يجب على الانسان تحقيق التوازن بين الالهام الأخلاقي للقيم والحكمة العملية للمصالح، لجعل المصالح تسير في ركب القيم لا العكس، وهذا لا يكون الا بالتخلص من: أنانيته وهيمنة قيمه ومعتقداته الخاصة الخاطئة وانفتاحه على ما هو جديد وصالح من القيم، وتفهمه الصحيح لمقاصدها الانسانية، وأهليته لحملها وتجسيدها على...
شكّلت العلاقة بين القيم والمصالح محورًا لصراع فكري مستمر بين مدرستين مهمتين في الفكر الإنساني هما: المثالية والواقعية. فبينما تنطلق المدرسة المثالية من أولوية القيم الأخلاقية في توجيه السلوك الانساني، ترى المدرسة الواقعية أن المصلحة هي البوصلة الوحيدة التي يمكن أن تبرر الأفعال، بصرف النظر عن الاعتبارات الأخلاقية.
وفي الوقت الذي تستند المدرسة المثالية إلى رؤية مفادها أن الإنسان كائن أخلاقي بطبعه، يسعى نحو العدالة، والحق، والسلام، والحرية... مما يجعل هذه القيم ليست مجرد شعارات، بل هي معايير تحكم سلوك الافراد والدول. في المقابل، تقوم المدرسة الواقعية على تصور مختلف للطبيعة البشرية، اذ تنظر إلى الإنسان بوصفه كائنا جامحا مدفوعًا بغرائز البقاء، والسيطرة، وتحقيق المصالح الذاتية، وهو يُظهر تقديره للقيم، ويتخذها شعارا عندما تقدم تبريرا مناسبا لتحقيق مصالحه، وعند تقاطع قيمه مع مصالحه تكون الأولوية للمصالح على حساب القيم.
وبدون الخوض كثيرا في الحجج التي ترفعها كل مدرسة بوجه المدرسة الأخرى، فالجدل بين المدرستين سيبقى قائمًا طالما وُجد الإنسان؛ لأنه يعكس صراعًا داخليًا بين ما "يجب أن يكون" وما "هو كائن". فالمثالية ترتبط بالكمال والعلو والسمو، ولذا غالبا ما اقترنت بالسماء وما توحي به للأنبياء والمرسلين، وبالعقل وما يجود به على الفلاسفة والمفكرين، فهي تنزع الى ما هو سامي في حياة الناس. اما الواقعية، فهي لصيقة بالأرض وما يجري عليها فعلا من دوافع وغايات تحركها اطماع الانسان التي تحكم علاقته بأخيه الانسان، وما تحققه من منفعة ولذة لإصحابها، فيجدون فيها نشوة القوة والانتصار والنجاح على اقرانهم سواء كانوا افرادا ام دولا، وسواء تناغم ذلك مع المعايير الأخلاقية ام تقاطع معها.
ومع الإقرار بتحول الحياة الإنسانية بدون قيم أخلاقية صالحة الى غابة يسودها الظلم والنفاق والكراهية، تجد الكثيرين لا يكترثون بهذا الامر. لماذا؟
لأننا إذا استثنينا الناس الذين تتوافق لديهم القيم مع المصالح، وهم قلة، سنجد البقية، وهم الأكثرية الغالبة، تتقاطع عندهم القيم مع المصالح لأسباب ثلاثة:
- عدم الايمان، فهناك من الناس من لا يؤمن بالقيم الاخلاقية؛ اما لإيمانه بمنظومة قيم مختلفة عنها، فيعاديها كونها تتناقض مع ما يؤمن به. واما لأنها تهدد مصالحه الخاصة، فيعاديها حتى لو كان موقنا بصحتها وسلامتها. وخير مثال على هذه الحالة هو قصة فرعون وقومه مع النبي موسى عليه السلام وبني إسرائيل حيث عبر النص القرآني عن حال فرعون بقوله تعالى: "...قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ..." (سورة غافر: 29)، وحال قومه بالقول:" وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" (سورة النمل: 14).
