q
فأي أخلاق وأي عظمة كانت عند الإمام الصادق (ع) وأي تقديس وتبجيل كان لجدِّه رسول الله الأعظم (ص) حقاً ما أجدرنا أن نتعلم من الإمام الصادق هذه الأخلاق لا سيما طلاب العلم وأهل الفضيلة منهم على وجه الخصوص لأنهم ينتسبون إليه وينهلون من فيض علمه ويستنيرون بنوره الأنور...

مقدمة أخلاقية

الخُلق: تستعمل في اللغة العربية بمعنى السَّجیة، والطبع، والعادة، والمروة، والدِّین وهو ما يجمع كل المعاني، لأن الدِّين منظومة من القيم السماوية أنزلها الله على رُسُله ليحققوا تكامل الإنسانية في البشر، لأنهم بلا تلك المنظومة المتكاملة لا يمكن أن تنضبط حياتهم ولا سلوكياتهم وسيسود الهرج والمرج ويتحول المجتمع إلى غابة أو بحر القوي يأكل الضعيف، والكبير يلتهم الصغير، والقوي يفرض سيطرته على الآخرين.

وحتى لو لاحظنا المعاني الواردة في كتب اللغة لوجدنا بأنها تعود إلى معنى واحد، الخُلُق (اسم): وهي حالة للنفْس رَاسِخَةٌ تصدر عنها الأفعالُ من خيرٍ أو شرٍّ من غير حاجةٍ إلى فكرٍ ورويَّةٍ، ولذا قالوا عنها: أنها مَلَكة من ملكات النفس، بحيث تصدر الأفعال عن الإنسان من دون إمعان فكر.

والعلماء يبحثون عن هذه الملكات النفسانية واعتدالها أو انحرافها لأنها تقبل التربية والتهذيب، أما الأعمال التي تصدر عن الإنسان باختياره، ويحكم عليها العقلاء بالخير أو بالشر فیسمِّیها العلماء بالسُّلوك، حیث أنها المظهر الخارجي للأخلاق الكامنة في النفس.

ولذا قالوا: إن الأخلاق لا يمكن أن تكون وليدة الصُّدفة، أو نتيجة اتفاق عابر، لأن الأخلاق ملكات، ولا بدَّ لها من أسـس وقواعد تقوم عليها، وأسـاس الأخلاق: الغريزة، والوارثة، والبيئة، والتربية، والعادة، ولكها تحتاج إلى التهذيب والتربية المتواصلة حتى تتحول مع الزمن إلى ملكة نتيجة التعويد عليها ولذا ورد في الحديث: (تَخَيَّرْ لِنَفْسِكَ مِنْ كُلِّ خُلْقٍ أَحْسَنَهُ فَإِنَّ اَلْخَيْرَ عَادَةٌ)، والشَّر عادة ولذا تعوَّدوا عوائد الخير وابتعدوا عن الشر فإنه يشين الإنسان الذي قالوا فيه: إنه يولد صحيفة بیضاء يرسم فيها المربِّي ما يشاء.

دور المربي والمعلم

وعلى ذلك لا بدَّ من أستاذ، ومربِّي، ومعلم، ومدرِّب للمسائل الأخلاقية، ليعلمها لتلميذه ويغرسها في طلابه ولكن هذا ليس كل إنسان يمكن أن يكون مربياً فاضلاً ومعلماً صالحاً للأخلاق بل يجب أن يتَّصف هو فيها قبل أن يعلمها ولذا قيل: (فاقد الشيء لا يعطيه)، فالمعلم الذي تنقصه الأخلاق كيف سيعلمها إلى طلابه وهم لا يجدونها فيه؟ وجميل ما يتناقله الأدباء من هذه الأبيات الشعرية المنسوبة لأكثر من شاعر:

