جاءت الخطوة الابتكارية الرائعة منه، عليه السلام، في فتح خط مباشر بينهم وبين الله –تعالى- يوفر لهم فرصة مراجعة الذات ومحاسبة النفس من خلال سلسلة من الأدعية والمناجاة ذات المضامين النفسية التي تؤهل صاحبها للعودة الى القيم الدينية والاخلاقية...

منذ اللحظة الاولى التي التقى فيها بأهل الكوفة ضمن مسيرة السبي بعد واقعة عاشوراء، عرف الامام زين العابدين، عليه السلام، جوهر المشكلة التي تعيشها الأمة في ظل نظام حكم قائم على التضليل والتغرير والتمييع، وتحديداً جمهور الكوفة، فهم كانوا في جيش عمر بن سعد لقتال أبيه الامام الحسين، والآن يراهم يَعِدونه بأن "نَحنُ كُلُّنا يَابنَ رَسولِ اللّهِ سامِعونَ مُطيعونَ، حافِظونَ لِذِمامِكَ غَيرَ زاهِدينَ فيكَ ولا راغِبينَ عَنكَ، فَأمُرنا بِأَمرِكَ يَرحَمُكَ اللّهُ، فَإِنّا حَربٌ لِحَربِكَ وسِلمٌ لِسِلمِكَ، لَنَأخُذَنَّ يَزيدَ ونَبرَأُ مِمَّن ظَلَمَكَ وظَلَمَنا"! بعد ضجوا بالبكاء والنحيب لمنظر الامام المقيد بالسلاسل والحبال مع نساءه وأهل بيته، فهم أشبه بالسفينة الفاقدة للشراع وسط أمواج تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال، لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا.

المشكلة في البوصلة التي تحدد لهم الوجهة الصحيحة، فقد كانوا على قناعة بأن الخروج الى قتال الامام الحسين، عليه السلام، صحيحاً، وبعد مقتله ومشاهدة منظر السبايا، ومنظر الامام السجاد أمامهم يكون التضامن معهم والبكاء على حالهم صحيحاً ايضاً! 

وكيف لا يكونوا هكذا وأمامهم قدوتهم في الثقافة؛ وهم الحكام الذين جمعوا بين السلطة السياسية والخلافة الدينية، فما يصدر منهم يُعد حجة على الناس، يأتمروا بأمره وينتهوا لنواهيه كأنه انسان معصوم مرسل من السماء، مع الفارق؛ أن الأئمة المعصومين من أهل بيت رسول الله، يقدمون منهجهم السماوي، ويتركون الاختيار للناس والحساب للآخرة، بينما أئمة الجور يقدمون منهجهم السياسي تحت شعار: "نفذ ولا تناقش" وإلا فالسيف هو الرد. 

ومنذ استشهاد الامام الحسين بأمر مباشر من يزيد بن معاوية، وكيان الأمة يتعرض لاهتزازات عنيفة في ثقافتها وعقيدتها، فقد شاعت الطبقية والعنصرية، وانتشرت الموبقات والفواحش في الامصار الاسلامية عندما يرى المسلمون أن يزيد يحتسي الخمور في مجلس غناء وطرب مع جوقة من المغنين والمغنيات، وينثر الاموال في وقت يتضور المسلمون في أرجاء البلاد جوعاً بسبب الخراج (الضرائب) المجحف على الاراضي الزراعية، وهو ما قلل من شأن القيم الاسلامية في حياة المسلمين، مثل المساواة والعدالة والحرية، فصار من المباح ارتكاب أي معصية في الوسط الاجتماعي ما دام صاحبها ملتزماً بظواهر الدين مثل الصلاة جماعة في المساجد، والصيام والحج وغيرها.

التغيير الذاتي 

سلطة الامام السجاد لم تكن مادية على الناس، كما سائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، إنما سلطتهم على القلوب والنفوس، ولذا جاءت الخطوة الابتكارية الرائعة منه، عليه السلام، في فتح خط مباشر بينهم وبين الله –تعالى- يوفر لهم فرصة مراجعة الذات ومحاسبة النفس من خلال سلسلة من الأدعية والمناجاة ذات المضامين النفسية التي تؤهل صاحبها للعودة الى الفضيلة والتقوى والورع وكل القيم الدينية والاخلاقية، "فهي تقرر التعامل المثالي مع الخالق، وتلغي حركة الخطأ، وعندما تنتفي حركة الخطأ في المجتمع، تسوده اجواء السعادة، والعدل، والمحبة، وينتفي الظلم والفقر والحرمان، فاذا قال الانسان: رب اغفر لي، العبارة فيها إقرار بالإيمان، وإعلان توبة، وإقرار بالذنب، واعتراف بأن الله وحده هو الذي يغفر وليس سواه من المخلوقات، وتوجه الى الإقلاع عن هذا الذنب مستقبلا". (سيرة أهل البيت، تجليات للإنسانية- السيد عباس نصرالله).