- الايمان مع عدم الفهم، ونعني به ان البعض يؤمن بالقيم الاخلاقية الا انه لم يستوعب مقاصدها وأهدافها الإصلاحية، فتراه متطرفا في التمسك بها، وفي نفس الوقت منحرفا عن مقاصدها وأهدافها، فيُخرجها عن مسارها الإنساني الصحيح الى مسار معوج يزرع الاستبداد والكراهية والعداوة بين البشر. وهذا ما نراه في الكثير من الحركات السياسية التي رفعت شعارات العدالة والحرية والحق والمساواة نظريا، لكنها عند التطبيق تسببت في إيجاد اسوء الطواغيت، وأكثر أنظمة الحكم استبدادا ووحشية. كما حصل مثل ذلك لدى كثير من الحركات الدينية التي أخرجت الدين عن مقاصده الإنسانية، فجعلته مصدرا لبث الكراهية والبغضاء بين افراد الأديان المختلفة، بل والدين الواحد، كما هو الحال في كثير من الحركات الإرهابية ذات البعد الديني، القديمة والمعاصرة، وهؤلاء ينطبق عليهم قول الامام علي عليه السلام: " طلب الحق فأخطأه".
- الايمان مع عدم الاهلية، وهذه الحالة قد تغيب عن نظر الكثيرين، ولكنها من اسوء الحالات؛ كونها تنخر عرش القيم من الداخل، وتورث النفاق والتناقض بين الفكر والسلوك، ففيها تجد الانسان مؤمنا بالقيم الاخلاقية، مجاهرا بمحبتها والحاجة اليها، لكنه غير مؤهل لتطبيقها وحمايتها والدفاع عنها، ويحاول بشتى الطرق إيجاد مظاهر شكلية لها في حياته الخاصة والعامة بعيدة كل البعد عن جوهرها الحقيقي، فيلبس لباس القيم ويسلك سلوك من يقف ضدها ويعترض طريقها.
وخير مثال على هذه الحالة تجده في قصة موسى عليه السلام مع قومه، فقومه آمنوا بدعوته، ولكن عدم اهليتهم دفعتهم بعد إنقاذ الله لهم من الغرق، وعبورهم الى ارض كنعان التي يعبُد أهلها الاصنام الى القول:" َ...يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ" (سورة الأعراف: 138). وتجد – أيضا-نظير ذلك في واقعة كربلاء المؤلمة عندما قال أحدهم للحسين عليه السلام: "قلوبهم معك، وسيوفهم عليك". كما تجده في مجتمعاتنا المعاصرة التي تُمجد قيم الشرف، والصدق، والنزاهة وغيرها في ثقافتها السائدة، بينما تُمارس في الواقع أنماطا كثيرة من السلوك النفعـي القائم على الكذب والتزلف وخيانة الأمانة وبث الكراهية بين الناس. فضلا على ما تجده في العلاقات الدولية، اذ تُرفع فيها شعارات تقرير المصير، وحقوق الانسان، والسلام العالمي، فيما تكون الأولوية، حتى بالنسبة للدول الديمقراطية للمصالح الخاصة متخذة القيم الاخلاقية والمواثيق الدولية غطاء لتحقيق هذه المصالح حسب الاهواء السياسية.
ختاما، يمكن القول: ان الانسان في الوقت الذي يصبو ببصره نحو السماء "القيم"، فهو يضع قدميه على الأرض "المصالح"، ولا يمكنه الفصل بين ما يصبو اليه وما يقف عليه، ولكن يجب على الانسان تحقيق التوازن بين الالهام الأخلاقي للقيم والحكمة العملية للمصالح، لجعل المصالح تسير في ركب القيم لا العكس، وهذا لا يكون الا بالتخلص من: أنانيته وهيمنة قيمه ومعتقداته الخاصة الخاطئة وانفتاحه على ما هو جديد وصالح من القيم، وتفهمه الصحيح لمقاصدها الانسانية، وأهليته لحملها وتجسيدها على ارض الواقع.
اضف تعليق