بتبني نموذج أكثر ثورية لإدارة الديمقراطية التداولية التي تركز على الصالح الجماعي البعيد الأمد وليس المصالح السياسية القصيرة الأمد، تُـرسي النرويج سابقة لبلدان أخرى. بإطار قانوني ومفوض مخصص لحماية أجيال المستقبل. وإذا اسْـتـُنّ هذا الإطار القانوني، فسوف يثبت أن المناصرة الشعبية من الممكن أن تُـحدِث نقلة نوعية في الحوكمة...

كارديف ــ على مدار الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025، اجتمع 56 مواطنا نرويجيا لمناقشة أفضل السبل التي يمكن من خلالها تسخير ثروة النرويج النفطية الهائلة لخدمة الأجيال الحالية وأجيال المستقبل على المستويين المحلي والعالمي. وخلافا لعملية صنع السياسات التقليدية، حيث يتخذ المسؤولون المنتخبون والخبراء القرارات، أتاح هذا التجمع الذي أطلق عليه مسمى "لجنة المستقبل" ــ وهو ثاني تجمع من نوعه يُعقد في النرويج ــ للمواطنين العاديين، الذين اختيروا من خلال عملية تمثيلية وجرى تزويدهم بالمعرفة اللازمة، صياغة التوصيات من خلال الحوار المستنير.

بتبني نموذج أكثر ثورية لإدارة الديمقراطية التداولية التي تركز على الصالح الجماعي البعيد الأمد وليس المصالح السياسية القصيرة الأمد، تُـرسي النرويج سابقة لبلدان أخرى. ولعل الأمر الأكثر أهمية أن لجنة المستقبل طالبت رسميا عند تقديم توصياتها إلى البرلمان النرويجي في الثالث عشر من مايو/أيار الماضي بإطار قانوني ــ بما في ذلك مفوض مخصص ــ لحماية أجيال المستقبل. وإذا اسْـتـُنّ هذا الإطار القانوني، فسوف يثبت أن المناصرة الشعبية من الممكن أن تُـحدِث نقلة نوعية في الحوكمة.

لقد عاينت إمكانات هذا التحول شخصيا بصفتي أول مفوضة لأجيال المستقبل في ويلز، التي أقرت قانون رفاهية أجيال المستقبل في عام 2015. يُـلـزِم القانون الهيئات العامة بالنظر في العواقب البعيدة الأمد المترتبة على قراراتها، على النحو الذي يضمن ترسيخ الاستدامة والعدالة بين الأجيال في عملية صنع السياسات.

جاء القانون نتيجة لحوار وطني استمر لمدة عام ــ وهي عملية ديمقراطية تداولية أخرى. في عام 2014، طلبت حكومة ويلز من مواطنيها مناقشة نوع البلد الذي يريدون أن يتركوه لأبنائهم وأحفادهم. وقد ساعدت إجاباتهم في تشكيل أهداف الرفاهة السبعة البعيدة الأمد لهذا التشريع، والتي تعد بمثابة نجم الشمال الهادي لصُـنّـاع السياسات.

يتزايد الزخم لتبني مثل هذه التشريعات على مستوى العالم. ففي سبتمبر/أيلول، تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة إعلانا بشأن أجيال المستقبل يشجع الحكومات على إضفاء الطابع المؤسسي على التفكير البعيد الأمد.

قد يتبين أن فرصة النرويج للقيام بذلك على قدر خاص من الأهمية خاصة بسبب صندوق النفط السيادي بقيمة 1.8 تريليون دولار هناك. فمع تسارع وتيرة تغير المناخ وتفاقم حالة انعدام اليقين الاقتصادي، يتعين على النرويج أن تعمل على تطوير رؤية جديدة للإدارة المالية قادرة على المساعدة في الحفاظ على رفاهة الكوكب والمجتمع.

في المقام الأول من الأهمية، يتعين على النرويج، باعتبارها واحدة من أكبر مصدري النفط في العالم، أن تتعامل مع اعتمادها على الوقود الأحفوري. من المؤكد أن النرويج التزمت بأهداف مناخية طموحة، بما في ذلك صافي انبعاثات صفري بحلول عام 2050. لكنها تستمر في التوسع في التنقيب عن النفط، على الرغم من الدعوة العالمية إلى خفض إنتاج الوقود الأحفوري بشكل منظم، وعلى الرغم من ضعف أنظمتها البيئية البكر ــ من التندرا القطبية الشمالية إلى المضايق الشاسعة ــ بسبب التدهور البيئي. كما تواجه النرويج تحدي الانتقال إلى اقتصاد ما بعد النفط في ظل التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة. وللتخفيف من تكلفة الأصول الجانحة، وحماية العمال، وضمان الانتقال العادل، تحتاج البلاد إلى إدارة التنويع بعناية.

من شأن قانون نرويجي لأجيال المستقبل يستند إلى النموذج المعمول به في ويلز أن يدمج المسؤولية بين الأجيال في اتخاذ القرارات السياسية، على النحو الذي يضمن سعي الحكومة إلى إيجاد التوازن بين الرفاهة الاجتماعية، والاقتصادية، والبيئية، والثقافية لصالح الأجيال الحالية وأجيال المستقبل. وكجزء من هذه العملية، يستطيع مفوض أجيال المستقبل أن يعمل كمدافع مستقل، حيث يقوم بالإبلاغ عن التدابير التي تتعارض مع هدف القانون ومساءلة القادة السياسيين عن السعي إلى إيجاد التوازن بين الأمدين القريب والبعيد.

تشهد كثير من تحديات اليوم على العواقب الوخيمة المترتبة على الفشل في التخطيط للمستقبل. فمن تغير المناخ إلى التحولات الديموغرافية، تنبع هذه المشكلات المتداخلة في كثير من الأحيان من قصر النظر في اتخاذ القرارات والعمى المتعمد إزاء البيانات والاتجاهات القوية. ماذا سيحدث، على سبيل المثال، عندما يكافح سكان النرويج المسنون للتكيف مع درجات الحرارة المرتفعة، والتي ستفرض مزيدا من الضغوط على نظام الرعاية الصحية المثقل بالأعباء؟

لكن التفكير البعيد الأمد لا يتعلق فقط بمنع المشاكل. بل يدور أيضا حول العمل من أجل مستقبل أفضل وأكثر أملا. على سبيل المثال، أعطى النموذج المعمول به في ويلز الحكومة والمؤسسات العامة رؤية تسعى إلى تجاوز الدورات السياسية. ومنذ أصبح صناع السياسات أكثر توجها نحو المستقبل، أعطوا الأولوية للاستثمار في النقل العام على بناء الطرقات؛ وركزوا على الحفاظ على صحة الناس بدلا من الاكتفاء بعلاج المرضى؛ بل وأعادوا إحياء اللغة الويلزية، التي كانت مهددة بالانقراض في السابق.

لقد قالت لجنة المستقبل في النرويج كلمتها، والآن تقف الحكومة على مفترق طرق. فهل تصبح رائدة عالمية في تخطيط السياسات البعيدة الأمد، بما يضمن أن تعود ثروتها النفطية بالنفع على أجيال المستقبل؟ أو تتخذ قرارات تستند فقط إلى اعتبارات قصيرة الأجل، فيتسبب هذا في إدامة الأزمات التي سيكون لزاما على مواطنيها في المستقبل إصلاحها؟ إذا ما أرادت النرويج أن تحترم رغبات مواطنيها، فعليها أن تتحمل مسؤولية المساعدة في خلق عالم يحسن رفاهة الإنسان والمساواة.

* بقلم: صوفي هاو، أول مفوضة للأجيال القادمة في ويلز

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق