q
إسلاميات - القرآن الكريم

فقه روايات السباب ومرجعية اهل الخبرة

وَلَا تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّه (4)

تشخيص الموضوعات في الشؤون العامة راجع إلى مراجع التقليد أولاً وإلى تشخيص مجموعة معتد بها من أهل الخبرة ثانياً، وتكون النتيجة هي المحصلة الناتجة عن استعانة الفقهاء العظام بأهل الخبرة والاختصاص في الشأن العام سياسياً كان أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم عسكرياً أم غير ذلك...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، بارئ الخلائق أجمعين، باعث الأنبياء والمرسلين، ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏)(1) وقد سبق:

(طوائف الآيات والروايات في قضية السباب

ان المستظهر ان الأدلة الواردة حول (السبّ والشتم) هي على طوائف بل على طبقات ومراتب:

الطائفة الأولى: ما يدل على حرمة سبّ الآخرين، كأصل أولي عام، ويتضمن هذا بعض الآيات والروايات الشريفة والقواعد أو الأصول العملية العامة.

الطائفة الثانية: ما يدل على جواز سبّ جماعات خاصة من الناس نظير أهل البدع أو المخالفين.

الطائفة الثالثة: ما يدل على حرمة سبّ تلك الجماعات الخاصة في بعض الصور، ببعض القيود، والآية الكريمة (وَلا تَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ‏) تقع ضمن هذه الطائفة، وإنما قدمناها بالبحث لحكمةٍ سوف يأتي ذكرها بإذن الله تعالى، وهذه الطائفة اما هي مخصصة للطائفة الثانية أو هي حاكمة عليها، أو هي بالأساس خارجة عن باب التعارض وداخلة في باب التزاحم الذي يقع ضمن الطائفة الرابعة.

الطائفة الرابعة: ما يدرج الأمر في باب التزاحم)(2) كما سبق:

(الاعتراض بوجود روايات كثيرة تتضمن السباب والشتائم!

ولكن قد يناقش ذلك بمناقشة معروفة وهي: انه قد ورد السبّ في الروايات الشريفة، فكيف يقال بحرمة سبّ الآخرين: رؤساء كانوا أم رموزاً أو شبه ذلك؟)(3)

واجبنا عن ذلك بان العمل لا جهة له أولاً ثم انه لا إطلاق له ثانياً، وذكرنا:

(من وجوه (السباب) في التراث الإسلامي

وبعض الكلام عن تلك الأفعال وان الفقيه لا يمكنه الاستناد إليها إلا بعد إحراز جهتها وإطلاقها: ان المحتملات في ما ورد من سبهم، كثيرة قد تبلغ العشرة ونقتصر على بعضها في هذا البحث ونكمل الباقي في البحوث الآتية بإذن الله تعالى.

الوجه الأول: ان يكون ذلك من الاستثناء الخاص لا من الأصل العام.

الوجه الثاني: ان يكون ذلك نظراً لباب التزاحم لا لاقتضاء القضية من حيث ذاتها، وباب التزاحم هو الذي تندرج فيه الطائفة الرابعة من الروايات، كما ان الاستثناء هو الطائفة الثانية)(4) ونضيف:

السباب في حالة الحرب، ورداً على الاعتداء

الوجه الثالث: ان كثيراً من مصاديق السباب الصادرة عنهم (إن عدّت سباباً) كانت في حالة الحرب، وفي حالة الحرب يجوز قتل العدو المحارب فكيف لا يجوز سبه؟ ومن جهة أخرى فانه: إذا جاز أمر في الحرب فانه لا يصح القول انه إذا جاز في الحرب فانه يجوز في غير الحرب أيضاً!

الوجه الرابع: ان كثيراً منها كانت من باب (فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ)(5) ولم تكن من السباب الابتدائي، فتلك الأفعال (أي السباب الصادرة في احدى الحالتين) لا إطلاق لها لغير حالة الحرب بل تختص بها، كما لا إطلاق لها للسباب الابتدائي بل تختص بالسباب الدفاعي فقط.

والكثير من الروايات هي اما من قبيل الوجه الثالث أو من قبيل الوجه الرابع أو هي من مجمع الوجهين، فمثلاً:

نماذج من الروايات في حالة الحرب أو رداً على الاعتداء

قوله صلى الله عليه واله وسلم: ((مَنْ لِهَذَا الْكَلْبِ))(6) مشيراً إلى عمرو بن ود العامري كان في حرب الخندق كما هو معلوم.

وقوله عليه السلام الذي: (ورد في نهج البلاغة من كلام له عليه السلام قاله للبرج بن مسهر الطائي، وقد قال له بحيث يسمعه: (لا حكم إلاَّ لله)، وكان من الخوارج

اسْكُتْ قَبَحَكَ اللهُ يَا أَثْرَمُ، فَوَاللهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلاً شَخْصُكَ، خَفِيّاً صَوْتُكَ، حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ)(7) فانه كان في ظرف ثورة عسكرية مضادة وكان ذلك أثناء الحرب أو كان ذلك والحرب على مشارفها أو لما ينطفئ كاملاً أوارها.

