يبرز في فكر الامام الراحل نقده الحاد للأنظمة الثورية التي تعتمد على الانقسام والصدام، إذ يرى أنها غالبا ما تُفضي إلى اضطرابات اجتماعية وتفككاً في نسيج الأمة. بدلاً من ذلك، يدعو إلى إصلاح يقوم على أسس التفاهم والاعتدال، حيث تُعد الآليات الديمقراطية والحوار البنّاء من أهم الأدوات لتحقيق التغيير السلمي...
عقد مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية ملتقاه الفكري في مقر مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام تحت عنوان "استراتيجيات الاصلاح والتغيير السلمي في فكر الامام الشيرازي"، بمشاركة عدد من مدراء مراكز دراسات بحثية، وأكاديميين، وإعلاميين، وذلك بمناسبة الذكرى السنوية لرحيل (المرجع الديني آية الله العظمى الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي)، حيث تم استعراض رؤاه الاصلاحية التي تبرز اهمية الحوار والعدالة الاجتماعية كأساس للتجديد والتحول دون اللجوء الى العنف.
قدّم الورقة البحثية في الملتقى الباحث في المركز الاستاذ حيدر عبد الستار الاجودي، حيث ابتدأ حديثه قائلا:
"يمثل فكر آية الله العظمى الراحل السيد محمد الشيرازي (طيب الله ثراه) محطة فارقة في تاريخ الفكر الإصلاحي الإسلامي، إذ أنه استطاع أن يجسد رؤية إصلاحية ترتكز على التحول السلمي والتغيير البنّاء دون اللجوء إلى العنف، وذلك من منطلق فلسفي وروحي يعيد إلى الأذهان قيم التجديد التي ينبثق منها الإسلام الحقيقي.
فقد حرص السيد الشيرازي على الربط بين المبادئ الدينية الراسخة والتحديات المعاصرة، مقدما نموذجاً متكاملاً للإصلاح يقوم على الحوار المتواصل والنقد العقلاني للنظم القائمة، وهو ما يتجلى في محاولاته لإعادة قراءة التراث الإسلامي بعيون نقدية تستشرف مستقبل الأمة وتواكب متطلبات العصر.
إذ يرى السيد الراحل أن الإصلاح ليس مجرد تغيير شكلي أو تعديلات جزئية على النظام السياسي والاجتماعي، بل هو عملية شاملة تبدأ من الداخل الذاتي للفرد وتتسع لتشمل الأطر المؤسسية والنهج الثقافي الذي يتبعه المجتمع، في إطار رؤية تربط بين الروحانية والعقلانية والتجربة التاريخية.
وتطرق السيد في أعماله إلى معضلات عدة تتعلق بمفهوم العدالة الاجتماعية، ودور الحكومات والمؤسسات في خدمة المصلحة العامة، مشيرا إلى أن التجديد الحقيقي يجب أن يكون قائماً على أسس أخلاقية مستمدة من التعاليم الإسلامية التي تحث على التوازن والاعتدال، فهو يعتبر أن الإصلاح يجب أن يتم عبر استنباط الدروس من التاريخ الإسلامي، حيث شهدت الأمة فترات انتعاش فكرية وروحية حينما اجتمع فيها العلماء ورجال الدين والمثقفون على رؤية موحدة تقوم على مبادئ الحوار والتفاعل الإيجابي مع متغيرات الواقع، ولعل من أبرز مقومات هذا الفكر هو الاعتقاد الراسخ بأن الإنسان قادر على إصلاح ذاته أولاً قبل أن يسعى إلى إصلاح المجتمع، وهو ما يستدعي عملية تنمية داخلية ترتكز على التربية الروحية والعقلانية في آن واحد.
وفي هذا السياق، يؤكد على أن النهوض الفكري والثقافي لا يتحقق إلا عندما تتضافر الجهود لإعادة النظر في المعارف والقيم المتوارثة وتقديمها بصورة تفاعلية مع الواقع المتغير.
ويبرز في فكر الامام الراحل نقده الحاد للأنظمة الثورية التي تعتمد على الانقسام والصدام، إذ يرى أنها غالبا ما تُفضي إلى اضطرابات اجتماعية وتفككاً في نسيج الأمة. بدلاً من ذلك، يدعو إلى إصلاح يقوم على أسس التفاهم والاعتدال، حيث تُعد الآليات الديمقراطية والحوار البنّاء من أهم الأدوات لتحقيق التغيير السلمي. وفي هذا الإطار، يتضح أن السيد الشيرازي لم يكن مجرد ناقد للمشكلات القائمة، بل كان يحاول رسم خارطة طريق للإصلاح تضع الإنسان في قلب العملية، وتشدد على أن كل تغيير يجب أن ينطلق من وعي ذاتي عميق يقدّر قيم الحرية والعدالة والتسامح.
كما أنه لم يقتصر على النظر إلى التجديد من منظور ديني ضيق، بل سعَى إلى دمج المعرفة العلمية والفلسفية الحديثة مع التراث الإسلامي، وهو ما يظهر جليًا في محاولاته للمقارنة بين التجارب الإصلاحية في العالم الإسلامي والغربي. فقد لاحظ أن النماذج الغربية في الإصلاح، وإن كانت تعتمد على أسس علمانية، إلا أنها تعاني في كثير من الأحيان من غياب البعد الروحي والاعتبار للأبعاد الأخلاقية في عملية صنع القرار، مما يخلق فجوة بين الإنسان والقيم التي يُفترض أن يخدمها.