إن أدعية الصحيفة السجادية الموجودة اليوم في معظم بيوت المؤمنين، لم تكن كذلك في عهد الإمام السجاد، ولا حتى في فترات لاحقة، ولا الخمسة عش مناجاة التي تضمنها كتاب مفاتيح الجنان، ما عدا بعض الخواص ممن وصلته النسخة الخطية عن طريق ابنه الشهيد زيد، لذا كانت البداية من الصلوات المستحبة، مع علمنا بأن المسلمين كانوا قد تبنوا "صلاة التراويح" منذ عهد عمر بن الخطاب، ولم يتخلوا عنها رغم تعارضها مع سنّة رسول الله، وقد نهاهم عنها أمير المؤمنين في عهده، ونصحهم بأن لا يقيموا الصلوات المستحبة جماعة، فكان ردهم عنيفاً ضده. 

فكيف يجعل الانسان المسلم يختلي بربه في زاوية من البيت او المسجد ويصلي له ركعات قربة اليه؟ 

بدأ الامام السجاد "بصلاة ألف ركعة في اليوم والليلة"، الى جانب تلاوته الأدعية الخاصة به والمناجاة على مرأى ومسمع الناس في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وربما تكون الانطلاقة الاولى في مسيرة الامة نحو البناء الروحي من خلال قراءة الأدعية والأذكار والمناجاة، الى جانب الصلوات المندوبة ليستشعر الانسان العلاقة مع الله –تعالى- ومن ثم تحقيق أي نسبة ممكنة من التغيير الذاتي.

محاربة الظلم بالدعاء!

ربما يتبادر الى ذهن كل انسان مظلوم استخدام كل وسيلة لاسترداد حقه من ظالمه، وإن اقتضى استخدام القوة، بيد أن مدرسة الامام السجاد لها رأي آخر تستند الى قول رسول الله، صلى الله عليه وآله: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فقالوا: كيف ننصره ظالماً؟ قال: "بأخذ الحق منه وإعادته الى صاحبه"، فالظلم فعل قبيح عقلاً، ومرفوض ومدان اجتماعياً، إنما المشكلة في احتمالية الانزلاق فيه بدعوى استرداد الحقوق، يقول الامام في إحدى أدعية الصحيفة: "اللهم خذ ظالمي وعدوي عن ظلمي بقوتك"، بمعنى إنه، عليه السلام، لا يريد بالضرورة هلاك الظالم، بقدر ما يكون بعيداً ولا يتقي أذاه، وربما الحكمة هنا في رجاء التغيير والإنابة والتحول من حالة الظلم الى حالة الحِلم، كما يحصل في حالات عديدة عندما يكتشف البعض في لحظة وعي أنه مارس الظلم بحق زوجته او أولاده او اقربائه او سائر افراد المجتمع. 

وثمة مسألة غاية في الاهمية ينبهنا اليها الامام السجاد، عليه السلام، وهي؛ وهم الضعف بسبب الاستغراق في الدعاء والابتهال الى الله –تعالى- بدعوى أنها سلاح المستضعفين أمام المستكبرين الاقوياء، لذا فهو ينأى بنفسه عن الانتقام "لأن في الانتقام ظلم جديد، وعنف جديد، فهو يريد العدالة المطلقة، والسلام المطلق، لذلك قرن جملته بقوله: "واعصمني من مثل افعاله، ولا تجعلني في مثل حاله"، فهو يطمح الى مستوى للمجتمع والأمة بأن لا "يُظلَم أو أن يَظلِم".

من هنا نفهم أن الدعاء بالقدر الذي يحطّ الانسان أمام ربه، فإنه يعظمه أمام الآخرين، وإن كان فيهم الظالم والآثم، علماً أن فلسفة الدعاء ترنو الى حلول جماعية، وليست وسيلة خاصة لحل مشكلة الداعي فقط، فهي دائماً ترجو الرحمة الإلهية للجميع بأن يعمّ الإصلاح والتغيير جميع افراد المجتمع، وهنا تحديداً تتجلّى عظمة شخصية الامام السجاد، وهو ما أدركته الأمة في زمانه، وإلا ما الذي يدعو الجموع المتزاحمة على الحجر الأسود من أن تنشطر قسمين ليفسحوا المجال له بأن يستلمه، عليه السلام، بينما لم يحظ بمثل هذا الخليفة الأموي مع عنوانه وحاشيته ومرافقيه العتاة المسلحين؟ 

اضف تعليق