وكذلك قول الإمام علي عليه السلام لمعاوية ((وَأَنْتَ الْجِلْفُ الْمُنَافِقُ، الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ، الْقَلِيلُ الْعَقْلِ، الْجَبَانُ الرَّذْل‏))(8) فانه كان مجمع الوجهين: إذ كان ذلك في حالة الحرب أولاً وكان ذلك رداً منه عليه السلام على سباب معاوية البذيئة له ثانياً.

وقد نقل ابن أبي الحديد ان معاوية كتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام ((أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ طَالَ فِي الْغَيِّ مَا اسْتَمْرَرْتَ إِدْرَاجَكَ كَمَا طَالَ مَا تَمَادَى عَنِ الْحَرْبِ نُكُوصُكَ وَإِبْطَاؤُكَ تَتَوَعَّدُ وَعِيدَ الْأَسَدِ وَتَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ فَحَتَّامَ تَحِيدُ عَنِ اللِّقَاءِ وَمُبَاشَرَةِ اللُّيُوثِ الضَّارِيَةِ وَالْأَفَاعِي الْمُقَاتِلَةِ فَلَا تَسْتَبْعِدَنَّهَا فَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَالسَّلَامُ.

قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ عليه السلام أَمَّا بَعْدُ فَمَا أَعْجَبَ مَا يَأْتِينِي مِنْكَ وَمَا أَعْلَمَنِي بِمَا أَنْتَ صَائِرٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ إِبْطَائِي عَنْكَ إِلَّا تَرَقُّباً لِمَا أَنْتَ لَهُ مُكَذِّبٌ وَأَنَا لَهُ مُصَدِّقُ وَكَأَنِّي بِكَ غَداً تَضِجُّ مِنَ الْحَرْبِ ضَجِيجَ الْجِمَالِ مِنَ الْأَثْقَالِ وَسَتَدْعُونِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى كِتَابٍ تُعَظِّمُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَجْحَدُونَهُ بِقُلُوبِكُمْ وَالسَّلَامُ.

قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَمَّا بَعْدُ فَدَعْنِي مِنْ أَسَاطِيرِكَ وَاكْفُفْ عَنِّي مِنْ أَحَادِيثِكَ وَاقْصُرْ عَنْ تَقَوُّلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ وَافْتِرَائِكَ مِنَ الْكَذِبِ مَا لَمْ يَقُلْ وَغُرُورِ مَنْ مَعَكَ وَالْخِدَاعِ لَهُمْ فَقَدِ اسْتَغْوَيْتَهُمْ وَيُوشِكُ أَمْرُكَ أَنْ يَنْكَشِفَ لَهُمْ فَيَعْتَزِلُوكَ وَيَعْلَمُوا أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ بَاطِلٌ مُضْمَحِلٌّ وَالسَّلَامُ.

قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ عليه السلام أَمَّا بَعْدُ فَطَالَ مَا دَعَوْتَ أَنْتَ وَأَوْلِيَاؤُكَ أَوْلِيَاءُ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ الْحَقَّ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَجَهَدْتُمْ فِي إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ بِأَيْدِيكُمْ وَأَفْوَاهِكُمْ (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ‏) وَلَعَمْرِي لَيُتِمَّنَّ النُّورَ عَلَى كُرْهِكَ وَلَيُنْفِذَنَّ الْعِلْمَ بِصِغَارِكَ وَلَتُجَازَيَنَّ بِعَمَلِكَ فَعِثْ فِي دُنْيَاكَ الْمُنْقَطِعَةِ عَنْكَ مَا طَابَ لَكَ فَكَأَنَّكَ بِأَجَلِكَ قَدِ انْقَضَى وَعَمَلِكَ قَدْ هَوَى ثُمَّ تَصِيرُ إِلَى لَظًى لَمْ يَظْلِمْكَ اللَّهُ شَيْئاً (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ أَمَّا بَعْدُ فَمَا أَعْظَمَ الرَّيْنَ عَلَى قَلْبِكَ وَالْغِطَاءَ عَلَى بَصَرِكَ الشَّرُّ مِنْ شِيمَتِكَ إِلَى آخِرِ مَا مَرَّ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ عليه السلام أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَسَاوِيَكَ مَعَ عِلْمِ اللَّهِ فِيكَ حَالَتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَنْ يَصْلُحَ أَمْرُكَ أَوْ أَنْ يَرْعَوِيَ قَلْبُكَ يَا ابْنَ الصَّخْرِ اللَّعِينِ زَعَمْتَ أَنْ يَزِنَ الْجِبَالُ حِلْمَكَ وَيَفْصِلَ بَيْنَ أَهْلِ الشَّكِّ عِلْمُكَ وَأَنْتَ الْجِلْفُ الْمُنَافِقُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْقَلِيلُ الْعَقْلِ الْجَبَانُ الرَّذْلُ فَإِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَسْطُرُ وَيُعِينُكَ عَلَيْهِ أَخُو بَنِي سَهْمٍ فَدَعِ النَّاسَ جَانِباً وَابْرُزْ لِمَا دَعَوْتَنِي إِلَيْهِ مِنَ الْحَرْبِ وَالصَّبْرِ عَلَى الضَّرْبِ وَأَعْفِ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْقِتَالِ لِتَعْلَمَ أَيُّنَا الْمَرِينُ عَلَى قَلْبِهِ الْمُغَطَّى عَلَى بَصَرِهِ فَأَنَا أَبُو الْحَسَنِ قَاتِلُ جَدِّكَ وَأَخِيكَ وَخَالِكَ وَمَا أَنْتَ مِنْهُمْ بِبَعِيدٍ وَالسَّلَامُ))(9)