ومن هنا برزت دعوته لإرساء نموذج إصلاحي هجين يجمع بين أصالة الفكر الإسلامي وروح الحداثة، نموذج يتيح للمجتمع استثمار تجاربه التاريخية والثقافية لتحقيق تغيير إيجابي يضمن استقرار العلاقات الاجتماعية والسياسية دون المساس بالقيم الثابتة. وهذا المنهج يدعو إلى ما يمكن وصفه بالمحايدة الفكرية التي تتجاوز الانقسامات التقليدية بين الحداثة والتقليد، مما يفتح آفاقاً جديدة للتفكير في كيفية استثمار الإرث الديني والثقافي في مواجهة التحديات المعاصرة.
وفي تحليل أعمق لمفاهيم الإصلاح عند السيد الشيرازي، نجد أنه يتبنى نظرة فلسفية ترتكز على فهم العلاقة بين الحرية والمسؤولية، بحيث يُعطي لكل فرد حرية التعبير والاختيار، ولكنه يشترط أن تكون هذه الحرية مصحوبة بوعي أخلاقي وروحي يدفع الفرد للمشاركة الفاعلة في صناعة التغيير دون إلحاق الضرر بالآخرين أو بالإرث الثقافي والديني للأمة. وفي هذا السياق، يشير إلى أن الإصلاح يجب أن يكون عملية تفاعلية ديناميكية تستند إلى مبدأ المشاركة الجماعية، بحيث يساهم كل فرد في المجتمع في تقديم الرؤى والأفكار البناءة التي تسهم في بناء مجتمع متماسك يسوده العدل والتسامح.
ولا يمكن إغفال الجانب الفلسفي والروحي في فكر السيد الشيرازي، الذي يعد من أبرز سماته المميزة، إذ يضع الإنسان في قلب العملية الإصلاحية ككائن يمتلك القدرة على التطور والتعلم من التجارب. فهو يربط بين مفهوم العقلانية والإيمان، معتبرا أن العقل لا يتعارض مع النصوص الدينية وإنما يكملها ويسهم في فهمها على أعمق مستوياتها، مما يتيح للإنسان أن يستخلص منها المبادئ التي تنظم حياته الشخصية والجماعية. ويعتمد في ذلك على مفهوم الحوار الداخلي والخارجي الذي يجمع بين الأصالة والحداثة، فيسعى إلى بناء جسر بين الماضي والحاضر، بين التراث الإسلامي والعلوم الحديثة. وقد أكّد هذا المنهج على ضرورة التمسك بالقيم الأخلاقية والروحية التي تؤسس للسلام الداخلي والخارجي، مما يسمح بفهم شامل للمشكلات المعاصرة وتقديم حلول عملية مبنية على التجربة والواقعية.
ومن جهة أخرى، يُظهر السيد الشيرازي حرصه على إعادة تعريف العلاقة بين السلطة والمواطن، فهو يرى أن السلطة الحقيقية تكمن في قدرة كل فرد على المشاركة الفاعلة في صنع القرار، ما يعني أن الإصلاح يجب أن يتم من خلال آليات تشاركية تضمن استماع كل صوت مهما اختلفت مواقفه. هذه الرؤية الديمقراطية تأتي لتشكل تباينا واضحا مع النماذج الثورية التي تعتمد على تركيز السلطة في يد القلة، مما يؤدي إلى انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم.
ومن هنا تنبع أهمية العمل على بناء مؤسسات حقيقية تقوم على الشفافية والمساءلة، بحيث تصبح عملية الإصلاح مسألة جماعية لا تخضع لإرادة شخصية أو جماعية ضيقة، بل هي مشروع مجتمعي شامل يشمل جميع الفئات ويتيح المجال للنمو والتطور في ظل مناخ من الاحترام المتبادل.
وإن هذه الأفكار لم تأتِ من فراغ، بل هي نتاج قراءة معمقة للواقع السياسي والاجتماعي في العالمين الإسلامي والغربي، حيث لاحظ السيد الراحل أن النماذج الغربية على الرغم من تطورها في ميادين الحرية السياسية، إلا أنها كثيراً ما تفشل في الحفاظ على البعد الروحي والإنساني في العلاقة بين الدولة والمواطن، ما يستدعي إعادة النظر في الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي المعاصر.
وبينما تتعاظم أهمية هذه الأفكار في ظل الذكرى السنوية لوفاة السيد محمد الشيرازي، نجد أن إرثه الفكري يشكل دعوة للتأمل والبحث في كيفية استثمار هذه الرؤية الإصلاحية في مواجهة التحديات المعاصرة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية، فإن استحضار التجارب التاريخية والاعتماد على الفكر العقلاني في التعامل مع القضايا الراهنة يعد من أهم المحاور التي يمكن من خلالها تحقيق تغيير إيجابي يعيد للمجتمع اتزانه وروحه التعاونية، مما يستدعي من كافة شرائح المجتمع –من أكاديميين ورجال دين ومثقفين– العمل على تطبيق مبادئه في مختلف المجالات، وهو ما يتطلب جهداً جماعياً لتجسيد تلك المبادئ في واقع ملموس يحترم التاريخ ويستشرف المستقبل.
وفي ضوء هذه الورقة البحثية، تتجلى الأسئلة الجوهرية التي يمكن أن تشكل محوراً للنقاش العلمي:
السؤال الاول/ كيف يمكن استلهام الدروس والعبر من سيرة وتجارب وافكار الامام الشيرازي في الاصلاح لتطوير نموذج اصلاحي متكامل يضمن استمرارية التطور والتجديد في مواجهة متغيرات العصر؟.
السؤال الثاني/ كيف يمكن للركائز التي استند اليها الامام الشيرازي في دعوته للتغيير اللاعنفي ان تترجم الى ممارسات حركية وسياسات مؤسساتية تحقق النهضة والتنمية والاستقرار في المجتمعات؟.
