ليست من شؤون البشر بل هي من شأن الباري تعالى فهي كالنبوية والرسالة، من خصائص الله تعالى ولا علم ولا شغل للبشر بها وكذلك الإمامة في الأمة والقيادة في الحياة فهي أمر رباني يختار لها الأصلح والأعلم والأتقى والأنقى ويجعله للناس إماماً يقتدون به، وقائداً يتَّبعونه في كل شيء ويطيعونه...

وُلد الإمام الرِّضا (ع) في المدينة المنورة في 11 ذي القعدة 148 هـ (1 يناير/ كانون2 - 766م)

مقدمة قيادية

أصبحت القيادة حيث العلماء والفضلاء في هذه العصر، وذلك لما لها من وقع في النفوس وتأثير في الواقع الذي نعيش فيه، ولذا قالوا فيها: "هي مهارة التأثير في الناس للعمل بحماس لتحقيق أهداف محددة تصبُّ في المصلحة العامة المشتركة، من خلال شخصية أخلاقية قويمة جديرة بالثقة"، تكون هي القدوة لهم في حياتهم ومسيرتهم، فالقائد -باختصار- هو القدوة والأسوة في معترك الحياة الاجتماعية ولذا قال ربنا سبحانه وتعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/21)

ومن دقيق ما طرحته الآيات الكريمة من مفاهيم راح يكتشفها العلماء بعد كل هذه القرون الطويلة من الزمن هي مفهوم (الإمامة) و(الإمام)، وهي تعني قطعاً ويقيناً القيادة والقائد، فمَنْ هو الإمام القائد، وما هي الإمامة والقيادة في مفهوم القرآن الحكيم وأحاديث أئمة المسلمين؟

هذا سؤال عريض ناله الكثير من التغيير والتبديل واللعب على ألفاظه ومعانيه من أجل أن يضيِّعوا على الناس المعنى الصحيح والحقيقي والواقعي الذي أراده الله منه وله، وذلك لأنه يرتبط بمسألة الحكم والسلطة وهذه هي أم المسائل الشائكة، والمشاكل الحالكة في كل زمان ومكان، ولذا قال عنها العلامة الشهرستاني: "ما سلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سلَّ على الإمامة في كل زمان"، (الملل والنحل: ج ١ ص ٢٤)

ليس بسبب غموضها حاشا وكلا بل بسبب حب الناس لها، وخوفهم منها، وطلبهم إياها بخوض اللجج وسفك المهج، حتى قال قائلهم -هارون الرشيد- لولده المأمون: "يا بني الملك عقيم ولو نازعتني أنت على الحكم لأخذت الذي فيه عيناك"، أي لقطع رأسه وهكذا فعل الولد عندما نازعه على الملك أخاه الأمين فحاربه حتى قطع رأسه وأتي به إليه، فالمسألة ليست في المفهوم بل في تطبيقه على الواقع الخارجي.

القيادة في الإسلام

لكل مبدأ ودين مفاهيمه الخاصة التي يستعملها في أدبياته وهي ما تميِّزه عن غيره في ثقافته فيما بعد، والقيادة وهي رأس الهرم السياسي في الدولة الإسلامية -الدينية- فما هو المفهوم الذي استخدمه الإسلام ورسوله الكريم في أدبياته عن مسألة القيادة؟

والعجيب أنها لم ترد في القرآن الحكيم كل من القيادة والإمامة باللفظ، بل وردت بألفاظ مختلفة أهمها الملك -ما في قصة طالوت-، والولاية -كما في الكثير من الموارد القرآنية، ولذا نجد أن البحوث كانت تدور حول الولاية عندما يكون الحديث والبحث عن القيادة العليا أو الإمامة العامة للأمة، والإمام علي بن موسى الرِّضا (ع) هو الذي بيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الحق في هذه المسألة التي طالما حار فيها أتباع الحكام والسلاطين حتى تراهم يدورون في حلقة مفرغة لا يهتدون إلى الحق سبيلاً، وذلك لأنهم تركوا التشريع الرَّباني واتَّبعوا التشريع السلطاني فضلوا وأضلوا من حيث يشعرون أو لا يشعرون.

