ما أوضحته معاهدة صلح الإمام الحسن (عليه السلام).

سلم لمن سالمنا

هنا يجب ان نقف عند نقطة مهمة وهي: لابد أن يكون لدينا تسليم لمنهج أهل البيت عليهم السلام، نفعل ماذا يقولون لنا بلا تردد، لا يجوز أن نحارب كما نقرر أو متى نريد، نسالم عندما يقولوا لنا ونحارب عندما يقولوا لنا، لذلك لا يجوز لنا أن نحارب خارج إطار أهل البيت (عليهم السلام)، فإذا امرنا أهل البيت بالحرب نفعل ذلك، فطاعتهم نظام للامة وامان من الفرقة وتحصين ضد الفتنة.

ومن هنا فإن الإمام الحسن (عليه السلام) أجاب أولئك الذين أشكلوا عليه في قضية إبرام المعاهدة مع معاوية، وقد نقلت التواريخ انه لما تم صلحهما صعد الإمام الحسن (عليه السلام) المنبر ثم قال: (أيها الناس، إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكانت لي في رقابكم بيعة، تحاربون من حاربت، وتسالمون من سالمت، وقد سالمت معاوية)(12)، فطاعة المعصوم (عليه السلام) هي لتحقيق السلام وحقن دماء الناس، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً)البقرة 208.

قيمة السلطة بالحق

وعودا على بدء، وعودة الى اركان الحكم الصالح لابد أن نستفيد من موقف الإمام الحسن (عليه السلام) من معاوية بأن نعرف ماهية السلطة ومن هو الحاكم؟، فلا قيمة للسلطة ان لم يكن احقاق للعدل والانصاف والأمانة والوفاء، ونقل عن انه عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ قَالَ: (دَخَلْتُ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِذِي قَارٍ وَهُوَ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَقَالَ لِي مَا قِيمَةُ هَذَا النَّعْلِ فَقُلْتُ لَا قِيمَةَ لَهَا فَقَالَ (عليه السلام) وَاللَّهِ لَهِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ إِمْرَتِكُمْ إِلَّا أَنْ أُقِيمَ حَقّاً أَوْ أَدْفَعَ بَاطِلًا)(13).

وهذا الأمر فعله الإمام الحسن (عليه السلام)، حين كشف بأن النعل أفضل من سلطة معاوية، السلطة الفاسدة التي لا تحكم بالحق، ولا تدفع الباطل وليس فيها خير، بل تجسيد للشر والانحلال.

وأي حاكم كان إذا يعمل بالحق، فهو أسوأ من النعل، لان سيكون مكيافيلي متلبس بانتهازية معاوية ولهاثه الاعمى نحو السلطة، وهذا هو المعيار الذي يقيس به شيعة أهل البيت (عليهم السلام) مفهوم الحكم ومصداق الحاكم، حيث لا يقبلون بشيء غير حق علي (عليه السلام).

أهل البيت تجسيد للحق

إن أئمة أهل البيت، عليهم السلام، هم الحق، وهم تجسيد للحق، فالإمامة أمر تكويني، فهي حق ونظام للأمة، فهي بحد ذاتها حق، وكذلك هي طريق للحق، فالإنسان الذي يريد أن يصل إلى طريق الحق والحقيقة لابد أن ينظر إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، فبهم فتح الله وبهم يختم، وبهم يتم الوصول إلى الحق، وفي الآية القرآنية: (وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) هود 85. فالميزان مصداق ورمز يعبّر عن كل التوازنات التي ترتبط بالحق ومع اختلال الميزان يهمن الباطل، لأن الوفاء بالمكيال هو تجسيد لميزان العدالة، والتزام بالنظام الكوني وعمل بالنظام التشريعي، وطاعة للقيادة الصالحة التي يجسدها المعصوم، وهذا هو ميزان السلطة الشرعية التي تحقق التوازن وتصون العدالة.

العدالة تنبع من الشعب نفسه، بإيمان الشعب بنفسه وقيمه وعدم الخيانة، وعدم الحلف بالكذب، بعضهم يريد أن يبيع بضاعته فيحلف كذبا بأنها جيدة لكنها ليست كذلك، فما الداعي إلى ذلك، والحال ان هذا السلوك الى (بخس الناس أشياءها)، وانتشار الفساد بعنوان الشطارة والمكر والتلاعب بالباطل كما فعل معاوية، وهنا تتحول الى تدميرية ذاتية (وَلَا تَعْثَوْا) فيفعل الآخرون معه نفس الأسلوب، وتتفاعل عمليات الافساد التدميري حتى الى اسفل مراحل الانحطاط.

إذا قام أحدهم بقيادة سيارته خارج النظام المتعارف، وبدأ يؤذي الناس في الشارع، فهو بقدر ما فعل هذا الأمر، سيواجه نفس الموقف عشر مرات اكثر فهو من صنع الموقف، وسوف يدفع الثمن عندما لم يعمل بالنظام ولم يحترم العدالة، فالفوضى والفساد المتوالي يؤدي الى الفساد الكبير المستمر والمتضخم بشكل متوسع كما فعل معاوية.

لذلك فإن القاعدة الأساسية التي نحتاجها اليوم، هو أن نحمي أطر الحكم الصالح، وأن نرسخها كما أرادها الإمام الحسن (عليه السلام) من خلال معاهدة الصلح التي حوتها وهي الكرامة، الرحمة، السلم، الوفاء، الحق والخير، والامان والقيادة الصالحة، والسلطة في غايتها الأساسية. 