يا أَيُّها الرَجُلُ المُعَلِّمُ غَيرَهُ *** هَلا لِنَفسِكَ كانَ ذا التَعليمُ

تَصِفُ الدَّواءَ لِذي السَّقامِ وَذي الضَّنا*** كيمَا يَصحّ بِهِ وَأَنتَ سَقيمُ

وَتَراكَ تُصلِحُ بالرشادِ عُقولَنا*** أَبَداً وَأَنتَ مِن الرَّشادِ عَديمُ

فابدأ بِنَفسِكَ فانهَها عَن غَيِّها*** فَإِذا اِنتَهَت عَنهُ فأنتَ حَكيمُ

فَهُناكَ يُقبَلُ ما تَقولُ وَيَهتَدي*** بِالقَولِ منك وَينفَعُ التعليمُ

لا تَنهَ عَن خُلُقٍ وَتأتيَ مِثلَهُ *** عارٌ عَلَيكَ إِذا فعلتَ عَظيمُ

فهي عين الحكمة في المسائل الأخلاقية فالذي يريد أن يعلِّم الناس الأدب عليه أن يتأدَّب هو، ومَنْ يريد أن يعلم الأخلاق يكون ذلك بعمله وسلوكه وليس بقوله وكلامه فقط، بل وقد يخالف قوله فعله فيكون منفِّراً وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق (عليه السلام) بقوله: (عَلَيْكَ بِتَقْوَى اَللَّهِ وَاَلْوَرَعِ وَاَلاِجْتِهَادِ وَصِدْقِ اَلْحَدِيثِ وَأَدَاءِ اَلْأَمَانَةِ، وَحُسْنِ اَلْخُلُقِ، وَحُسْنِ اَلْجِوَارِ، وَكُونُوا دُعَاةً إِلَى أَنْفُسِكُمْ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُمْ، وَكُونُوا زَيْناً وَلاَ تَكُونُوا شَيْناً وَعَلَيْكُمْ بِطُولِ اَلرُّكُوعِ وَاَلسُّجُودِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَطَالَ اَلرُّكُوعَ وَاَلسُّجُودَ هَتَفَ إِبْلِيسُ مِنْ خَلْفِهِ وَقَالَ: يَا وَيْلَهُ أَطَاعَ وَعَصَيْتُ وَسَجَدَ وَأَبَيْتُ). (الکافي: ج۲ ص۷۷)

فالمعلم والمربِّي الذي يتعب على نفسه فيصقلها ويهذِّبها ويربِّيها لتكون محتوية على تلك الخصال والصفات الأخلاقية ويتدرَّب عليها لتكون لديه ملكة تنطبع في فكره وتظهر على سلوكه وعند ذلك يمكن له أن يربِّي ويعلم ويؤثر بالآخرين لأن التأثير بالسيرة والسلوك والعمل أكثر من التأثير بالقول والكلام فالكلام كثير ولكن التطبيق والعمل هو الذي يترك أثره في الطلاب والتلاميذ والآخرين من المعاشرين له.

الإمام الصادق (ع) جامعة تربوية

الإمام الصادق (ع) هذا الإمام الهمام الذي ملأ الدنيا علمه وفضله وعطَّر الأرض شذاه وعطره والذي كان لديه جامعة كبرى لم يتحدَّث التاريخ -إلى عصره- أن هناك مدرسة حوت تلك الجموع الغفيرة من الطلاب والفضلاء، فقد روي أنه اجتمع لديه أربعة آلاف تلميذ في وقت واحد، حيث وزعهم في حلقات درسية من البدايات وحتى النهايات التي كان يشرف عليها بنفسه القدسية.

فقد روي: أنه كان يجلس للعامة والخاصة، ويأتيه الناس من الأقطار يسألونه عن الحلال والحرام، وعن تأويل القرآن وفصل الخطاب، فلا يخرج أحد منهم إلاّ راضياً بالجواب)، فلا يخرج أحد ساخطاً من مجلس الإمام الصادق (ع) وذلك ليس لعظيم علمه فقط بل لسعة صدره وعظيم أخلاقه أيضاً.

فهو الذي كان يتأسى بجده رسول الله الأعظم (ص) حيث أمر الله تعالى عباده بالتأسي به فق قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب: 21)، وكذلك أمر جده أمير المؤمنين الإمام علي (ع) حيث قال: (فَتَأَسَّ بِنَبِيِّكَ اَلْأَطْيَبِ اَلْأَطْهَرِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَإِنَّ فِيهِ أُسْوَةً لِمَنْ تَأَسَّى، وَعَزَاءً لِمَنْ تَعَزَّى، وَأَحَبُّ اَلْعِبَادِ إِلَى اَللَّهِ اَلْمُتَأَسِّي بِنَبِيِّهِ وَاَلْمُقْتَصُّ لِأَثَرِهِ؛ قَضَمَ اَلدُّنْيَا قَضْماً، وَلَمْ يُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ اَلدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ اَلدُّنْيَا بَطْناً، عُرِضَتْ عَلَيْهِ اَلدُّنْيَا فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَهَا..) (نهج البلاغة: ج۱ ص۲۲۵ خ 190)