علماً أن المسلمين الأوائل لم يتكلموا عن الإمامة هرباً من الإمام علي (ع)، بل تحدَّثوا عن الخلافة، والسلطة، وانجرَّ الكلام من الإمامة على الأمة إلى الخلافة الإنسانية على الأرض، وإلى الخلافة عن رسول الله (ص) وهم يعلمون أنهم ليسوا بذلك المكان حتى قال أولهم مقولته الشهيرة: (أَقِيلُونِي.. فَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ وَعَلِيٌّ فِيكُمْ)، لأنه يعلم علم اليقين بأن الخيرية والعلم والفضل والتقى هي عند الإمام علي بن أبي طالب (ع) دون غيره من الصحابة، ولكن حليت القيادة، والخلافة، والسلطة، والحكم في أعينهم لما فيها من جاه ومكانة وأموال وغيرها ولذا أماعوا مفهومها في التاريخ الإسلامي، وجعلوا الإمامة تساوي الخلافة، والسلطة والحكم، ونقلوها من موطنها الرَّباني وموضعها الرَّحماني إلى أوساطهم البشرية الدنيوية فقالوا: إن أمرها يحسم بالشورى فيما بينهم.

وهذا ما جعل الإمام الرِّضا (ع) يشرحها ويبيِّنها ويستدل على كل فكرة بآية من كتاب الله ثم يخلص إلى المعنى المراد من مفهوم الإمامة في الدِّين وشريعة سيد المرسلين، وذلك في رواية جليلة وجميلة يرويها عبد العزيز بن مسلم، حيث جمعته الظروف مع العلماء في يوم الجمعة في أول مقدمه إلى مرو، وتذاكروا أمر الإمامة واختلاف الناس فيها، فدخل على الإمام الرضا (ع) وقصَّ له ذلك فقال: (يَا عَبْدَ الْعَزِيزِ جَهِلَ الْقَوْمُ وَخُدِعُوا عَنْ آرَائِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ (ص) حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ الدِّينَ وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْ‌ءٍ بَيَّنَ فِيهِ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ وَالْحُدُودَ وَالْأَحْكَامَ وَجَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ كَمَلًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‌ءٍ)، (الأنعام/ 38) وَأَنْزَلَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهِيَ آخِرُ عُمُرِهِ (ص):‌(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‌ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)، (المائدة/ 3) وَأَمْرُ الْإِمَامَةِ مِنْ تَمَامِ الدِّينِ وَلَمْ يَمْضِ (ص) حَتَّى بَيَّنَ لِأُمَّتِهِ مَعَالِمَ دِينِهِمْ وَأَوْضَحَ لَهُمْ سَبِيلَهُمْ وَتَرَكَهُمْ عَلَى قَصْدِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَأَقَامَ لَهُمْ عَلِيّاً (ع) عَلَماً وَإِمَاماً وَمَا تَرَكَ لَهُمْ شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَّا بَيَّنَهُ فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُكْمِلْ دِينَهُ فَقَدْ رَدَّ كِتَابَ اللَّهِ وَمَنْ رَدَّ كِتَابَ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ بِهِ).

الإمامة والقيادة من الله

فالمسألة الأولى التي يجب أن ننتبه إليها في مسألة الإمامة والقيادة: هي أنها ليست من شؤون البشر قطعاً ويقيناً بل هي من شأن الباري تعالى فهي كالنبوية والرسالة، التي لو اجتمع أهل الأرض -وهم ثمانية مليارات اليوم- لينصِّبوا أو ينتخبوا نبياً أو رسولاً لما استطاعوا لذلك سبيلاً، لأنها من خصائص الله تعالى ولا علم ولا شغل للبشر بها وكذلك الإمامة في الأمة والقيادة في الحياة فهي أمر رباني يختار لها الأصلح والأعلم والأتقى والأنقى ويجعله للناس إماماً يقتدون به، وقائداً يتَّبعونه في كل شيء ويطيعونه في كل أمر.