لو تم التحليل الاعمق لعبارات هذه المعاهدة، فإنها وجهت رسالة للتاريخ الممتد الى اقصى المستقبل أن سلطة معاوية تفتقر إلى كل معاني السلطة العادلة، بل هي متمحضة في الخيانة، والإمام الحسن (عليه السلام) أكد عليها حتى يري الناس بأن معاوية وامثاله لم يكونوا ليتأمّروا عليهم ليرفعوهم من الحضيض وإنما لكي يتسلطوا عليهم، ويجعلوهم عبيدا.

فالحاكم الفاسد ينشر بين الناس الاستغلال والاحتكار، والتلاعب والغش والاحتيال، والخيانة (ولا تبخسوا الناس أشياءهم)، وينشر السرقة والربا والقمار وكل ما يرتبط بالرذائل التي تؤدي الى تفكيك المجتمع وتكريس الانحراف وسلب الأمن الاجتماعي، فاذا سلبت الثقة واندثر الوفاء، انتهت الحياة بالنسبة للدنيا حيث يعيش المجتمع القلق والخوف والتعاسة، وكذلك يحاسب الإنسان على عدم الوفاء في الآخرة، وخصوصا الوفاء بعهد الله سبحانه وتعالى.

والإنسان الذي ليس عنده وفاء مع الله ليس عنده وفاء مع نفسه، والوفاء الأصيل يكمن في العدالة والإنصاف، لذلك أراد الإمام الحسن (عليه السلام) أن يبين قضية اجتماعية كبيرة، ليس قضية السلطة فقط، بل العلاقة بين الحاكم والشعب، فالحاكم عليه مسؤوليات العمل بالعدالة والإنصاف، والشعب أيضا عليه واجب الإيفاء بالعهد من خلال الوفاء بالمكيال والميزان بالقسط وعدم نشر الفساد.

احتواء مخاطر السلطة الجائرة

الإمام الحسن (عليه السلام) أراد أولا أراد أن يكشف معنى السلطة، وأراد ثانيا أن يحتوي الأخطار التي تداهم المجتمع، حقن الدماء، تحقيق الأمن الاجتماعي، عدم انتشار الفساد، أراد أن يحمي المجتمع من المخاطر الكبيرة التي تأتي من استمرار الحروب والنزاعات والصراعات.

وهذا واجب مهم اليوم على كل حكومة ونخبة ومجتمع، أن يتداركوا الأخطار وأن يفكروا، بالمستقبل، أن يحموا المجتمع ويتنازلوا عن أنفسهم، ولو كان هذا الأمر على حسابهم، ولا يذهبوا في عملية الاستمرار بالسلطة والتمسك بها إلى أبعد حد، وقد أدت هذه الأخطار فعلا بالنسبة إلى بني أمية إلى سقوطهم بشكل كامل، ولم تبق لهم باقية. 

ولو كان كل طاغية ومستبد وفاسد يفكر بطريقة أخرى واعتبر ممن سبقه، لما أصبح مجرد لعنة تتقاذفها الالسن، وذكر سيء تشمئز منه سطور التاريخ.

* حوارات بثت على قناة المرجعية في مناسبة زيارة الأربعين 1446

......................................

(1) للاطلاع على القسم الأول من المقال الرجوع الى هذا الرابط:

https://annabaa.org/arabic/ahlalbayt/43228

(2) عيون أخبار الرضا (ع)، ج ٢، الشيخ الصدوق، ص ٣٠٥.

(3) نهج البلاغة، كتاب رقم: 10.

(4) مناقب أهل البيت (ع)، ابن المغازلي، ص ١٧٦.

(5) نهج البلاغة، خطبة رقم: 200.

(6) مقتل الحسين (ع)، أبو مخنف الأزدي، ص ٣٣.

(7) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 41.

(8) مقاتل الطالبيين، أبي الفرج الأصفهاني، الطبعة١٣٨٥–١٩٦٥، منشورات المكتبة الحيدرية ومطبعتها-النجف الأشرف، الصفحة 47.

(9) موسوعة الكلمة، ج ٧، السيد حسن الحسيني الشيرازي، ص ١٦٢.

(10) مقاتل الطالبيين، أبي الفرج الأصفهاني، ص ٤٥.

(11) حكومة تصريف الأعمال أو حكومة تسيير الأعمال هي حكومة مؤقتة ناقصة الصلاحية لأغراض تصريف الأمور في بعض الأوقات قد تكون مرحلة انتقالية أو انتخابات أو ظرف طارئ حال عن عدم تأسيس حكومة جديدة أو تأخرها ولا يحق لهذه الحكومة البت بالأمور المهمة والمصيرية. الحكومة المؤقتة والمعروفة أيضًا باسم نظام تصريف الأعمال هي حكومة مؤقتة غير محددة المدة تؤدي بعض الواجبات والوظائف الحكومية في بلد ما حتى يتم انتخاب أو تشكيل حكومة منتظمة. لا تتمتع حكومة تصريف الأعمال بتفويض شرعي. (ويكيبيديا).

(12) الامامة والسياسة، ج ١، ابن قتيبة الدينوري (تحقيق الزيني)، ص ١٤١.

(13) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 33.

اضف تعليق