المداخلات
عالم مجدد جمع بين التنظير والعمل
- الاستاذ حسن كاظم السباعي/ كاتب وباحث:
عند الحديث عن الإمام المجدد والمصلح السيد محمد الحسيني الشيرازي، يتجلى لنا تميزه البارز ليس فقط في حقل العلم والفقه، بل في مجالات الحياة كافة، إذ لم يكتفِ بالدروس والتحقيقات في أروقة الحوزة، بل ترجم فكره إلى حركة إصلاحية شاملة، تفاعلت مع المجتمع والسياسة والفكر، وجعلت من العلم منطلقا للتغيير العملي.
لقد أضاف الإمام الشيرازي لتكوينه العلمي الواسع خبرة ميدانية ثرية، أفرزت أطروحات عميقة ومتميزة، كانت حصيلة تفاعله مع الواقع ومعاناة الأمة، ومن أجل استلهام هذه التجربة الفريدة لا بد من فهم سيرة الإمام كما عاشها هو: لا علما جامدا بين جدران، بل معرفة متحركة تثمر فعلا وتغييرا.
كما أشار أمير المؤمنين (عليه السلام): "في التجارب علم مستأنف"، فإن من خاض الواقع وواجه تعقيداته يملك علما حيا قادرا على المعالجة الفعلية لا التنظيرية فقط، ومن النماذج البارزة في حياة الإمام الشيرازي موقفه من العمليات الانتحارية، فبينما اكتفى بعض الفقهاء بالحكم الفقهي التقليدي، انطلق الإمام من ميدان الملاحظة الدقيقة ومتابعة الواقع ليعيد النظر ويصل إلى فتوى صريحة بتحريم هذا النوع من العمليات، مهما كانت أهدافها، لما لها من مضار مستقبلية تفوق المكاسب الظرفية.
وقد بدا لي ذلك من خلال تجربتي الشخصية في تتبع رأيه حول عاشوراء، إذ وجدت في كتبه الفقهية والتفسيرية إشارات ثمينة، لم تكن ظاهرة في كتب الفكر والتاريخ فقط، ما يعكس النظرة الشمولية والجسد المتكامل في مؤلفاته، نفس الأمر ينطبق على نظرية اللاعنف، التي ناقشها الإمام من زوايا متعددة، وضمن مجالات متنوعة، تحتاج اليوم إلى إعادة بلورة وتأطير لتلائم متطلبات العصر الحديث وتستكمل من حيث انتهى هو دون أن نفقد جوهرها أو حيويتها.
لا يمكن فهم فكر الإمام الشيرازي إلا عبر الولوج العميق في تراثه والغوص في مجلداته، حيث أخفى -عن قصد– دررا من الأفكار، بانتظار الجيل المناسب الذي يستخرجها في الزمن المناسب، لم يكن ذلك تشتتا كما يظن البعض، بل هو توزيع استراتيجي لعناصر الفكر، يظهر الإمام المجدد كعالم سبق عصره، وترك لنا أبوابا مشرعة لكل من يريد أن ينهل من هذا البحر المتجدد من العلم والعمل والنهج الإنساني.
رائد الفكر الرسالي واللاعنف العملي
- الاستاذ محمد جواد علي- كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:
واجه السيد المرجع محمد الشيرازي (رحمه الله) في بدايات انطلاقته الفكرية والإصلاحية صنوف العنف والقسوة، لا سيما في الخمسينيات والستينيات، وهي فترة اتسمت بالاضطراب السياسي والاجتماعي في العراق. وبرغم الظروف القاسية من قتل وخطف وارهاب ممنهج، ظل سماحته متمسكا بخطاب متسامح، وبأفكار ترتكز على الأخلاق والعفو، مستمدا منهجه من سيرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام).
ولذلك أجد أن الحديث عن اللاعنف ينبغي أن يوجه أساسا إلى من أنتجوا العنف وروجوا له، لا إلى أولئك الذين كانوا ضحاياه، فالسيد الشيرازي لم يكن منظرا سلميا فحسب، بل كان مجسدا حيا للفكر اللاعنفي، متحملا في سبيله المشاق والآلام.
فقد كان (رضوان الله عليه) أول من يطبق ما يدعو إليه من قيم أخلاقية، وفكرية، وثقافية، ولم يكن يطرح شعارات فارغة، بل عايش أفكاره ومارسها حتى في أشد الظروف، وقد أتذكر واقعة وقعت في أواخر الثمانينيات، عندما قال له أحد الحاضرين: يا سيدنا، لا يسمح لنا بالكتابة أو التعبير بحرية. فرد السيد من بعيد بإشارة حاسمة قائلا: "اكتب"، وكأنه يقول: لا تنتظر الإذن من الأنظمة القمعية كي تعبر عن فكرك، بل بادر، وافرض وجودك بالكلمة والحق، حتى وإن كانت التحديات جسام، لم يكن السيد ينتظر دعما من سلطة أو قرارا رسميا ليمارس رسالته. كان يعمل بجرأة، وينشر أفكاره، ويؤسس المؤسسات، في وقت كان فيه هذا النوع من النشاط محفوفا بالمخاطر.
لذا نحن مدعوون اليوم إلى أن نتعلم من تجربة السيد المرجع، لا بأن نقلده تقليدا أعمى، بل بأن نستوعب منهجه، ونقتدي بثباته، ونبادر كما بادر، حتى لو كان الطريق محفوفا بالتحديات. فالحق يبقى حقا، وإن كرهه أكثر الناس.