ولذا الإمام الرضا (ع) يفصِّل المسألة لعبد العزيز فيقول: (هَلْ يَعْرِفُونَ قَدْرَ الْإِمَامَةِ؟ وَمَحَلَّهَا مِنَ الْأُمَّةِ، فَيَجُوزَ فِيهَا اخْتِيَارُهُمْ؟ إِنَّ الْإِمَامَةَ أَجَلُّ قَدْراً، وَأَعْظَمُ شَأْناً، وَأَعْلَى مَكَاناً، وَأَمْنَعُ جَانِباً، وَأَبْعَدُ غَوْراً مِنْ أَنْ يَبْلُغَهَا النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ يَنَالُوهَا بِآرَائِهِمْ، أَوْ يُقِيمُوا إِمَاماً بِاخْتِيَارِهِمْ)، لأن طبيعة البشر ضعفاء ومحدودون في كل شيء في الزمان، والمكان والعقل والقلب والإمكانيات فلا يمكن له أن يسموا ويرتفع أو يتعالى ويرتقي إلى تلك المسائل التي هي من الله تعالى، ولذا عليه أن يعرف محدوديته ويقف عند حدِّه ولا يتعدَّى طوره حتى لا يحل به السخط والغضب الإلهي لأنه يدَّعي ما ليس له أو فيه.

حقيقة ومقام الإمامة

ويبدأ الإمام الرِّضا (ع) ببيان حقيقة ومقام الإمامة فيقول: (إِنَّ الْإِمَامَةَ خَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ (ع) بَعْدَ النُّبُوَّةِ، وَالْخُلَّةِ، مَرْتَبَةً ثَالِثَةً، وَفَضِيلَةً شَرَّفَهُ بِهَا وَأَشَادَ بِهَا ذِكْرَهُ‌، فَقَالَ:‌(إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)، فَقَالَ الْخَلِيلُ (ع) سُرُوراً بِهَا (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي‌)، قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)، (البقرة/ 124)‌ فَأَبْطَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِمَامَةَ كُلِّ ظَالِمٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَصَارَتْ فِي الصَّفْوَةِ)، فالإمامة مرتبة عليا بالنسبة للنبوة ويسموها الخلَّة الخاصَّة بأبينا إبراهيم (ع)، فجاءت مرتبة أعلى ومقام أسمى من كل ما حباه الله به، بل هي فضيلة وشرف كبير وهبه الله لخليله، ورفع وأشاد بها ذكره دون سواه من الأنبياء الكرام وذلك لأن من صفاتها:

أولاً: إنها جعل وتخصيص وشرف وكرامة من الله سبحانه، وليس للبشر فيها أي دخل لأنها فوق مستوى البشر فهي تمثل القيادة العليا، والقدوة المثلى لهم فكيف يكون لهم دخل بها وهي المقياس لهم والميزان لأعمالهم؟

ثانياً: هي عهد الله في خلقه، وعهد الله لا يناله الظالمون في كل زمان ومكان ولذا بيَّن ووضح الإمام الرضا (ع) هذه الحقيقة التي حاولت الأمة أن تخفيها لأنها تسلَّط عليها الظالمون منذ اللحظة الأولى لرحيل الرسول الأكرم (ص) عنهم فاتَّخذوا لأنفسهم حكاماً وسموهم خلفاء وهم من الظالمين لأنفسهم لأنهم قضوا ردحاً من الزمن تجاوز الأربعين سنة يعبدون الأصنام ويسجدون لها ويذبحون ويقرِّبون القرابين لها، و(مَنْ عبد الصَّنم لا يكسر الصَّنم)، لأنه ربَّه ومعبوده الذي عبده سنوات وسجد له عقود متطاولة فكيف يكون هذا خليفة لله ورسوله؟ 