وكما هو صريح الرواية فان معاوية تجنّى على الإمام وسبّه بالباطل المحض فكان للإمام عليه السلام الجواب إذ (فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ) على انه أجاب بالحق المحض أي بما فيه من الصفات البذيئة.

لا يقال: ألم يكن الأولى بالإمام ان يعفو عنه وأن لا يجازيه بالمِثل (والمِثل عرفي، وإلا فلا مثلية إذ سباب معاوية افتراء وكذب وكلام الإمام عليه السلام حق وصدق) إذ قال عليه السلام في موطن آخر (عندما سبه ذلك الخارجي الفظ بقوله: قَاتَلَهُ اللَّهُ كَافِراً مَا أَفْقَهَهُ فَوَثَبَ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ عليه السلام ((رُوَيْداً إِنَّمَا هُوَ سَبٌّ بِسَبٍّ أَوْ عَفْوٌ عَنْ ذَنْبٍ ))(10)

إذ يقال: العفو هو الأولى بشكل عام ولكن قد يجب الردّ والقصاص، وذلك في مثل حالة الإمام عليه السلام فانه أراد ان يسجل وثيقة تاريخية هامة تكشف حقيقة معاوية للتاريخ والأجيال القادمة، وهذا داخل في دائرة الأهم عقلاً وعرفاً؛ ألا ترى اننا لو عبّرنا عن صدام أو معمر القذافي أو هتلر أو موسولويني أو ستالين أو الحجاج وفرعون وأشباههم بـ(السفّاح) أو بالمستبد والدكتاتور، كان مقبولاً عند عقلاء العالم مع ان وصف شخص بالدكتاتور أو الاوليغارشي أو ما أشبه يعد من أعظم السباب في هذا العصر؟

فجواب الإمام عليه السلام كان أولاً رداً للاعتداء ولم يكن سباباً ابتدائياً فغاية ما يفيده جواز السباب الدفاعي دون الابتدائي الهجومي، ثم انه كان في حالة حرب ألا ترى ان الإمام دعاه إلى المبارزة شخصياً وطلب منه ان يجنبا الجيشين القتال والقتل وان يتبارزا بنفسيهما؟

إذا جاز قتل العدو المحارب جاز سبّه

لا يقال: قد يجوز قتل الطرف الآخر ولا يجوز سبه، فالاستدلال بكون الحالة حالة حرب على جواز السباب حينئذٍ هو من تنقيح المناط الظني؟

إذ يقال: كلا لوجهين:

الأول: ان الأولوية عرفية قطعية وانه إذا كان العدو كداعش مثلاً ممن يجوز قتله بل يجب، فكيف لا يجوز سبّه؟ ألا ترى: ان العقلاء في العالم كله لا يشكّون في حرمة تعريض أنفسهم للقتل لمجرد تجنب السب (أن يُسبّ)؟ نعم الشاذ من الناس قد يرجح ان يُقتل على ان يُسبّ، لكنه شاذ أو لعروض عنوان ثانوي على هذا السباب، وبناء كافة العقلاء على ترجيح ان يُسبّ على ان يُقتل، بل الحكم الشرعي قطعاً هو كذلك ولذا لو دار الأمر بين ان يسبك زيد وبين ان يقتلك حرم عليك ان ترجح القتل بل كان من أعظم الآثام وأكبر المعاصي.

الثاني: سلّمنا، لكن يكفي في المقام احتمال مدخلية الحرب في جواز السب، ولسنا بحاجة إلى إحراز أولوية جواز السباب من جواز القتل، إذ مستند مدعي جواز السب في غير حالة الحرب هو هذه الروايات وهذه الروايات سِباب صادرة في حالة الحرب فكيف يُتعدَّى منها إلى غير حالة الحرب إلا بتنقيح مناط ظني؟ والحاصل: ان مدعي عموم جواز السباب إلى حالة السلم مستدلاً بسباب صادر من المعصوم عليه السلام في حالة الحرب، عليه هو ان يقيم الدليل على أجنبية حالة الحرب عن جواز السب بالمرة، وليس على الطرف الآخر الدليل. فتدبر تعرف.