تكاملية البناء المجتمعي والمؤسساتي
- د. خالد الاسدي، استاذ في جامعة كربلاء، وباحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
من خلال مطالعتي لبعض أفكار المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي (رضوان الله عليه)، وجدت أنه يركز على محورين جوهريين في مشروعه الفكري والإصلاحي:
أولا، بناء الإنسان والمجتمع، إذ يرى أن إصلاح الإنسان هو الخطوة الأولى نحو التغيير الشامل. وثانيا، بناء المؤسسات داخل الدولة لا الدولة بمعناها التقليدي السلطوي، بل الدولة التي تقوم على ركائز مؤسسية حقيقية تدار بكفاءة وتشاركية.
يؤمن السيد الشيرازي بأن بناء مؤسسات قوية وفاعلة هو الأساس المتين الذي يمكن أن تنهض من خلاله الدولة، ولذلك ركز على فكرة التكاملية المؤسسية، التي تقوم على اللامركزية في اتخاذ القرار، ورفض الاستبداد أو التسلط في الرأي. فالمركزية المفرطة برأيه تؤدي إلى الاستبداد، في حين أن الشورى ومشاركة الأفكار هي أساس الإدارة الناجحة.
ومن الأفكار اللافتة أيضا، تأكيده على ما يمكن تسميته بـ"تكميلية السلطة"، أي أن من يتولى منصبا أو مسؤولية لا يبدأ من الصفر أو يهدم ما أنجزه من سبقه، بل يكمل البناء. وهذا على النقيض من مناهج الهدم والتقويض التي تعيد كل مشروع إلى نقطة البداية، فالسيد الشيرازي يرى أن التراكم والتكامل أساس للتطور الحقيقي، كما كان (رضوان الله عليه) من الداعين إلى تجنب المواجهات المباشرة، مؤمنا بأن الإصلاح الحقيقي لا يتم بالصدام بل بالحوار وبالعمل المتواصل لبناء بدائل عملية.
وفي جوهر مشروعه، تبرز فكرة إسلامية الفكر والبناء؛ إذ كان يرى أن الإسلام يشكل الإطار الأشمل لكل عمليات التنمية وبناء الدولة والإنسان معا. فكل مؤسسة وكل مشروع برأيه ينبغي أن ينطلق من منظومة القيم الإسلامية، ويستند السيد الشيرازي في كثير من أفكاره إلى سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، خصوصا في ما يتعلق ببناء المجتمع العادل، وإدارة المؤسسات بروح التكليف لا التسلط، والعمل بروح الشورى لا الانفراد. هذه الرؤية الشاملة والمتكاملة تجعل من فكر السيد الشيرازي مشروعا متجددا يمكن البناء عليه في مختلف مراحل التحول المجتمعي.
تعزيز العمل المؤسساتي وتأثيره على الأجيال الناشئة
- الاستاذ صلاح الجشعمي، قانون وناشط حقوقي:
تذكرني الورقة التي استعرضت كتابات السيد الشيرازي (رحمه الله) بمرحلة امتدت لثلاثين إلى أربعين سنة، حينما بدأت تلك الكتابات تلفت انتباهنا عقب أحداث 1991 وما تبعها من دمار في كربلاء، كانت مدرسة السليمية هي الجهة التي جذبت اهتمامنا، حيث تم استرجاع الكتب من مرقد الحر وكانت الكتب متوفرة باللغة العربية وقد أغلق البعض الأبواب أمام انتشارها، كنا نتسلل ليلاً لنلتقط لمحات من تلك الكتابات؛ فقد كانت كراساته ومنشوراته، مثل "الرسالة الإسلامية"، بمثابة نافذة نطل من خلالها على أفكاره، رغم أن جيلنا لم يعش في حقبة السيد بنفسه، إلا أن تأثيره كان واضحا على الأجيال التي سبقت، خاصة أولئك الذين تربوا في كربلاء وتعلموا من الكتب المتوفرة في الحوزة الزينبية ومن خلال ما نقل عن أفكاره المتمثلة في الحركات المؤسساتية.
كان للسيد الشيرازي رسالة واضحة؛ فهو كان يحث المتدينين على العمل المؤسساتي المتماسك، فكل وفق ميوله ومواهبه: إن أعجبت بالجانب الاقتصادي، فأنشئ مؤسسة اقتصادية؛ وإن كان الشغف في مجال القانون، فأنشئ مؤسسة قانونية. وقد جاء ذلك في إطار تركيزه على الجانب العملي وعدم الاكتراث بالنتائج الآنية، إذ كان يؤكد أن الثمار قد يظهر تأثيرها بعد خمسين سنة. وبذلك، دعا إلى زراعة الأفكار والعمل على إرساء الأسس التي تثمر على المدى الطويل، بعيدا عن التفكير المتسرع الذي يتطلع إلى نتائج سريعة.
تجلى تأثير السيد الشيرازي أيضا في تأثيره المبكر على الأطفال الذين أصبحوا فيما بعد قادة المستقبل؛ فقد كانت كتبه ورسائله طريقا لتشكيل الوعي المؤسساتي وتنمية روح المبادرة لديهم، وإن هذا التأثير طويل الأمد يعد من أهم إرثه التي لازالت تؤثر في الأجيال، مؤكدا على أهمية العمل الجاد لبناء مجتمع متماسك قائم على القيم الإسلامية وروح الشورى والمشاركة.
العمل الإصلاحي حركية تنظيمية شاملة
- الشيخ مرتضى معاش:
اود أولا التأكيد على نقطتين أساسيتين تتعلقان بطرح اللاعنف في فكر السيد الشيرازي، فهو يدعو إلى قراءة هذه الأفكار بعين الاعتبار، إذ يواجه البعض استنكارا ومحاولات للتشكيك في أهمية اللاعنف، وهو ما يستحق إعادة النظر فيه من منظور أعمق.