فهؤلاء ظالمون ولا يستطيع أحد منهم أن ينكر ذلك، فكيف سيعدلون في حكم الأمة وهم جاهلون؟ وكيف لهم أن يعلَّموا الناس الحلال والحرام والأحكام، ولا يعرفون من كتاب الله إلا قليلاً؟ لأنهم شغلهم الصَّفق في الأسواق كما كان يقول أحدهم، فكيف سيفسرون ويؤولون القرآن في حياة الأمة وهم أجهل الناس به بل كل الناس أعلم وأفقه منهم وحتى المخدرات وربَّات الحِجال كما في قصصهم المعروفة التي عدُّوها من فضائلهم وهي في الحقيقة من أكبر وأعظم نواقصهم إذا لا يمكن أن يتقدَّم المفضول على الفاضل -كما ادَّعى جهلاً وظلماً ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة- ولا الجاهل على العالم الذي كان يقول: (سلوني قبل أن تفقدوني) و(سلوني عن كتاب الله، وسلوني عن طرق السماوات فإني أعلم بها من طرق الأرض)، وذاك الذي يقول: (لولا علي لهلك) وأهلك.

ثالثاً: خاصة بالذُّرية الطاهرة؛ ولذا هي صارت في الصَّفوة الصافية والذُّرية الطاهرة من ذريته وهذا ما بيَّنه باستدلال قرآني رائع جداً حيث يقول الإمام الرِّضا (ع): (ثُمَّ أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ جَعَلَهَا فِي ذُرِّيَّتِهِ أَهْلِ الصَّفْوَةِ وَالطَّهَارَةِ فَقَالَ:‌ (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ، وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ‌ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ‌ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ‌)، (الأنبياء/ 73) فَلَمْ تَزَلْ فِي ذُرِّيَّتِهِ يَرِثُهَا بَعْضٌ عَنْ بَعْضٍ قَرْناً فَقَرْناً حَتَّى وَرَّثَهَا اللَّهُ تَعَالَى النَّبِيَّ (ص) فَقَالَ جَلَّ وَتَعَالَى: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ‌ بِإِبْراهِيمَ‌ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ‌ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‌). (آل عمران/ 68) 

فالقيادة الربانية والولاية الإلهية والإمامة الحقيقية هي ليست من توابع النبوة كما يقول البعض، بل هي مرتبة أسمى وأعلى منها وهي من مكملات الرِّسالة الإلهية لا سيما الخاتمة، ولذا هي بأمر الله وتنصيبه وتعيينه وتخصيصه فهو الذي يجعل الإمام كما يجعل النبي والرسول وليس البشر يختارون وينتخبون قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص/68)، فالرَّب الذي يخلق يختار من خلقه أفضلهم، أكملهم، أشرفهم، فيُربيه ويرعاه ويسدده ويؤيده ثم ينزل عليه النبوة أو الرسالة فإذا كان في المقام السامي الذي يؤهله ليكون إماماً يختاره الله ويجعله للناس إماماً وقدوة في كل شيء.

وأين هذا من فعل واختيار البشر يا أهل العقل والوعي والبصيرة والإسلام والإيمان؟ فالخير فيما اختاره الله والخير كل الخير كان في أهل البيت الأطهار الذين فضَّلهم الله وكرَّمهم واختارهم على علم بهم على العالمين وقدَّمهم على الناس أجمعين لأنهم كما وصفهم في محكم التنزيل: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب/33)، وهذه هي العصمة بأعلى مراتبها، وأرقى درجاتها، وأسمى حالاتها، لأنها كلها من الله تعالى وبإرادة ربانية تكوينية طهَّرهم من كل رجس ودنس وعيب فكانوا آية الله العظمى في هذا الكون وهذا ما بيَّنه الإمام الرضا (ع) أيضاً لعبد العزيز. 