نعم قد يقال هذان الوجهان لا يعمان جميع ما صدر من المعصومين عليهم السلام فان قسماً منها لم يكن في حالة حرب ولم يكن من باب رد الاعتداء.. ولَئِن لم نُجِب بانها كلها في الحقيقة كانت ردّ اعتداء من الطرف الآخر فان الجواب هو: ان هذه الروايات إذاً لا تصلح للدلالة على جواز السب في حالة السلم والسباب الابتدائي، بل تكون بعض الروايات أخرى هي الدليل، وقد أجبنا عنها بأحد الوجهين الأول والثاني وستأتي إجابات أخرى لاحقاً أيضاً، على ان مساحة الروايات المتضمنة للسباب والتي يعود السبب فيها إلى غير الوجهين الثالث والرابع تتقلص إلى حد كبير جداً مما يسهل معالجتها مما تندرج في أخبار الآحاد. فتأمل

وسيأتي الكلام عن سائر الوجوه في روايات فعل المعصومين عليهم السلام فأنتظر، ولكن وكما سبق فانه قد يستدل بالعموم أو الإطلاق اللفظي للرواية المعروفة إذ سبق:

(الاعتراض برواية ((أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ))

ولكن قد يعترض على ما ذكرناه بروايات الطائفة الثانية:

ومنها: ما ورد في الكافي الشريف ((عَنْ دَاوُدَ بْنِ سِرْحَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم: إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ، يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ))(11)

فيقال: بان هذا أمر لفظي وليس فعلاً كي يشكك في جهته وفيه التصريح بـ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ))(12)

وهذه الرواية لا مشكلة فيها من حيث السند وقد افتى بعض من الأعاظم على طبقها كما نقلنا سابقاً بعض أقوالهم قدس اسرارهم.

الجواب: الخطاب عام والحكم خاص

ولكن: قد يجاب عن الاستدلال بالرواية الشريفة بوجوه:

منها: ان الخطاب عام ولكن الحكم خاص، وتوضيحه: ان الخطاب وإن كان موجهاً للعموم ظاهراً ولكن الحكم خاص.

أ- بمن يعرف موارده ومصادره(13).

ب- وبكونه مجرداً عن المحذورات التي ذكرتها الطائفة الثالثة من الروايات وعن المزاحم الأهم الذي تتضمنه الطائفة الرابعة من الروايات)(14).

ومنها: وجود ضوابط عديدة للموارد المستثناة التي يجوز فيها السباب أو يجب:

المرجعية في الشؤون العامة للمرجعية

ومنها: ان المرجع المرجعية الدينية حسب قاعدة حكومة أدلة ((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّه))(15) و((بِأَنَّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ))(16) على أدلة السباب وسائر الشؤون العامة، وقد سبق:

(ان يكون بإذن الحاكم الشرعي

وبذلك يظهر انه لا يصح لأحد ان يقول بان الأمر القرآني بـ(فَقاتِلُوا) و(اقْطَعُوا) صريح وهو خطاب موجّه للجميع ولم يخصِّصه الله تعالى بالحاكم الشرعي أو أولياء الأمور أو ما أشبه، إذاً لكل واحد من العوام – بل على كل أحد – ان يبادر لمقاتلة أئمة الكفر أو مقاتلة الذين يلوننا من الكفار أو شبه ذلك.

والحاصل: ان القرينة العقلية أو العقلائية أو الشرعية الحافّة بالكلام، لهي من احدى مقيداته بدون كلام.

ولكن قد يسأل عن الدليل على ان مثل (فَقاتِلُوا) و(فَاقْطَعُوا) و((فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ)) حكم خاص وإن كان خطابه عاماً؟.

والجواب على ذلك واضح وهو ان الدليل هو الروايات الكثيرة المصرحة بمثل ان مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء.. وهي روايات كثيرة نقتصر الآن على واحدة منها:

الدليل: ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ))

قال الإمام الحسين عليه الصلاة والسلام: ((ذَلِكَ بِأَنَّ مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ))(17)

ومن الواضح ان سِباب أهل الريب والبدع على قسمين)(18) وسبق:

(الاستدلال بحكومة ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ...)) لا بالقياس

وليس الاستدلال بتنظير السباب بالمناظرة كي يقال انه نوع من القياس، بل كان الاستدلال بحكومة عمومات ((مَجَارِيَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ عَلَى أَيْدِي الْعُلَمَاءِ بِاللَّهِ الْإِمْنَاءِ عَلَى حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ)) وغيرها وكـ((وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُمْ وَأَنَا حُجَّةُ اللَّه))((19)) مما فصّلناه في كتاب (شورى الفقهاء والقيادات الإسلامية) وسائر الروايات الدالة على وجوب الرجوع إلى العلماء في ((الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ)) و(الأمور) و(الأحكام) وأي أمر أهم من سلسلة قضايا منها سباب رؤساء الدول الأخرى أو رموز الأديان الأخرى، على مستوى عالمي، مما أثار على مرّ التاريخ التوترات والأزمات بل والحروب (بالفعل أو لاحقاً) بين الدول والأمم والطوائف والفرق. قال الشاعر:

جِراحات السِّنانِ لها التِئامٌ***** وَلا يلتامُ ما جَرَحَ اللسانُ

السباب شأن عام ومن الموضوعات العامة

والحاصل: انه حتى في موارد جواز سبّ الطرف الآخر، ومنها سبّه من باب المقابلة بالمثل لقوله تعالى: (فَمَنِ اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ)(20) فانه إذا صار شأناً عاماً فالواجب الرجوع إلى العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه، والاستئذان منهم، ثم ان الفقيه لا يأذن عبثاً – كما هو واضح – بل عليه دراسة كافة الظروف والشروط الذاتية والموضوعية والآثار الحالية والمستقبلية، وبعد مشورة مجموعة معتدّ بها من أهل الخبرة، بل وفيما نرى بعد مشورة سائر الفقهاء كما فصلناه في (وَأَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ) وسيأتي أيضاً الكلام عن ذلك وعن بعض شرائط الإفتاء بمثل ذلك، في بحث لاحق بإذن الله تعالى)(21).

والتشخيص لأهل الخبرة والعقل والحكمة

ومنها: ما أشرنا إليه في آخر الكلام السابق وقد حان أوان إيضاحه وهو: ان تشخيص الموضوعات في الشؤون العامة راجع إلى مراجع التقليد أولاً وإلى تشخيص مجموعة معتد بها من أهل الخبرة ثانياً، وتكون النتيجة هي المحصلة الناتجة عن استعانة الفقهاء العظام بأهل الخبرة والاختصاص في الشأن العام سياسياً كان أم اقتصادياً أم اجتماعياً أم عسكرياً أم غير ذلك فكيف إذا كان يؤثر على تلك الجهات كلها أو معظمها: وتوضيحه:

ان الفقهاء على مرّ التاريخ اعتبروا أهل الخبرة هم المرجع في تشخيص الموضوعات، ومن ذلك النماذج التالية بدءً من الشيخ الطوسي وانتهاءً إلى الفقهاء المعاصرين.

مرجعية أهل الخبرة في كلمات الفقهاء

قال الشيخ الطوسي في الاقتصاد: (ومتى وقع فيها(22) تنازع من أهلها ففرضه الرجوع الى أهل الخبرة والحكم بما يقولونه)(23).

وقال في المبسوط: (مرض مشكل لا يعرفه إلا الخواص فإنه يرجع فيه إلى أهل الخبرة من الطب)(24)

كما انه قدس سره حكم فيمن قلع اسنان غيره ان يرجع إلى اهل الخبرة في انها تعود أو لا وغير ذلك، وعلى ضوء ذلك يقرر القصاص وعدمه.

كما ذهب إلى ان مرجع تعديل الشاهدين هو إلى أهل الخبرة والبصيرة والمعرفة.

وقال في المختصر النافع: ((الثامنة) يُقوّم المبيع صحيحا ومعيبا، ويرجع المشترى على البائع بنسبة ذلك من الثمن. ولو اختلف أهل الخبرة رجع إلى القيمة الوسطى)(25).

وفي الشرائع: ما ملخصه: ان المرجع هم أهل الخبرة في اندراس القبر لنبشه).

بل قال في الجواهر: (معلومية الرجوع إلى أهل الخبرة في كل ما لهم خبرة فيه)(26)

وقال في العروة: (والمرجع في تعيينه (أي الأعلم) أهل الخبرة والاستنباط)(27)

وقال في العروة أيضاً: (نعم اللازم معلومية كون التبديل(28) أصلح وأنفع بحسب أنظار أهل الخبرة وتصديق الحاكم الشرعي وإذنه من طرف البطون)(29)

وهذه العبارة هامة جداً إذ انها صريحة في اعتبار اجتماع الاثنين معاً وهما (نظر أهل الخبرة وإذن الحاكم الشرعي).

وقال في فقه الصادق (ثالثها: الإرتكاز الثابت ببناء العقلاء، حيث جرى بناؤهم في كل امر راجع الى المعاد والمعاش على رجوع الجاهل الى العالم من جهة كونه اهل الخبرة والإطلاع، ولم يردع الشارع الأقدس عن ذلك)(30)

وقال السيد الوالد: (ولذا جرت السيرة بين أهل الرجال على صِرف الجرح والتعديل، ويؤخذ بقولهم فيهما، كما جرت السيرة بين العقلاء على قبول قول أهل الخبرة مطلقاً من دون ذكر السبب، كأهل العلوم من اللغويين والصرفيين والنحويين والبلاغيين وغيرهم.