أولا: اللاعنف كتعريف حقيقي للإسلام، حيث السيد الشيرازي كان يركز على مواجهة المرضين الأساسيين اللذين ابتلت بهما الأمة؛ الاستبداد والعنف. من خلال تبنيه لمبدأ اللاعنف، سعى إلى إيصال رسالة واضحة مفادها أن اللاعنف هو من صميم الدين الإسلامي؛ بل إن صور العنف التي تنسب إلى الإسلام هي تشويه للصورة الحقيقية لدين السلام والرحمة، كما أن الإسلام دين ينادي بالسلام والتسامح، وأن النصوص القرآنية والأمثلة النبوية تؤكد ذلك، وأن التصور السائد لدى الكثيرين عن الإسلام كدين عنيف ليس إلا صورة نمطية مغلوطة تعيق استقبال رسالة الإسلام بالطريقة الصحيحة.
ثانيا: العنف على أنه طريق لا يؤدي إلى نتائج جيدة، فالاعتماد على العنف في النضال والمقاومة حسب التجارب التاريخية تظهر أن العنف المسلح واللفظي يقود إلى نتائج سلبية وآثار مدمرة على المجتمعات، وأن العنف لا ينتج إلا خسائر فادحة للإنسان والمجتمع، سواء من ناحية النفوس أو من ناحية البنى المؤسسية التي تعاني من تأثيراته المدمرة، كما أن المشروع الذي كان يحمله السيد الشيرازي لم يكن موجهاً نحو السلطة، بل كان مشروع نهضة إصلاحية شاملة تعتمد على المبادئ القرآنية التي تحث على الحرية والتعددية والشورى.
ثالثا: مشروع النهضة الإصلاحية والمسار العملي للتغيير، فالمشروع الإصلاحي الذي دعا إليه السيد الشيرازي كان يتمحور حول أسس طويلة المدى، لا تقتصر على تحقيق نتائج فورية أو مادية، وإنما ترتكز على بناء الإنسان والمجتمع على أسس روحية وأخلاقية، وأن السيد الشيرازي كان ينظر إلى العمل الإصلاحي كعملية حركية تنظيمية شاملة تثري حياة الفرد والمجتمع، فكان يحث المتدين على الاستثمار في العمل المؤسساتي، سواء في ميادين الاقتصاد أو القانون أو المجالات الأخرى، وأن النتائج قد تظهر بعد عدة عقود وليست فورية.
وقد جسد السيد الشيرازي مبادئه في حياته الشخصية؛ فقد كان متواضعا وزاهدا، يفضل أن يكون له دور فعال في تأسيس المؤسسات الخيرية والتربوية والثقافية، دون الاهتمام بالمجد أو السلطة، مما يدعونا الى ضرورة الاستفادة من تجربة السيد الشيرازي ونقل هذه الأفكار إلى الحياة اليومية، خصوصا في تربية الأطفال والمجتمع وتحفيز الأجيال الناشئة على التفكير الجماعي والمشاركة في بناء مجتمع يقوم على أسس الإصلاح والتجديد، وتجنب الانخراط في صراعات السلطة التي تعوق النهضة الحقيقية، حيث يجب أن يكون الهدف الأسمى هو إصلاح الأمة على المدى الطويل وليس مجرد السيطرة المؤقتة.
فإن رؤية السيد الشيرازي تعد دعوة صادقة للعودة إلى مبادئ السلام والتعايش التي رسمها الإسلام، إذ كانت رؤيته للنضال قائمة على التمسك بالقيم الإنسانية والقرآنية بعيدا عن أي إساءة لروح الدين، إنها دعوة للإصلاح الشامل في كل جوانب الحياة، من البنية المؤسسية إلى تنشئة الأجيال القادمة على أسس الحرية والتسامح وروح الشورى.
التأني والتماسك المجتمعي
- د. لطيف القصاب، كاتب واكاديمي:
من واقع تجربتي الشخصية عقب الانتفاضة، حيث كانت تلك الفترة مليئة بحماسة التجديد والثورة الفكرية، وكانت مكتبة السليمية وما تحتويه من كتابات ثورية تساهم في تشكيل وعي الناس وتصويب مسارات الفكر الديني، إن الكتب التي كانت تتداول في تلك الأيام لم تقتصر على الجانب النظري بل فتحت حواس العقل والروح لتستشعر قيم الأخلاق والضمير الواعي وتدفع الإنسان لتفضيل المصلحة العامة على الفردية، كانت تلك الكتب نقطة انطلاق لتماسكنا الروحي والمعنوي، حيث أمدتنا بمعارف عميقة في أصول الدين والفقه والرسائل العملية، مما زاد من فراسة الإنسان لنفسه ولمحيطه، وأسهم في ترسيخ قيم الرحمة والتواضع في التعامل مع الآخرين، وقد ساهمت هذه التجربة الفكرية في تعزيز شعورنا بالانتماء الإيماني.
ومن النقاط التي أضحت واضحة مع مرور الزمن، هي كيفية تجسيد السيد الشيرازي لأفكاره على أرض الواقع، لم يقتصر دوره على الكتابة والنظرية، بل كان ميدان التطبيق العملي حيث كان يحث المتدينين على أن ينسوا مجرد تحصل المعرفة النظرية، بل أن يعملوا على تأسيس المؤسسات التي تسهم في تحسين واقع المجتمع. ففي إطار رؤيته الإصلاحية، لم يهتم السيد الشيرازي بإسقاط شعارات تفضي سريعا إلى السلطة أو المكاسب الدنيوية، بل كان دائما منشدا إلى أنسنة المجتمع، أي إدخال روح الإنسانية والرحمة في كل المؤسسات والعمليات الاجتماعية.
