q
الساسة يعيشون في قصورهم الشبيهة بالسجون، والشعب ما يزال في طور البحث عن مخرج للهروب من السجن الكبير المسمى اختصاراً المحاصصة السياسية، لم تجد القوى السياسية مخرجاً للهروب من الشعب، ولم يجد الشعب مخرجاً للخلاص من سجونهم، وكأن أحدهما يعتقل الآخر إلى أن تحين لحظة الهزيمة لأحد الطرفين...

جسر الجمهورية يشبه جسور بغداد الأخرى، فهو يقع على نهر دجلة ليربط بين ضفتي النهر، (الكرخ والرصافة)، يسهم في تخفيف الزحامات المرورية ويمثل مدخلاً ومخرجاً في آن واحد، هو المدخل للرصافة للقادمين من جهة الكرخ، وهو المخرج منها (الرصافة) في حال قررت الذهاب إلى الكرخ. جسر طبيعي وجميل أيضاً.

من وظائف الجسر في الظروف الطبيعية أن يكون وسيلة للعبور، ليس العبور إلى الضفة الأخرى فحسب، بل الانتقال من حال إلى حال مختلف، في الحروب تتسابق الجيوش من أجل الاستيلاء على أكبر عدد منها، فالنهر الذي تُبْنى عليه هو السور المقلوب نحو أعماق الأرض، والجسر هو بوابة اختراق السور، لهذا اكتسب أهميته الاستراتيجية خلال الحرب.

أما في وقت السلم يتحول الجسر إلى موقع لتجمع العشاق يلتقطون الصور مع الطيور التي تعيش في الزوايا التي يخلقها هذا البناء البديع، وتلك الحالة نجدها دائماً على جسر الجادرية الملاصق لجامعتي النهرين وبغداد، هنا تجد العلاقة المتينة بين العشاق أنفسهم، وعلاقتهم مجتمعين مع الطيور والحياة بشكل عام، تعبر السيارات بالاتجاهين بشكل سلس، ولا توجد حرب للسيطرة على الجسر أو محاولات لتفجيره.

حالة السلام التي يعيشها جسر الجادرية جعلته موضع حسد بالنسبة لأخيه جسر الجمهورية، هذا الأخير يعاني من تشوهات تعرض لها منذ عام 2019 وحتى الآن، حياته بلا استقرار، الرصاص يتطاير عليه من اتجاهات مختلفة، والمولوتوف يتفجر فوق ظهره، والنار تحرق جلده الإسفلتي، بينما لا تغادره الكتل الكونكريتية الثقيلة والبوابات الحديدية الضخمة.

بالنسبة للسلطة السياسية يمثل الجمهورية نقطة استراتيجية في حربها ضد الشعب، أقامت ورشة بناء كبيرة تجري فوق أرضيته المتهالكة، بوابات حديدية ضخمة، وحواجز اسمنتية متعددة جعلت من عبوره عملية شبه مستحيلة، افتقد هويته من موقع لعبور السيارات حتى تحول إلى ما يشبه ساحة الحرب.

العديد من المواطنين والخبراء وصفوا البناء الجاري على الجسر أنه يشبه حصون الطغاة، وبعضهم وصفه بحصن الباستيل الذي سوف يسقطه الشعب مهما كان متيناً، استقدمت بعض الجهات السياسية المعارضة جرافة عملاقة لإزاحة البوابات في محاولة فاشلة لفتح الجسر للمتظاهرين القادمين من ساحة التحرير رمز الغضب الشعبي ضد الحكومة، ومركز النشاط السياسي المضاد للمنظومة السياسية الحاكمة.

ما هي الأسباب؟

تغيير هوية الجسر ما هو إلا تعبير عن التغير الذي طرأ على هوية الحكومة نفسها، إذ لم تعد حكومة خادمة للشعب كما يقرر الدستور والقوانين المنبثقة منه، إنما باتت حكومة خادمة لأقلية منتفعة من الموارد الضخمة المتأتية من بيع النفط.

عملية توظيف الحكومة لصالح الأقلية المنتفعة بالشكل الذي نراه الآن ليست جديدة، فقد بدأت منذ عام 2003، عندما تم استبدال نظام الديكتاتور صدام بنظام جديد من قبل الولايات المتحدة الأميركية، يمثل ذلك التأريخ إعادة هيكلة كبيرة لشكل الحكومة حيث اعتمدت نظام المحاصصة على أسس قومية وطائفية، لم يعد هناك عراق واحد، بل عراق السنة وعراق الشيعة وعراق الكرد.