أما اعتبار أن يكون القائل خبيراً، فقد تقدم وجهه في اعتبار أن يكون ضابطاً)(31) وقال: (مسألة: إذا تعارض الجرح والتعديل، فإن كان أحدهما أتقن وأدق أخذ به، ولا يعتنى بقول الآخر، لأنه بناء العقلاء في تعارض أهل الخبرة، ولذا نراهم يعملون بقول أدق الأطباء في ما تعارض في أن المرض سل أو سرطان، إلى غيرهم من أهل الخبرة)(32).

ومن الواضح ان الموضوعات التي تقع في دائرة الشؤون العامة هي أحوج إلى أنظار أهل الخبرة فانها أكثر تعقيداً وعمقاً وغوراً وأبعاداً كما انها أهم بما لا يقاس، من الموضوعات الخاصة كهذا المرض أو هذا المعيب أو ذلك الشاهد أو هذا الوقف وتبديله.

والحاصل: انه إذا كان اللازم الرجوع إلى أهل الخبرة في الموضوع الشخصي الخاص مع انه ينعكس بالسلب أو الإيجاب على شخص واحد أو على أشخاص متعددين فقط، فما بالك بالموضوعات العامة (كالسباب العلني العام على رؤوس الأشهاد للحكومات أو لرموز الأديان والمذاهب الأخرى وشبه ذلك) والتي تنعكس بالسلب (أو ببعض الإيجاب حسب الرأي الآخر) على الطائفة أو على المذهب؟

وسيأتي مزيد من الكلام عن ذلك وان المرجع مجموعة معتد بها من أهل الخبرة.

متى يحكم الفقهاء بجواز السباب؟

والواجب على الفقيه في مقام الاستنباط أمران:

أولاً: استفراغ الوسع في استنباط الحكم الشرعي ووجوه الجمع بين طوائف الروايات؛ فانها حسب التحقيق أكثر من طائفتين.

ثانياً: ثم الواجب عليه تنقيح الموضوع وانه هل هذا هو المطلوب في هذا الزمان وهذا المكان وفي هذه البيئة؟ وهل هو مطلوب من هذا الشخص وبالنسبة إلى هذه الجهة أو الفئة أو الدولة أو الشخص؟، أو عكسه هو المطلوب؟ إذ على الفقيه دراسة كافة مقتضيات باب التزاحم في الموضوع وكافة تأثيرات سباب الآخرين من أشخاص وحكومات على الدين وأهله وأتباع أهل البيت عليهم السلام في شتى البلاد حقوقياً، أمنياً، سياسياً، اقتصادياً واجتماعياً، ولا يمكن ذلك للفقيه عادة إلا باستشارة مجموعة معتنى بها من أهل الخبرة بأوضاع البلاد وأوضاع المسلمين والناس في كل مكان، وذلك يعني وجوب استشارة خبراء بعلم الاجتماع وبعلم النفس الاجتماعي وبعلم السياسة وشبه ذلك كي يكون تنقيحه للموضوع وللحادثة الواقعة مبرءً للذمة إن شاء الله)(33)

ومن الواضح ان الخبراء بعلم نفس الأمم وخبراء علم الاجتماع (ونعني بالخبراء التطبيقيين منهم لا المنظرين الجالسين في برج عاجي بمعزل عن الناس) وأهل الحل والعقد أو فقل: أهل العقل والحكمة وأهل العلم والبصيرة بالمجتمعات وبسياسة الدول وغيرها، هم القادرون بعد البحث المستفيض وبعد القيام بإجراء استبيانات واستطلاعات وغيرها من تشخيص نطاق أضرار سباب رموز الآخرين وتموجاته على المجتمعات الإسلامية ومدى منافعها والموازنة بينهما فإذا رأينا ان منهج السباب أدى إلى هداية عشرة آلاف شخص فرضاً، عبر سياسة الصدمة أو شبه ذلك، فان اللازم دراسة الأضرار أيضاً وهل ان منهج السباب سبّب: ابتعاد عشرة آلاف أو مليون أو أقل أو أكثر عن التشيع؟ وهل انه ولد جداراً سميكاً من الحاجز النفسي أمام الكثيرين ممن كان يمكن ان يهتدي لو انتهجنا معهم أسلوب (ادْعُ إِلى‏ سَبيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتي‏ هِيَ أَحْسَنُ)(34)؟

وأيضاً لا بد من دراسة ردود أفعال حكوماتهم على مجمل وضع الشيعة في بلادهم وعلى علاقتهم مع الشيعة في الدول الأخرى وغير ذلك.

من الخطأ الاستراتيجي إصدار حكم بهدر دم كاتب أو مفكر

ومن هنا فان الكثير من أهل الخبرة والعلماء وجدوا انه من الخطأ الاستراتيجي إصدار فتاوى بهدر دم فلان أو فلان لأنه كتب كتاباً ضد الإسلام.. ويشهد لذلك ان واحداً كان مغموراً ومع انه كانت له روايات وقصص سابقة ضد الإسلام إلا ان مبيعاتها كانت محدودة جداً(35)، إلا ان الفتوى بهدر دمه قفزت بمبيعات كتبه إلى الملايين، ومن الواضح ان الباطل يموت بموت ذكره وان الفتوى بهدر دمه سببت:

أولاً: انتشار كتبه بشكل رهيب مذهل.