والعجيب من تأسي الإمام الصَّادق (ع) بسيرة جده رسول الله (ص) وتعظيمه وإجلاله له ما يحيِّر العقول فعلاً فيُروى أنه كان لا يُحدِّث عن جدِّه رسول الله (ص) إلا أن يكون على طهارة، وكان إذا قال: قال رسول الله (ص) يتغيَّر لونه، وإليك هذه الرواية وهذا الموقف العجيب الذي لم ينقل عن غيره من أهل الأرض فقد روي عن أبي هارون مولى آل جعدة أنه قال: كنتُ أُجالس الصادق (عليه السلام) في المدينة، فانقطعتُ عن مجلسه أيّاماً، فلما أتيته، قال: (يا أبا هارون كم من الأيام لم أرك فيها؟) قلتُ: ولد لي ولد، قال: (بارك الله لك فيه، ماذا أسميته؟) قال: محمداً، فلما سمع باسم محمد أطرق إلى الأرض وهو يقول: (محمدٌ، محمدٌ، محمد)، حتى كاد وجهه يلتصق بالأرض، ثم قال: (روحي، وأمي، وأبي، وأهل الأرض جميعاً لك الفداء يا رسول الله)، ثم قال: (لا تسب هذا الولد ولا تضربه ولا تسيء إليه، واعلم أنه ما من بيت فيه اسم محمد، إلاّ طهر وقدّس كل يوم). (منتهى الآمال: ج2 ص166)

فأي أخلاق وأي عظمة كانت عند الإمام الصادق (ع) وأي تقديس وتبجيل كان لجدِّه رسول الله الأعظم (ص) حقاً ما أجدرنا أن نتعلم من الإمام الصادق هذه الأخلاق -لا سيما طلاب العلم وأهل الفضيلة منهم على وجه الخصوص لأنهم ينتسبون إليه وينهلون من فيض علمه ويستنيرون بنوره الأنور في حياتهم- وهي ما شهد به الآخرون حيث ينقل العلماء الكثير من الكلمات حول أخلاق الإمام الصادق (ع) كقول مالك بن أنس: (ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً، وعلماً، وعبادةً، وورعاً، وكان لا يخلو من إحدى ثلاث خصال: إما صائماً، وإما قائماً، وإما ذاكراً، وكان من عظماء البلاد، وأكابر الزهاد الذين يخشون ربهم، وكان كثير الحديث، طيب المجالسة، كثير الفوائد). (مناقب آل أبي طالب (ع): ج4 ص275)

فعلينا التَّخلق بأخلاقه الراقية ونسير بسيرته العطرة حتى ننتسب إليه ونكون زيناً ولا نكون شيناً، بل لنكون من شيعته وتلاميذه، ونفتخر بهذه النِّسبة لأنه هو يفتخر ببعض طلابه كأبان بن تغلب الذي قال له الإمام الباقر (عليه السلام): (اجلس في مسجد المدينة وأفتِ الناس فإني أُحب أن أرى في شيعتي مثلك)، وكذلك قال له الإمام الصَّادق (عليه السلام): (يا أبان ناظر أهل المدينة فإني أُحب أن يكون مثلك من رواتي ورجالي)، وقال له: (جالس أهل المدينة فإني أُحب أن يروا في شيعتنا مثلك). (رجال الكشي)

فلماذا لا يفكر كل واحد من الفضلاء في الحوزة العلمية أن يكون ممَّن ينطبق عليه قول مولانا وأستاذنا وإمامنا الصادق (ع)، لا سيما وأنه أعطى منهجاً راقياً جداً في أخلاقه وسيرته المباركة بتعامله مع العلماء والطلاب من أبناء الحوزة العلمية الشريفة ولا نكون كبعض التلاميذ الذين أخذوا العلم ولم يأخذوا الطريقة والأسلوب والأخلاق الجعفرية، وهذا ما يشهد به ذلك الملحد المعروف بابن أبي العوجاء الذي التقاه المفضَّل بن عمر -رغم جلالة قدره- إلا أنه وقع بالمحذور الذي نشير إليه.