لا يتدخل أي واحد من هذه المكونات بشؤون المكون الآخر، لكل مكون منصب سيادي، رئاسة مجلس النواب للسنة، ورئاسة الجمهورية للكرد، ورئاسة الوزراء للمكون الشيعي الأكبر، وعلى أساس هذا التقسيم الطائفي يتفاخر قادة المكونات الثلاث بعدم تدخلهم في حصة الطائفة الاخرى.

حتى في الأزمة الأخيرة بين الساسة الشيعة التي مر عليها أكثر من عام يتفاخر قادة السنة والكرد بأنهم لا يتدخلون بشؤون الشيعة، وكأننا في بلدان مختلفة لا لا علاقة لها بشؤون غيرها.

يتسلسل التقسيم المكوناتي من المناصب السيادية العليا وحتى أبسط منصب في مؤسسات الدولة العراقية، ومن يأتي عن طريق المحاصصة تكون محاسبته عملية صعبة، إن لم تكن شبه مستحيلة، فقد شهد البرلمان العراقي جملة من الاستجوابات للوزراء، إلا أن أغلبها طغى عليه التسقيط المتبادل بين الأحزاب المتحاصصة، ومحاولات الإستيلاء على المنصب، وليس من أجل تحسين الخدمة المقدمة للمواطن.

وعلى طول السنوات الماضية تجذرت فكرة حصانة المسؤولين من المحاسبة حتى وإن أخفقوا في عملهم، فما دام الحزب يحميهم، وما دام الحزب قد أبرم اتفاقاً مع الأحزاب الأخرى، فلا داعي للخوف من الإقالة حتى وإن تظاهر الملايين الساخطين على سوء الخدمة، لأن من يتظاهر ضد المحاصصة إما إرهابي أو مدفوع من قبل الدول المعادية للعراق، ولنا مثال واضح في التشويه الذي تعرضت له تظاهرات تشرين 2019.

النتيجة

القوى السياسية المهيمنة تعتقد أنها قادرة إرغام الشعب من خلال العزف على مسألة حماية المكون، بينما يتنامى الشعور الشعبي بضرورة محاصرة الأقلية المنتفعة عبر جملة من الفعاليات، بدأت منذ عقد تقريباً، حينما تناقصت المشاركة الشعبية في الانتخابات بشكل متوالي في انتخابات 2014، ثم 2018 وأقلها في عام 2021.

انخفاظ نسبة المشاركة مثل طوق الحصار الأول ضد القوى المهيمنة، أفقدها الشرعية وبعث رسالة واضحة أن الشعب لا يريدكم.

في الجهة المقابل تشدد القوى السياسية قبضتها على السلطة وتعزز نظام المحاصصة لكن بتبديل ثوبه بين سنة وأخرى تحت مسميات مختلفة، فيما يتدهور واقع المواطن نحو الأسوأ.

لا تريد القوى المهيمنة الاستجابة للرسائل الشعبية، ويتعاملون مع مقاطعة الانتخابات على أنها هزيمة للشعب، ولا يقرون بأنها علامة على الغضب وبداية لحصار شعبي سوف يطول أمده.

صحيح أن المقاطعة الانتخابية لم تصل إلى نتيجة واقعية حتى الآن، لكنها وضعت اللبنة الأولى لولادة الأغلبية الرافضة، تبلورت هوية هذه الأغلبية ونمت على شكل تظاهرات شعبية عارمة وهي مستمرة حتى يومنا هذا.

وحتى اللحظة تتعامل القوى السياسية مع الغضب الشعبي بأساليب سيئة، كلما تظاهر الشعب أكثر، زادوا من قبضتهم على السلطة، وأعادوا الحواجز الإسمنتية وعززوها بحواجز حديدية، عزلوا أنفسهم في قصور كونكريتية.

الساسة يعيشون في قصورهم الشبيهة بالسجون، والشعب ما يزال في طور البحث عن مخرج للهروب من السجن الكبير المسمى اختصاراً "المحاصصة السياسية".

لم تجد القوى السياسية مخرجاً للهروب من الشعب، ولم يجد الشعب مخرجاً للخلاص من سجونهم، وكأن أحدهما يعتقل الآخر إلى أن تحين لحظة الهزيمة لأحد الطرفين، لكن الحقيقة الثابتة أن الطغاة يهزمون والشعب ينتصر.

اضف تعليق