الإنسان ليس منتجًا للتسويق، ولا جسدًا للعرض، ولا عقلًا للاستغلال، بل الإنسان في جوهره روح وقيمة وكرامة، والأمم التي تسمح بتسليع الإنسان، تُمهّد لتحجيم وتسطيح عقول المجتمع كله، ثم تتحوّل إلى سوق كبيرة، بلا روح، ومصداقنا في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (هود: 85)...

في زمنٍ تتقدّم فيه الأدوات وتتراجع فيه المبادئ، بات الإنسان مهددًا بأن يُعامَل لا بوصفه كائنًا ذا كرامة، بل كـسلعة تُقيَّم وتُستهلك وتُستبدل حسب العرض والطلب، لا حسب الأخلاق والاتفاق، إننا نشهد اليوم ظاهرة تسليع الإنسان، حين يُختزل وجوده في مظهره أو إنتاجه أو شهرتِه، وتُطمس إنسانيته لصالح معايير السوق، فهل ما زال الإنسان إنسانًا؟ أم أصبح مجرد منتج في مزاد مفتوح؟، التسليع هو تحويل شيء غير مادي أو غير قابل للبيع إلى سلعة تخضع لآليات السوق تُعرض وتُسوّق وتُستهلك، وحين يُسلَّع الإنسان فإننا نتعامل معه لا كشخص، بل كـوسيلة تُقوَّم وفق مظهره الخارجي وعدد متابعيه وما يُدرّه من مال أو شهرة أو نفوذ، ومدى إفادته للشركات أو المنظمات أو حتى للناس.

بهذا المنظور، لا يعود للإنسان قيمة ذاتية، بل قيمة تبادلية، وهي جوهر الفكر الرأسمالي الذي حوّل كل شيء إلى عرض وطلب، لكن الإسلام بالمقابل يضع الإنسان في مركز الكون الأخلاقي، لا بوصفه سلعة، بل كائنًا مكرَّمًا مستخلفًا على الارض، حيث قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ (الإسراء: 70)، والكرامة هنا ليست مشروطة بمظهر أو مال، بل هي أصل في الخلق، ومبدأ في التعامل.

وفي الحديث النبوي الشريف المشهور: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، بهذا رفض الإسلام كل أشكال اختزال الإنسان في ما يُرى أو يُستثمر، وحرَّم حتى السخرية أو التنقيص من الناس بناءً على معايير دنيوية، حيث قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ﴾ (الحجرات: 11).

أما مظاهر تسليع الإنسان في عالم اليوم فهي تتجسد في تسليع الجسد والمظهر وتسويق المرأة والرجل كمجرد أدوات جذب بصري في الإعلانات والمحتوى، وانتشار ثقافة الوجه المثالي والجسم المثالي، وبيع الجمال بوصفه ميزة تسويقية، كذلك في تسليع العقل والمواهب فالشركات تستثمر في المبدعين لا بوصفهم ذواتًا، بل أدوات لجني الأرباح، ويتم تقييم الشخص بمقدار ما ينتج، لا بمقدار ما يُبدع إنسانيًا، بالإضافة إلى تسليع العلاقات الاجتماعية بالعلاقات المبنية على المنفعة المادية لا المودّة، وانتشار ثقافة المصلحة بدل القرب والأخوّة، وثقافة الزوج المثالي المادي الباذخ والترويج لما يعرف بــالشوكر دادي!

لكن تسليع العمل والموظف هو الادهى فالعامل يُقوَّم بالأرقام لا بالقيمة المعنوية أو الإخلاص، وعدم احترام الإنسان ككائن تعب ويشقى، بل اعتباره مجرد مُدخل بيانات أو رقم في الإنتاج، والامر هو تسليع الوعي والرأي فالمؤثرون في وسائل التواصل يبيعون آرائهم بحسب الإعلانات والداعمين، في موجة لاختفاء الرأي الصادق، وصعود الحديث المدفوع.

والآثار النفسية والاجتماعية لتسليع الإنسان عديدة منها أزمة الهوية التي يشعر فيها الإنسان بأنه لا قيمة له إذا لم يكن مطلوبًا، والاكتئاب المجتمعي حين يُقارن الناس أنفسهم بأرقام وشهرة ومظاهر، والعزلة الأخلاقية تتفكك العلاقات الصادقة لصالح العلاقات الاستهلاكية، كما أن احتقار الذات وارد فيُربّى الجيل على أن قيمته في مظهره أو عدد إعجاباته، لا في فكرته أو خُلُقه، وحتى نُعيد للإنسان اعتباره نحتاج إلى نقد جذري للثقافة الاستهلاكية التي ترى الإنسان أداة لا غاية، وترسيخ القيم الإسلامية التي تُعلي من الكرامة لا المظهر، وإعلام بديل يروّج للمحتوى الهادف لا المحتوى المُباع، ونحتاج كذلك إلى مناهج تعليمية تزرع في الطفل أنه ليس سلعة، بل مسؤول مكرّم وقراره بيده وفق مبادئه.

ختامًا- الإنسان ليس منتجًا للتسويق، ولا جسدًا للعرض، ولا عقلًا للاستغلال، بل الإنسان في جوهره روح وقيمة وكرامة، والأمم التي تسمح بتسليع الإنسان، تُمهّد لتحجيم وتسطيح عقول المجتمع كله، ثم تتحوّل إلى سوق كبيرة، بلا روح، ومصداقنا في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (هود: 85) وتفسيرنا الظاهري للقرآن الكريم يبين أنّ الاشياء ليس المقصود بها المادية فقط، بل المعنوية منها كذلك، وهي كرامة الإنسان الأولى بالحفاظ والاعتزاز.

د. جمانة جاسم الأسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية بجامعة كربلاء

اضف تعليق