يُروى أن المفضَّل بن عمرو مرَّ في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فسمع من ابن أبي العوجاء بعض كُفرياته، فلم يملك نفسه غضباً وغيظاً وحنقاً، فقال: (يا عدو الله ألحدت في دين الله، وأنكرت الباري جلَّ قدسه الذي خلقك في أحسن تقويم، وصوَّرك في أتمِّ صورة، ونقلك في أحوالك حتى بلغ بك إلى حيث انتهيت، فلو تفكرت في نفسك وصدقك لطيف حسِّك لوجدت دلائل الربوبية وآثار الصنعة فيك قائمة، وشواهده - جلَّ وتقدَّس - في خلقك واضحة، وبراهينه لك لائحة).

فقال: يا هذا إن كنتَ من أهل الكلام كلَّمناك، فإن ثبت لك حجة تبعناك، وإن لم تكن منهم فلا كلام لك، وإن كنتَ من أصحاب جعفر بن محمد الصَّادق فما هكذا يخاطبنا، ولا بمثل دليلك يجادلنا، ولقد سمع من كلامنا أكثر مما سمعت، فما أفحش في خطابنا، ولا تعدَّى في جوابنا، وإنه للحليم الرزين، العاقل الرَّصين، لا يعتريه خرق ولا طيش ولا نزق، ويسمع كلامنا ويصغي إلينا ويستعرف حجتنا حتى استفرغنا ما عندنا وظننا أنا قد قطعناه أدحض حجتنا بكلام يسير وخطاب قصير يلزمنا به الحجة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه رداً، فإن كنت من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه).

صورة حضارية من أدب الحوار

وأعتقد أن من أهم وأفضل ما علَّم الإمام الصادق (ع) تلاميذه بعد العقائد المحقة والأحكام الشرعية هي إعطاؤهم منهجية راقية، وطريقة حضارية للحوار مع الآخر مهما كانت عقيدته وطريقته وسوء أدبه كابن أبي العوجاء هذا الملحد الذي كان العلماء يخشونه ويكرهون مجالسته لسلاطة لسانه وفساد ضميره، فأتي‌ الإمام الصادق (علـيه‌ السـلام‌) فجلـس‌ إليه‌ في‌ جمـاعة‌ مـن‌ نظـرائه‌، فقـال‌: يا أبا عبد الله‌! إنّ المجالس‌ بالأمانات‌، ولا بدّ لكلّ مَن‌ْ به‌ سُعال‌ أن‌ يسعل‌، أ فتأذن‌ لي‌ في‌ الكلام‌؟!

فقال‌ الإمام الصادق‌ (عليه‌ السلام‌): (تكلّم‌ بما شئتَ).

فقال‌: إلَى‌ كَمْ تَدُوسُونَ هَذَا البَيْدَرَ، (يعني الحج) وَتَلُوذُونَ بِهَذَا الحَجَرِ، وَتَعْبُدُونَ هَذَا البَيْتَ المَرْفُوعَ بِالطُّوبِ وَالمَدَرِ، وَتُهَرْوِلُونَ حَوْلَهُ كَهَرْوَلَةِ البَعِيرِ إذَا نَفَرَ؟! إنَّ مَنْ فَكَّرَ فِي‌ هَذَا وَقَدَّرَ عَلِمَ أَنَّ هَذَا فِعْلٌ أَسَّسَهُ غَيْرُ حَكِيمٍ وَلاَ ذِي‌ نَظَرٍ؛ فَقُلْ فَإنَّكَ رَأْسُ هَذَا الأَمْرِ وَسَنَامُهُ، وَأَبُوكَ أُسُّهُ وَنِظَامُهُ)، تصوَّر لهذه الفظاظة والغلظة والقسوة في الطرح يقول ذلك وهو في بيت الله الحرام؟

وفي حوار طويل نأخذ خلاصته يشهد رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ ابن أبي العوجاء قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَاِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ وَعَبْدُ اَللَّهِ بْنُ اَلْمُقَفَّعِ فِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرَامِ، فَقَالَ: اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ تَرَوْنَ هَذَا الْخَلْقَ -وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلى مَوْضِعِ الطَّوَافِ- مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ أُوجِبُ لَهُ اسْمَ الْإِنْسَانِيَّةِ إِلَّا ذلِكَ الشَّيْخُ الْجَالِسُ -يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ)- وَأَمَّا اَلْبَاقُونَ فَرَعَاعٌ وَبَهَائِمُ.