ثانياً: اكتسابه تعاطفاً عالمياً غريباً.

ثالثاً: كما سبّبت تشويه سمعة الإسلام والمسلمين بانهم غوغاء فوضويون لا منطق لهم ولذا تراهم يقارعون الكلمة الحرة بهدر الدماء!.

وهذا كله مع انه كان من الأفضل عقلاً ومنطقاً كتابة ردود علمية منطقية أو روائية قوية رداً على كتابه بدل انتهاج منهج الصدمة والعنف!

والغريب ان كتابه فاقد للقيمة العلمية تماماً وهو مليء بالأكاذيب والمجعولات على ان بعض ما فيه مقتبس من كتب أهل العامة فأمثال صحيح البخاري أعطاه الذريعة (الباطلة قطعاً) للتهجم على رسول الإنسانية الخالد صلى الله عليه واله وسلم، لكن الفتوى بهدر دمه صوّرته بصورة المفكر الكاتب الأديب صاحب الفكر الحر وصورتنا بصورة الغلاظ الشداد القساة السفاكين!

ولقد كان المفروض لمن يريد ان يصدر الفتوى ان يجمع المئات من الخبراء من أرجاء العالم الإسلامي من أهل الحل والعقد ومن أهل السياسة ومن علماء النفس والاجتماع ومن العلماء من شتى الحوزات الدينية، ليقيِّموا آثار مثل هذه الفتوى على مستوى العالم، سلباً (أو إيجاباً – بزعم الطرف الآخر) على وضع الشيعة والعالم وعلى سمعة الإسلام والمسلمين، ثم بعد الاستشارة المكثفة وإجراء الدراسات العلمية كان يجب ان يتخذ القرار.

الفارق بين الدول المتطورة وبيننا نحن!

وإن ذلك لهو الفارق بين الدول المتطورة كاليابان مثلاً ودولنا، فانهم يعتمدون على أهل الخبرة والعلم والكفاءة في كل شيء بدءً من صناعة الإبرة حتى صناعة سفن الفضاء التي تجوب أنحاء المجرّة، كما بدءً من هندسة البيوت حتى هندسة المدن، وبدءً من دراسة أساليب التعليم ومناهجه حتى تطبيق مختلف مناهج علم الاجتماع وعلم النفس التطبيقيين وعلم الأعصاب وسائر العلوم على شتى الظواهر الاجتماعية.

اما المأساة الكبرى في دولنا فهي ان كل شيء ارتجالي، وان الأساس أصبح هو الاعتماد على القرارات الشخصية وعلى الولاءات دون الكفاءات، فلاحظ رؤساء بلادنا والوزراء ولاحظ المسؤولين ولاحظ قراراتهم في شتى الحقول في الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم العالي وغيرها وقارنها بدول العالم المتحضر لتعرف سرّ تخلفنا وفشلنا وسر تقدمهم.. والمأساة اننا بهذه العقلية العجيبة نتعامل مع مختلف قضايا الشؤون العامة والظواهر الاجتماعية الكبرى ونتخذ القرار تارة في سباب الآخرين (حكومات ورموزاً) وتارة في هدر دمائهم وأخرى في شن حرب أو إجراء معاهدة أو غير ذلك.. وإذا بقيت حالنا كذلك فسنبقى لا سمح الله متخلفين تعجب من بدائيتنا وتخلفنا الأمم؟.

رواية ((أَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) معلّلة بـ((كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ))

واما الرواية الشهيرة وهي: ((قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه واله وسلم إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ وَبَاهِتُوهُمْ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ يَكْتُبِ اللَّهُ لَكُمْ بِذَلِكَ الْحَسَنَاتِ وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ))(36)

فمن الواجب البحث عن فقه الحديث فيها حسب المنهج الأصولي والفقهي الدقيق والمتطور، واننا عند دراسة مفردات الرواية نجد العديد من النقاط الهامة التي نلقي الضوء على الضوابط الأساسية التي وضعها الشارع الأقدس في هذه الرواية وغيرها لتجويز سباب الآخرين، ونقتصر ههنا على واحدة منها موكلين سائرها للبحث القادم بإذن الله تعالى.

السبّ مقدمي، ويحرم لو انتج العكس

فقد ورد في الرواية ((كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ)) وهذا المقطع نص في العلة الغائية والغرض من تشريع الحكم السابق الذي تضمن ((وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ)) الغاية أمران: ((كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ)) و((وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ)) والأول يراد به الدفاع والثاني يراد به التحصين وهو نوع من الدفاع أيضاً.