كان من الصعب على بعض المناوئين الجمع بين هويتنا الحسينية واللطافة الروحية التي دعا إليها السيد الشيرازي. ففي كثير من الأحيان، كان يساء فهم اللاعنف على أنه صفة تخلف عن روح الهوية الحسينية، بينما كان المقصود منه في واقع الأمر استبعاد العنف المفرط الذي يؤدي إلى استبداد الأدوار وقمع الحريات، دون المساس بالقيم الجوهرية التي تجعل من الهوية الحسينية إطارا للتواصل والتعايش الرفيع، فقد بين السيد الشيرازي أن دعوته لللاعنف ترتكز على تجاوز العنف المادي واللفظي الذي لا يؤدي إلا إلى نتائج مخزية على المستوى الإجتماعي والإنساني.
إن ما يجب أن نستفيد منه اليوم هو تلك التجربة الإنسانية المتكاملة التي تراكمت عبر السنوات؛ فهي دليل حي على أن الإصلاح الحقيقي لا يقاس بنتائج آنية وسريعة، بل بمسيرة طويلة من العمل المتواصل الذي يجمع بين التجديد الفكري والتنفيذ العملي، وبين الحفاظ على الهوية الحسينية والالتزام باللاعنف.
أيقونة الإنسانية والإصلاح الثقافي
- الاستاذ علي حسين عبيد/ كاتب في شبكة النبأ المعلوماتية:
يمكن اختصار وصف شخصية الإمام الشيرازي (رحمه الله) بما يجسد قيم الإنسانية والإصلاح في آنٍ واحد، فقد كان رجلا محبوبا من الله سبحانه وتعالى، وتركت شخصيته أثرا كبيرا في مسار التاريخ الفكري والديني، لم يكن الإمام الشيرازي مجرد مفكر أو داعية فحسب، بل كان قدوة ناجحة جمعت بين الأفكار الكبيرة والتطبيق العملي على أرض الواقع.
في سجلاته المكتوبة والمحاضرات الصوتية والمرئية، ظلت أفكاره الثاقبة موثقة في كتب ومجلدات تناولت شتى المجالات، فقد نثر ثقافة الكتاب والقراءة وفي كل مكان حلت تلك الثقافة التي زرعها، سواء كان ذلك في المدارس الخيرية أو الحسينيات، إذ كان يشجع الناس على الكتابة والتأليف والتفكير الحر، ومما يبرز ذلك تأثيره العميق، ومن القصص الملهمة التي تبرز سمو أخلاقه، أن وفدًا من رجال الكويت جاء لزيارة الإمام الشيرازي في مناسبة أو عيد، وكان من بينهم شخص يحمل بعض المشاعر السلبية تجاهه إلا أنه وبفضل سمو شخصيته وسحر أخلاقه أخذ الجميع يقبلون على توديعه بحفاوة؛ حتى ذلك الرجل الحاقد استرق النظر عندما شهد كيفية تعامله البسيط مع الجميع، مما حول مشاعر الاستياء إلى احترام وإعجاب. هذه الحكاية تجسد كيف أن حضور الإمام الشيرازي كان كافياً ليزرع ثقافة التسامح والإخاء وينثر روح الإنسانية في كل من حوله، فقد كان يمثل الإمام الشيرازي نموذجا فريدا تقتدى به في التجديد والإصلاح الثقافي والديني، فهو بذلك أسهم في صنع تغيير حقيقي في المجتمعات التي تلمسها مبادئه وأخلاقه السامية.
فلسفة توازن بين الهدم والبناء
- الاستاذ باسم الزيدي، مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
يُعد منهج الإمام الشيرازي (رحمه الله) من أبرز النماذج الإصلاحية المستندة إلى فلسفة هدم وبناء متوازنة، بحيث يفرق بوضوح بين عمليتي الإصلاح والتغيير وفقا لرؤيته، فإن عملية الإصلاح تعتمد على هدم وبناء أجزاء محددة من البنى القائمة، بحيث تكون أكثر توافقا مع قدرات الفرد والمجتمع، بينما تتطلب عملية التغيير-الأكثر عمقا وتعقيدا- هدما كليا وبناء جديدا، وهذا التمييز يعتبر حجر الزاوية في فهمه للمسار الإصلاحي السلمي، الذي ينعش الفرد والمجتمع من خلال خطوات تدريجية ومتأنية.
يؤمن الإمام الشيرازي بأن لكل كيان صفاته الخاصة؛ فالفرد بمفرده يمكن أن يشكل أمة قائمة بذاتها، مستندا إلى مثال النبي إبراهيم عليه السلام، بينما يحتاج المجتمع إلى عملية تنظيم داخلية تبدأ من أبسط الحركات وتصعد إلى مستويات مؤسساتية متقدمة ولتحقيق ذلك، دعا إلى بناء مؤسسات قائمة على مبادئ الشورى والتعددية، كبديل واضح للاستبداد والتحكم الأحادي، فقد كان يدرك أن قلة الوعي والأنظمة الاستبدادية تعرقل مسيرة الإصلاح، فيستدعي الأمر العمل على رفع مستوى الوعي الثقافي والديني، من خلال تنظيم المؤسسات الدينية والثقافية والتعليمية التي تؤسس لعمليات الإصلاح السلمي.
ولم يقتصر عمل الإمام الشيرازي على التأمل النظري، بل كان يحرص في كتاباته ومحاضراته على ملء الفراغ الفكري الذي كان يعاني منه المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت، ولم يكن يسعى للمنافسة أو إبراز مكانته كعالم أو مصلح، بل كان يعمل بصمت على تزويد الأمة بالمصادر والمعارف الأساسية التي تستند إليها أفكاره، حيث اعتمد بشكل أساسي على القرآن الكريم وتراث أهل البيت، بالإضافة إلى الاستشهاد بالمصادر الغربية والعلوم الحديثة المتاحة آنذاك.