فَقَالَ لَهُ اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ: وَكَيْفَ أَوْجَبْتَ هَذَا اَلاِسْمَ لِهَذَا اَلشَّيْخِ دُونَ هؤُلَاءِ؟

قَالَ: لِأَنِّي رَأَيْتُ عِنْدَهُ مَا لَمْ أَرَهُ عِنْدَهُمْ.

فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: لاَ بُدَّ مِنِ اِخْتِبَارِ مَا قُلْتَ فِيهِ مِنْهُ.

قَالَ فَقَالَ لَهُ اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ: لَا تَفْعَلْ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْكَ مَا فِي يَدِكَ.

فَقَالَ: لَيْسَ ذَا رَأْيَكَ وَلَكِنْ تَخَافُ أَنْ يَضْعُفَ رَأْيُكَ عِنْدِي فِي إِحْلاَلِكَ إِيَّاهُ اَلْمَحَلَّ اَلَّذِي وَصَفْتَ.

فَقَالَ اِبْنُ اَلْمُقَفَّعِ: أَمَّا إِذَا تَوَهَّمْتَ عَلَيَّ هذَا فَقُمْ إِلَيْهِ وَتَحَفَّظْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ اَلزَّلَلَ وَلَا تَثْنِي عِنَانَكَ إِلَى اسْتِرْسَالٍ فَيُسَلِّمَكَ إِلى عِقَالٍ وَسِمْهُ مَا لَكَ وَعَلَيْكَ.

قَالَ: فَقَامَ اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ وَبَقِيَتُ أَنَا وَابْنُ الْمُقَفَّعِ جَالِسَيْنِ فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْنَا اِبْنُ أَبِي اَلْعَوْجَاءِ قَالَ: وَيْلَكَ يَا بْنَ اَلْمُقَفَّعِ مَا هَذَا بِبَشَرٍ وَإِنْ كَانَ فِي اَلدُّنْيَا رُوحَانِيٌّ يَتَجَسَّدُ إِذَا شَاءَ ظَهَرَ وَيَتَرَوَّحُ إِذَا شَاءَ بَاطِناً فَهُوَ هَذَا.

فَقَالَ لَهُ: وَكَيْفَ ذلِكَ؟

قَالَ: جَلَسْتُ إِلَيْهِ فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرِي اِبْتَدَأَنِي فَقَالَ: إِنْ يَكُنِ اَلْأَمْرُ عَلى مَا يَقُولُ هؤُلَاءِ -وَهُوَ عَلى مَا يَقُولُونَ يَعْنِي أَهْلَ الطَّوَافِ- فَقَدْ سَلِمُوا وَعَطِبْتُمْ، وَإِنْ يَكُنِ اَلْأَمْرُ عَلى مَا تَقُولُونَ -وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ- فَقَدِ اسْتَوَيْتُمْ وَهُمْ.

فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ وَأَيَّ شَيْءٍ نَقُولُ وَأَيَّ يَقُولُونَ مَا قَوْلِي وَقَوْلُهُمْ إِلاَّ وَاحِداً؟

فَقَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُكَ وَقَوْلُهُمْ وَاحِداً وَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ لَهُمْ مَعَاداً وَثَوَاباً وَعِقَاباً وَيَدِينُونَ بِأَنَّ فِيَ السَّمَاءِ إِلهاً وَأَنَّهَا عُمْرَانٌ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ السَّمَاءَ خَرَابٌ لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ.

قَالَ: فَاغْتَنَمْتُهَا مِنْهُ فَقُلْتُ لَهُ: مَا مَنَعَهُ إِنْ كَانَ اَلْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ أَنْ يَظْهَرَ لِخَلْقِهِ وَيَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَتِهِ حَتَّى لاَ يَخْتَلِفَ مِنْهُمْ اِثْنَانِ وَلِمَ اِحْتَجَبَ عَنْهُمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ اَلرُّسُلَ وَلَوْ بَاشَرَهُمْ بِنَفْسِهِ كَانَ أَقْرَبَ إِلَى اَلْإِيمَانِ بِهِ؟