رابعاً: خاصة بأهل بيت العصمة والطهارة؛ قال الإمام والنور الثامن في حديثه: (فَكَانَتْ لَهُ خَاصَّةً فَقَلَّدَهَا (ص) عَلِيّاً (ع) بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى رَسْمِ مَا فَرَضَ اللَّهُ فَصَارَتْ فِي ذُرِّيَّتِهِ الْأَصْفِيَاءِ الَّذِينَ آتَاهُمُ اللَّهُ الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ‌ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ‌ إِلى‌ يَوْمِ الْبَعْثِ‌)، (الروم/ 56) فَهِيَ فِي وُلْدِ عَلِيٍّ (ع) خَاصَّةً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِذْ لَا نَبِيَّ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ص فَمِنْ أَيْنَ يَخْتَارُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ؟).

هذه هي المنزلة والمرتبة التي فرح بها وطلبها بأن تكون في ذريَّته أبونا إبراهيم حين قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي‌)، فخصَّها الله بمحمد وآل محمد الطيبين الطاهرين، لأنهم خيرة الله من الخلق أجمعين كما في الزيارة الجامعة حيث قال الإمام والنور العاشر هادي الأمم بقول: (إِنْ ذُكِرَ الْخَيْرُ كُنْتُمْ أَوَّلَهُ، وَأَصْلَهُ، وَفَرْعَهُ، وَمَعْدِنَهُ، وَمَأْوَاهُ، وَمُنْتَهَاهُ)، فكل خير في هذه الدنيا هي منهم وإليهم فهم الأصل الأصيل للخير في هذه الحياة.

ولذا ورد من أكثر من طريق وبأكثر من لفظ: بأنهم لا يقاس بهم أحد فروى أنس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين علي (عليه السلام) قوله: (نحن أهل البيت لا نقاس بالناس).

وفي لفظ: (لا يقاس بهم بشر).

وفي ثالث: (نحن أهل البيت لا يوازينا أحد).

وفي رابع: (لا يقابل بنا أحد).

وفي خامس: (لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم)، ولذا كان الإمام أحمد بن حنبل إذا سئل عن علي وأهل بيته قال: (أهل بيت لا يقاس بهم أحد).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طارق في الإمامة: (فَمَنْ ذَا يَنَالُ مَعْرِفَتَنَا، أَوْ يَعْرِفُ دَرَجَتَنَا، أَوْ يَشْهَدُ كَرَامَتَنَا، أَوْ يُدْرِكُ مَنْزِلَتَنَا؟ حَارَتِ اَلْأَلْبَابُ وَاَلْعُقُولُ، وَتَاهَتِ اَلْأَفْهَامُ فِيمَا أَقُولُ، تَصَاغَرَتِ اَلْعُظَمَاءُ، وَتَقَاصَرَتِ اَلْعُلَمَاءُ، وَكَلَّتِ اَلشُّعَرَاءُ، وَخَرِسَتِ اَلْبُلَغَاءُ، وَلَكِنَتِ اَلْخُطَبَاءُ، وَعَجَزَتِ اَلْفُصَحَاءُ، وَتَوَاضَعَتِ اَلْأَرْضُ وَاَلسَّمَاءُ عَنْ وَصْفِ شَأْنِ اَلْأَوْلِيَاءِ، وَهَلْ يُعْرَفُ، أَوْ يُوصَفُ، أَوْ يُعْلَمُ، أَوْ يُفْهَمُ، أَوْ يُدْرَكُ، أَوْ يُمْلَكُ مَنْ هُوَ شُعَاعُ جَلاَلِ اَلْكِبْرِيَاءِ، وَشَرَفُ اَلْأَرْضِ وَاَلسَّمَاءِ؟ 