من خلال هذا النهج المتوازن استطاع الإمام الشيرازي أن يرسم خارطة طريق للتغيير تفضي إلى إصلاحات متدرجة على مستوى الفرد والمجتمع، مع التأكيد على ضرورة التمييز بين الإصلاح الفردي والذي يمكن تطبيقه سريعا، وبين التغيير المجتمعي الشامل الذي يحتاج إلى صبر وتدرج، وقد كان لهذا التمييز أثره الواضح في تعزيز قيم الشورى والتنظيم والتعددية كبدائل حقيقية للاستبداد والجهل، مما ساهم في دفع الأمة نحو مسار أكثر إنسانية وسلاما.
اللاعنف والحرية إرث لبناء حضارة متسامية
- الاستاذ احمد جويد، مدير مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات:
من الجميل أن نشهد تقدير الأمم لعلمائها واستحضار سيرهم وإنجازاتهم وجهادهم الفكري والديني، كما يتجلى ذلك في ذكرى الإمام الشيرازي (رحمه الله) الذي ترك بصمة عظيمة في مسار الفكر الإسلامي والحقوقي، وفي كلمة ألقاها مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات بمناسبة الذكرى السادسة عشر لرحيله وتزامنها مع وقت إعلان الانتصار على داعش، أكد البيان على عدد من النقاط الجوهرية التي تبرز منهج الإمام الشيرازي وأهميته في ترسيخ قيم اللاعنف والحرية في الإسلام.
اشار الإمام الشيرازي في كتاباته، إلى أن الإسلام يؤكد على احترام الإنسان في محله الإنساني، دون التمييز بين لون أو لغة أو قومية أو دين أو رأي، فالإسلام بما يحويه من قيم سامية، يوجهنا إلى تقدير كل إنسان، حتى وإن كان غير مسلم، لما فيه من إنسانية عظيمة، ويمتد هذا المفهوم ليشمل احترام الإنسان لذاته، مما يتيح المجال لبناء مجتمع يسوده الاحترام المتبادل والسلام.
أكد الإمام الشيرازي أن النهج الإسلامي الأصيل يستند إلى مبادئ الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) من خلال السلام والحوار بدلا من الفتوحات والعنف. فقد استشهد بآيات قرآنية مثل: "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" وآية: "وَإِنْ جَنَحُوا لِلسِّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا" ليُبرز أن الأمن والاستقرار الاجتماعي هما الأساس لبناء مجتمع متماسك ومتقدم، وأن الحرب إن نشبت تصبح مجرد بوتقة للدمار والرذائل تبهت فيها القيم الأصيلة.
كان الإمام الشيرازي رائدا في التأكيد على أن الدولة الإسلامية لا يمكن أن تقوم دون انتهاج مبدأ اللاعنف، فالرؤية الحقوقية التي طرحها لم تقتصر على التعامل بين الأفراد، بل امتدت لتشمل التعامل بين المؤسسات والدولة نفسها، فقد أدرك أن استخدام العنف كنهج في التعامل مع الخلافات يؤدي إلى تقليد أساليب الأحزاب والحركات السياسية التي لا تختلف عن غيرها في أساليبها القمعية؛ مما يفسر عزوف الجماهير عن تأييدها في مشاريع بناء الدولة الإسلامية.
وفق رؤية الإمام الشيرازي، تشكل الحرية جزءا لا يتجزأ من صميم الدين الإسلامي، إذ لا يمكن أن تستقيم الحياة الاجتماعية والسياسية بدونها، فقد أكد على أن الحرية والشورى معا هما الطريق إلى تقدم المجتمع، وأن القبول بالتعددية والتعامل بروح الحوار هو السبيل الوحيد لتجاوز الانقسامات وعدم الاستسلام لمبادئ الاستبداد التي تقيد الحركة الإصلاحية.
وقد أسس الإمام الشيرازي رؤيته على تقرير الحقوق والحريات في إطار القانون، وعلى ضرورة تحقيق المساواة بين المواطنين والمشاركة الفاعلة في شتى مناحي الحياة المدنية والسياسية، وكان يرى أن حب الوطن والتفاني من أجله يمثلان ركيزة لا غنى عنها لتأسيس مجتمع متماسك يسهم في دفع عجلة التنمية والتكامل الاجتماعي والثقافي.
إن إرث الإمام الشيرازي ما زال يشكل مرجعا حيويا لفهم المسار الإصلاحي الإسلامي، إذ يقدم نموذجا يلهمنا لاستنهاض قيم السلام والحرية واللاعنف كأساس لتقدم الأمة، إن استحضار ذكراه وما عرضه من رؤى عن احترام الإنسان وتأكيد أن السلم هو السبيل الأمثل للنهوض بالمجتمع، يظل رسالة خالدة يجب أن نتبناها في ظل تحديات العصر.
التكامل النفسي والأسري
- الاستاذ حسين علي/ مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:
يرتكز منهج الإمام الشيرازي (رحمه الله) على ركيزتين أساسيتين تعدان العمود الفقري لتركيبة إصلاحية شاملة؛ إذ يرى أن التطوير والتحول الإصلاحي يبدأ من الأبعاد النفسية للفرد وينعكس فيما بعد على نسيج الأسرة والمجتمع.