فَقَالَ لِي: وَيْلَكَ - وَ كَيْفَ اِحْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أَرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ نُشُؤَكَ وَلَمْ تَكُنْ وَكِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ وَقُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ وَضَعْفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ وَسُقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ وَصِحَّتَكَ بَعْدَ سُقْمِكَ وَرِضَاكَ بَعْدَ غَضَبِكَ وَغَضَبَكَ بَعْدَ رِضَاكَ وَحُزْنَكَ بَعْدَ فَرَحِكَ وَفَرَحَكَ بَعْدَ حُزْنِكَ وَحُبَّكَ بَعْدَ بُغْضِكَ وَبُغْضَكَ بَعْدَ حُبِّكَ وَعَزْمَكَ بَعْدَ إِنَائِكَ وَإِنَائِكَ بَعْدَ عَزْمِكَ وَشَهْوَتَكَ بَعْدَ كَرَاهِيَتِكَ وَكَرَاهِيَتَكَ بَعْدَ شَهْوَتِكَ وَرَغْبَتَكَ بَعْدَ رَهْبَتِكَ وَرَهْبَتَكَ بَعْدَ رَغْبَتِكَ وَرَجَاءَكَ بَعْدَ يَأْسِكَ وَيَأْسَكَ بَعْدَ رَجَائِكَ وَخَاطِرَكَ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وَهْمِكَ وَعُزُوبَ مَا أَنْتَ مُعْتَقِدُهُ عَنْ ذِهْنِكَ.. مَا زَالَ يُعَدِّدُ عَلَيَّ قُدْرَتَهُ اَلَّتِي هِيَ فِي نَفْسِي اَلَّتِي لاَ أَدْفَعُهَا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيَظْهَرُ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ). (الوافي للفيض: ج۱ ص۳۱4)

ويروي الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله تعالى) في كتابه الرائع (من حياة الإمام الصادق (ع) هذه الحادثة عن الإمام الصادق وشيخ الأحناف النعمان حيث يروي عن سماعة، قال: سأل رجل أبا حنيفة عن اللا شيء، وعن الذي لا يقبل الله غيره، فعجز عن (لا شيء)، فقال (لمحمد بن الحسن): اذهب بهذه البغلة إلى إمام الرافضة، فبِعها منه بلا شيء، واقبض الثمن.

فأخذ بعذارها، وأتى بها أبا عبد الله (عليه السلام)، فقال له أبو عبد الله (عليه الصلاة والسلام): (استأمر أبا حنيفة في بيع هذه البغلة؟)، قال: فأمرني ببيعها، قال: (بكم؟)، قال: بلا شيء، قال: (لا، ما تقول!)، قال: الحق أقول.

فقال: (قد اشتريتها منك بلا شيء)، قال: وأمر غلامه أن يدخلها المربط، قال: فبقي محمد بن الحسن ساعةً ينتظر الثمن، فلما أبطأ الثمن، قال: جُعلت فداك، الثمن، قال: (الميعاد إذا كان الغداة)، فرجع إلى أبي حنيفة، فأخبره فسُرَّ بذلك فريضةً منه، فلما كان من الغد، وافى أبو حنيفة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (جئتَ لتقبض ثمن البغلة لا شيء؟)، قال: نعم، قال: (ولا شيء ثمنها؟)، قال: نعم.

فركب أبو عبد الله (عليه السلام) البغلة، وركب أبو حنيفة بعض الدواب، فتصحَّرا جميعاً، فلما ارتفع النهار، نظر أبو عبد الله (عليه السلام) إلى السَّراب يجري، قد ارتفع كأنه الماء الجاري، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (يا أبا حنيفة، ماذا عند المَيل، كأنه يجري؟)، قال: ذاك الماء يا ابن رسول الله.

فلما وافيا المَيل، وجداه أمامهما فتباعد، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): (اقبض ثمن البغلة)، قال الله تعالى: (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَـمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ) (النور: 39)

قال: خرج أبو حنيفة إلى أصحابه كئيباً حزيناً، فقالوا له: ما لك يا أبا حنيفة؟، قال: ذهبت البغلة هدراً، وكان قد أُعطي بالبغلة عشرة آلاف درهم). (بحار الأنوار: ج47 ص239)

فكم هو جميل وحضاري هذا الأسلوب من الإمام الصادق (ع)؟ وكم له من أمثال هذه الحوارات العلمية والفكرية مع أصحابه وتلاميذه وطلابه، وليتنا جميعاً ندرس حياة وسيرة هذا الإمام والمعلم العظيم الذي كان جامعة عملاقة في العلم والعمل التربوي.

