الفهم والاستيعاب لضرورة الصفات الحميدة في علاقاتنا الاجتماعية هي التي تمهد الأرضية لتنمية هذه الصفات لتكون ملكة في النفس، وتكون حقاً أخلاقاً بالمعنى اللغوي للكلمة؛ الخَلِق، أي البالي من الثوب والقديم، ومن ثمّ تكون حالة طبيعية يعيشها صاحبها، وليست مصطنعة حسب الحاجة...

صادفه رجلٌ داخل حمام بمدينة طوس، و طلب منه أن يدلك ظهره، وعلى الفور بدأ يدلك ظهر الرجل بكل أريحية كما لو أنها مهنته! وكان في الحمام شخصٌ قريب منهما، فما أن رأى المنظر حتى صاح بالرجل المنحني بظهره؛ ياهذا...! أتعرف من الذي يدلك ظهرك؟! إنه الامام علي بن موسى الرضا، عليه السلام.

هذه الحادثة ليست حكاية ينتاقلها الخطباء والكتاب ليحفظها الابناء فقط، كونها تلامس شغاف القلب لما فيها من عبق الانسانية ونبل الاخلاق، إنما تؤشر الى مسألة ترتبط بالسلوك العملي في علاقاتنا الاجتماعية.

فالاخلاق النظرية لها منسوبٌ عالٍ جداً في اوساطنا الثقافية والاجتماعية على حدٍ سواء، كما هي القواعد العلمية بين طيات الكتب تملأ المكتبات والمدارس والجامعات، إنما ينقصها الفهم والاستيعاب، ثم التطبيق العملي لتعمّ الفائدة الجميع، فلا أحد يجادل في أن اللحوم المذابة بعد التجميد تتعرض لنوع خطير من البكتريا، فلابد من الطهي وعدم إعادتها الى الثلاجة، وأن شرب الماء البارد يسمح بولادة فايروس كرونا المسبب للزكام (نزلة البرد)، والذي تحوّر فيما بعد الى "كوفيد19 الوبيل"، بيد أن معظم الناس نراهم غير مكترثين لهذه المخاطر، ماضين في حياتهم الطبيعية مع هذا النوع من السلوك الفوضوي المتأرجح بين قضاء الوقت بين المطاعم والمتنزهات، وبين المستشفيات وعيادات الأطباء.

الفهم والاستيعاب لضرورة الصفات الحميدة في علاقاتنا الاجتماعية هي التي تمهد الأرضية لتنمية هذه الصفات لتكون ملكة في النفس، وتكون حقاً "أخلاقاً" بالمعنى اللغوي للكلمة؛ "الخَلِق"، أي البالي من الثوب والقديم، ومن ثمّ تكون حالة طبيعية يعيشها صاحبها، وليست مصطنعة حسب الحاجة، وهو ما دعا اليه علماء الأخلاق، وفتحوا الابواب للجميع لخوض التجربة فيما يتعلق بصفات وخصال تتصل بالتعامل اليومي فيما بيننا، مثل التواضع الذي طالما تحلّى به الأئمة المعصومون، عليهم السلام، وايضاً؛ الإحسان، والعفو، والحِلم، والورع.

الإمام الرضا الذي نحتفل هذه الايام بذكرى مولده السعيد، جسّد هذه الصفات النبيلة وغيرها كثير في حياته، لاسيما وهو في منصب ولي العهد في خراسان، ليؤكد علو الأخلاق كقيمة انسانية حقيقية على منصب وعنوان غير حقيقي في شخصية الانسان، لأن الأخلاق تدوم مع الانسان حتى لحظة مغادرته الحياة، فيترحم عليه الناس ويستذكرون مواقفه النبيلة وأخلاقه الحسنة، بينما المنصب ربما لا يدوم للانسان –على الاغلب- وعندما يغادر الحياة، ربما لا يستذكره الناس، إلا لابتعاده عنهم ولهاثه على هذا المنصب أو ذاك. 

من أجل هذا فاننا نستذوق حكايات التعامل الأخلاقي للمعصومين مع الناس، ولكن لو يخال أحدنا وهو مثلاً؛ خطيباً، او استاذاً في الحوزة او الجامعة، او له مدير دائرة، ويقترب منه أحد الاشخاص ويطلب منه مساعدة مالية لأزمة ألمّت به، كيف يتعامل معه؟ هل يصدقه على الفور ويمدّ يده في جيبه ويعطيه مبلغاً من المال؟ كان بإمكان الإمام الرضا في تلك اللحظة أن يطلب من خادم بالقرب منه ان يلبي طلب ذاك الرجل، وهو في هذه الحالة سيكون متفضلاً عليه، كما يفعل اليوم معظم –إن لم نقل جميعهم- من يمدون يد العون والمساعدة للمحتاجين، بيد أن الامام، عليه السلام، في تلك الواقعة، وفي اوقات اخرى، يذكرها لنا التاريخ بأن كان يقدم المساعدة بيده للمحتاجين، وكان يفعل هذا من وراء الباب ويقول: "حتى لا أرى آثار الحاجة في وجهه". 

إنها الثقافة الاسلامية الأصيلة التي ينشرها الامام الرضا من خلال المنظومة الاخلاقية لنشر لإلغاء الفوارق المصطنعة بين بني البشر، والتي يخلقها البعض بأمواله، ومنصبه، ومكانته الاجتماعية، فقد روى الشيخ الكليني في الكافي، عن رجل من أهل بلخ قال: "كنت مع الرضا في خراسان فدعا الى مائدة له، فجمع عليها مواليه (العبيد) من السودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال مه! إن الرب واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال".

هذا ما يتركه التواضع من آثار مباشرة في شد الأواصر بين الأفراد في البلد الواحد والأمة الواحدة، فكلما أتقنا هذا الفن بذكاء اجتماعي عالٍ، كنا أقرب الى الوحدة والوئام، ومن ثمّ؛ الى الأمان الذي يبحث عنه الجميع.

اضف تعليق