بعبارة أخرى: ان الأمر بـ((فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ...)) حسب هذه الرواية طريقي مقدمي وليس موضوعياً أي انه يراد به (كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام) فلأجل دفع طمعهم في الفساد في الإسلام جرى تشريع هذا الحكم، وهذا خاص كما هو واضح بهذه الصورة فلا تشمل الرواية سبّهم لإيجاد حالة من الصدمة فيهم كي يهتدوا! فهذا أولاً، وثانياً: ان كثرة السب إذا سببت الحيلولة دون طمعهم في الفساد في الإسلام وجبت ولكنها إذا سببت العكس حرمت!

والظاهر ان زماننا من قبيل الثاني فان العالم إذا سمعنا نسب أو نهدر الدماء اتهمنا عقلاؤه فوراً باننا عديمو المنطق وقالوا: انهم لو كانوا ذوي منطق لتصدوا للآخرين بالفكر والمنطق لا بالسباب والعنف! بل ومتى رأى أهل العالم هجومنا على الطرف الآخر بالسباب والشتائم اعتبروه المظلوم فازداد رصيده بين غالب الأمم فوراً وبشكل مذهل!.

ثم ان الطرف الآخر إذا رفض ذلك كله فنقول: لا أقل من ان ذلك محتمل!!، فلماذا لا يحتكم هؤلاء إلى علماء الاجتماع والنفس والسياسة وأهل الحل والعقد من مختلف البلاد لكي ننضم إليهم في منهجهم العنيف إذا وجدنا أهل العقل والحكمة يرون ان فوائده في باب التزاحم أكثر!

واما التحصين فهو صريح قوله عليه السلام: ((وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ)) فإذا لم يمكن تحصين الناس من أعداء العقيدة أو الشريعة إلا بالسباب فهذا ما تنطق به الرواية لا ما إذا كان هناك طريق أنفع وأجدى أحسن.. ويوضحه: ما لو ان جماعة أرادوا تأسيس مبغى ومحل للفحشاء في منطقتنا أو ارادوا تأسيس مركز لتدريب الإرهابيين مثلاً فإذا أمكن دفعهم عن ذلك بمجرد سبابهم فان العقلاء يرون السباب حينئذٍ مبرراً فهذا هو التحصين وهو نوع من الدفاع كما سبق.

والحاصل: ان الرواية تتكلم عن أهل الريب والبدع، سواء في العقيدة أم الشريعة وانه ((فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ...)): ((كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ)) فهذه هي العلة والعلة معمِّمة ومخصِّصة.. وللبحث صلة بإذن الله تعالى

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

..................................................
(1) سورة الأنعام: آية 108.
(2) الدرس (296) بتصرف.
(3) الدرس (297).
(4) الدرس (298).
(5) سورة البقرة: آية 194.
(6) علي بن إبراهيم بن هاشم القمي، تفسير القمي، مؤسسة دار الكتاب – قم، 1404هـ، ج2 ص183.
(7) نهج البلاغة: الخطبة 184.
(8) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مكتبة آية الله المرعشي – قم، 1404هـ، ج16 ص135.
(9) ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، مكتبة آية الله المرعشي النجفي – قم، 1404هـ، ج16 ص135-136.
(10) نهج البلاغة، حكمة (421).
(11) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص275.
(12) وسيأتي الحديث مستقلاً عن ((فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ)) و((بَاهِتُوهُمْ)).
(13) وسيأتي تفصيل هذه النقطة لاحقاً بإذن الله تعالى.
(14) الدرس (298)
(15) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، 1403هـ، ج2 ص469.
(16) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1404هـ، ص237.
(17) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1404هـ، ص237.
(18) الدرس (298).
(19) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى – مشهد المقدسة، 1403هـ، ج2 ص469.
(20) سورة البقرة: آية 194.
(21) الدرس (298).
(22) الرئاسة.
(23) الشيخ الطوسي، الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ج1 ص192.
(24) الشيخ الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية، الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية – طهران، ج4 ص45.
(25) المحقق الحلي، المختصر النافع في فقه الإمامية، قسم الدراسات الإسلامية في مؤسسة البعثة – طهران، ج1 ص126.
(26) الشيخ محمد حسن النجفي الجواهري، جواهر الكلام، دار إحياء التراث العربي – بيروت، ج11 ص405.
(27) السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي، العروة الوثقى - جماعة المدرسین، مؤسسة النشر الإسلامي – قم، 1417هـ، ج1 ص22.
(28) أي تبديل الوقف.
(29) المصدر نفسه: ج6 ص392.
(30) السيد محمد صادق الروحاني، فقه الصادق، مؤسسة دار الكتاب – قم، ط3، 1413هـ، ج16 ص159.
(31) السيد محمد الحسيني الشيرازي، الفقه/ حول السنة المطهرة، ط3 بالتعاون مع مؤسسة المجتبى للتحقيق والنشر – كربلاء، ج111، ص66.
(32) المصدر نفسه: ص67.
(33) الدرس (297).
(34) سورة النحل: آية 125.
(35) بالألوف أو بعشرات الألوف فقط.
(36) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية – طهران، ج2 ص375.

اضف تعليق