جَلَّ مَقَامُ آلِ مُحَمَّدٍ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) عَنْ وَصْفِ اَلْوَاصِفِينَ، وَنَعْتِ اَلنَّاعِتِينَ، وَأَنْ يُقَاسَ بِهِمْ أَحَدٌ مِنَ اَلْعَالَمِينَ، كَيْفَ وَهُمُ اَلْكَلِمَةُ اَلْعَلْيَاءُ، وَاَلتَّسْمِيَةُ اَلْبَيْضَاءُ، وَاَلْوَحْدَانِيَّةُ اَلْكُبْرَى اَلَّتِي أَعْرَضَ عَنْهَا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلّٰى وَحِجَابُ اَللَّهِ اَلْأَعْظَمُ اَلْأَعْلَى؟ فَأَيْنَ اَلاِخْتِيَارُ مِنْ هَذَا؟ وَأَيْنَ اَلْعُقُولُ مِنْ هَذَا؟ وَمَنْ ذَا عَرَفَ، أَوْ وَصَفَ مَنْ وَصَفْتُ؟ ظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ فِي غَيْرِ آلِ مُحَمَّدٍ كَذَبُوا وَزَلَّتْ أَقْدَامُهُمْ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ رَبّاً، وَاَلشَّيَاطِينَ حِزْباً كُلُّ ذَلِكَ بِغْضَةً لِبَيْتِ اَلصَّفْوَةِ، وَدَارِ اَلْعِصْمَةِ، وَحَسَداً لِمَعْدِنِ اَلرِّسَالَةِ وَاَلْحِكْمَةِ، وَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ، فَتَبّاً لَهُمْ وَسُحْقاً كَيْفَ اِخْتَارُوا إِمَاماً جَاهِلاً عَابِداً لِلْأَصْنَامِ جَبَاناً يَوْمَ اَلزِّحَامِ؟ وَاَلْإِمَامُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَالِماً لاَ يَجْهَلُ، وَشُجَاعاً لاَ يَنْكُلُ، لاَ يَعْلُو عَلَيْهِ حَسَبٌ، وَلاَ يُدَانِيهِ نَسَبٌ فَهُوَ فِي اَلذِّرْوَةِ مِنْ قُرَيْشٍ، وَاَلشَّرَفِ مِنْ هَاشِمٍ، وَاَلْبَقِيَّةِ مِنْ إِبْرَاهِيمَ). (بحار الأنوار: ج۲۵ ص۱6۹)

ولذا الإمام الهمام الضامن لزواره الجنة على الرِّضا (ع) يقول مبيِّناً هذه الحقائق أيضاً: (إِنَّ الْإِمَامَةَ هِيَ مَنْزِلَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِرْثُ الْأَوْصِيَاءِ، إِنَّ الْإِمَامَةَ خِلَافَةُ اللَّهِ، وَخِلَافَةُ الرَّسُولِ (ص)، وَمَقَامُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (ع)، وَمِيرَاثُ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ (ع)، إِنَّ الْإِمَامَةَ زِمَامُ الدِّينِ، وَنِظَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَصَلَاحُ الدُّنْيَا، وَعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ الْإِمَامَةَ أُسُّ الْإِسْلَامِ النَّامِي وَفَرْعُهُ السَّامِي)، وهذه الفقرة المباركة تحتاج إلى كتاب مستقل لتوضيحها وبيانها لما فيها من معارف الدِّين وأسس التكوين، فالقيادة هي أساس الإسلام المبارك وفي الرواية: (لِكُلِّ شَيءٍ أساسٌ، وأساسُ الإِسلامِ حُبُّنا أهلَ البَيتِ)، فأساس دين الله الخاتم ورسالته الكاملة هي الولاية لمحمد وآل محمد (ص) التي بيَّنها وأوضحها رسول الله (ص) في خطبه في حجة الوداع وختمها بخطبته الرائعة في يوم الغدير الأغر حيث نصب لهم أمير المؤمنين إماماً وقائداً وبايعوه جميعاً على ذلك ومَنْ أبى ضربه الله بحجرة من سجيل قتله فيه كذاك العبدري الذي نزل فيه: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ). (المعارج/2)

ولكن هذه الأمة تركت زمام دينها وتمسَّكت بزمان السلطة، وانفرطت عن نظام دينها فلم يجمعها السلطة القرشية ولذا لم تُصلح الدنيا بل أفسدت ومازالت تفسد بابتعادها عن أسباب عزها وفخرها وشرفها كما بيَّنه الإمام علي بن موسى الرِّضا (عليه السلام) في هذا الحديث الرائع لعبد العزيز بن مسلم..

...يتبع.. 

اضف تعليق