أصناف العلماء في الجامعة الجعفرية

وللإمام الصادق (ع) رؤية خاصة وتصنيف خاص للعلماء وخاصة علماء الدِّين، لأنه كان يوليهم اهتماماً خاصاً، ويريد لهم تربية خاصة دون غيرهم من العلماء، لما لهم من التأثير الكبير على الأمة بشكل عام، لا سيما البسطاء منهم لأنهم يرونهم يمثِّلون الدِّين ويتكلمون باسمه دون غيرهم، وهؤلاء صنَّفهم الإمام الصَّادق (ع) إلى أصناف سبعة ويحدد أماكنهم في الآخرة وهي:

أولاً: إِنَّ مِنَ اَلْعُلَمَاءِ مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَخْزُنَ عِلْمَهُ وَلاَ يُؤْخَذَ عَنْهُ فَذَاكَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَوَّلِ مِنَ اَلنَّارِ.

ثانياً: وَمِنَ اَلْعُلَمَاءِ مَنْ إِذَا وُعِظَ أَنِفَ، وَإِذَا وَعَظَ عَنَّفَ فَذَاكَ فِي اَلدَّرْكِ اَلثَّانِي مِنَ اَلنَّارِ.

ثالثاً: وَمِنَ اَلْعُلَمَاءِ مَنْ يَرَى أَنْ يَضَعَ اَلْعِلْمَ عِنْدَ ذَوِي اَلثَّرْوَةِ وَاَلشَّرَفِ وَلاَ يَرَى لَهُ فِي اَلْمَسَاكِينِ وَضْعاً فَذَاكَ فِي اَلدَّرْكِ اَلثَّالِثِ مِنَ اَلنَّارِ.

رابعاً: وَمِنَ اَلْعُلَمَاءِ مَنْ يَذْهَبُ فِي عِلْمِهِ مَذْهَبَ اَلْجَبَابِرَةِ وَاَلسَّلاَطِينِ فَإِنْ رُدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ، أَوْ قُصِّرَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ غَضِبَ فَذَاكَ فِي اَلدَّرْكِ اَلرَّابِعِ مِنَ اَلنَّارِ.

خامساً: وَمِنَ اَلْعُلَمَاءِ مَنْ يَطْلُبُ أَحَادِيثَ اَلْيَهُودِ وَاَلنَّصَارَى لِيُغْزِرَ بِهِ وَيُكْثِرَ بِهِ حَدِيثَهُ فَذَاكَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْخَامِسِ مِنَ اَلنَّارِ.

سادساً: وَمِنَ اَلْعُلَمَاءِ مَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ لِلْفُتْيَا وَيَقُولُ سَلُونِي وَلَعَلَّهُ لاَ يُصِيبُ حَرْفاً وَاحِداً وَاَللَّهُ لاَ يُحِبُّ اَلْمُتَكَلِّفِينَ فَذَاكَ فِي اَلدَّرْكِ اَلسَّادِسِ مِنَ اَلنَّارِ.

سابعاً: وَمِنَ اَلْعُلَمَاءِ مَنْ يَتَّخِذُ عِلْمَهُ مُرُوءَةً وَعَقْلاً فَذَاكَ فِي اَلدَّرْكِ اَلسَّابِعِ مِنَ اَلنَّارِ). (الخصال للصدوق: ج۲ ص۳۵۲)

فرجل الدِّين والعالم بالحلال والحرام يجب أن يبتعد عن كل هذه المزالق التي قلَّما يتخلَّص أو ينجو منها أحد إلا مَنْ رحم ربي، ولكن عليه أن يروِّض نفسه على الطاعة، والورع عن محارم الله حتى تمتلك ملكة التقوى عند ذلك يتصدَّى لشؤون الناس بالتعليم والتأديب والفتوى.. فعلى مَنْ يدرس فقه الإمام الصادق (ع) أن يدرس مع الفقه السيرة العملية والأخلاقية للإمام ليكون تلميذاً بحق للإمام الصادق (ع)، لا أن يتحدَّث بفقه الإمام الصادق (ع) ويسير بسيرة المنافق والعياذ بالله.

اضف تعليق