يرى الإمام الشيرازي أن لكل إنسان مكانته وتأثيره النفسي، إذ إن الفرد الذي يتربى في بيئة صحية تحرره من عوامل الأمراض النفسية يتمكن من اتباع نهج اللاعنف في حياته، فحتى صوته الذي كان ينقل رسالة الطمأنينة والأمان كان له بالغ الأثر على المستمعين؛ إذ يؤكد أحد الأصدقاء الذي يستمع لمحاضراته أثناء النوم أن لصوت الإمام جانبا نفسيا يشعر الإنسان بالأمان والسكينة، مما يعزز لديه قيم السلام والإيجابية.
ينتقل الفكر الشيرازي بعد ذلك إلى إطار الأسرة؛ حيث يرى أن البيئة الأسرية السليمة تعتبر حجر الأساس لتنشئة جيل قادر على تبني قيم اللاعنف والتغيير الإيجابي، في هذه البيئة يتعلم الطفل منذ صغره كيفية التعامل مع المواقف الاجتماعية والإنسانية من خلال القدوة والقيم التي يغرسها الأبناء؛ فلو أن الطفل، عند مواجهة موقف تعليمي سواء كان تربويا إيجابيا كالتقدير والإطراء أو سلبيا مثل الضرب، كان يتلقى رسالة تصقل لديه مشاعر الاحترام والرحمة، فإن ذلك يسهم في بناء وعي مجتمعي راسخ ينبع من روح اللاعنف والفكر البناء.
القدوة الميدانية والإرث الإصلاحي العميق
- الاستاذ محمد علاء الصافي/ مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:
تعد شخصية الإمام الشيرازي (رحمه الله) من الشخصيات التي انبثقت منها موجات تغيير حقيقية في المجتمع؛ فقد كان نموذجا ميدانيا نشطا استطاع أن يكسر صورة العالم الديني التقليدي الذي يقتصر دوره على الحوزات والمدارس، ففي زمن كان ينظر فيه إلى المرجع الديني كرجل بعيد عن الحياة الميدانية، استطاع الإمام الشيرازي أن يظهر كقائد ميداني نشط يفيض بالحيوية وينقل الطاقة إلى الشباب، مما جعل تأثيره يتجاوز مجرد الحدود النظرية ليتجلى في ممارسات وسلوكيات عملية تلامس حياة الناس.
لم يكن الإمام الشيرازي مجرد شخصية نظرية بل كان رمزا للعمل الميداني العملي، كان يعمل على تطبيق مبادئ التغيير اللاعنفي بطريقة سلسة ومباشرة؛ إذ لم يعرف عنه التضخيم أو استحضار هالة تقليدية كما قد يحدث عند بعض العلماء، بل كان يتفاعل مع مجتمعه كقائد حقيقي، يشارك الناس الهموم اليومية ويقدم حلولا مستندة إلى روح الأخلاق والإنسانية، فقد عارض السلطوية والاستبداد بكل أشكاله، سواء كان ذلك بواقع أسلوب حكم الشاه الظالم أو بممارسات القمع التي جاءت لاحقًا من بعض القيادات؛ وهذا منطلق لم يكن معارضا للسلطة مفهوما، بل معارضا لما فيها من استغلال وتجاهل لحقوق الناس.
وقد انعكس ذلك أيضا على الجيل الجديد، حيث تأثر الكثيرون بأفكاره وتجسيده العملي للمبادئ؛ إذ كان يعد مصدر إلهام للشباب الذين شهدوا ظروفا قمعية وصعبة سواء في العراق أو غيرها، وتمكنوا من خلاله من استشراف آفاق جديدة للتغيير بدون اللجوء للعنف، وبالرغم من أنه عاش في حقبة كانت فرص التواصل والمطالعة محدودة، فإن إرثه المؤسسي والخطابي لا يزال حاضرا في تلك المؤسسات التي أنشأها والتي تواصل اليوم خدمة المجتمع.
لقد شكل الإمام الشيرازي نموذجا فريدا في الإصلاح؛ كان مناضلا على صعيد الفكر والعمل، يدعو إلى التغيير اللاعنفي الذي يرتكز على احترام الإنسان وعلى رفض الاستبداد بكل صوره، دون الانجرار وراء مواقف عابرة تتعلق فقط بإثبات الذات أمام السلطة، ورغم أن تكنولوجيا العصر الحديث قد فتحت آفاقا جديدة للتواصل والتعليم، فإن إرثه تبقى كنزا غنيا يمكن الاستفادة منه لبناء مجتمع يقوم على مبادئ الحرية والشورى والرحمة.
الاقتصاد الإسلامي ومفهوم ملكية الفرد
- الاستاذ حامد الجبوري/ مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:
من خلال مطالعتي لكتاب «الاقتصاد الإسلامي: المشاكل والحلول»، لوحظ أن الإمام الشيرازي (رحمه الله) يتجه دائما إلى تصوير الاقتصاد على أنه ملكية تخص المجتمع وليس الدولة، هذه الفكرة تشكل نقطة مركزية ومفصلية في خطه الفكري، مماثلة لنظرته للقضايا السياسية كاللاعنف، حيث يركز على حماية الملكية الخاصة والحقوق المتعلقة بالموارد والأموال التي تعد مقدسة بالنسبة للفرد، كما يرى الإمام الشيرازي أن الاقتصاد يجب أن يكون بيد الأفراد، بعيدا عن الأنظمة الاقتصادية المركزية سواء كانت اشتراكية أو رأسمالية، فبحسب رؤيته لا ينبغي أن تكون السلطة متمركزة في يد الدولة تتحكم في الأموال والموارد بل يجب أن يترك المجال للأفراد للاحتفاظ بملكيتهم وتنميتها، وهو ما يسهم في تحقيق حرية اقتصادية حقيقية وزيادة ثقة المواطن في ذاته وفي مجتمعه.
يبرز فكر الإمام الشيرازي في مجالي الاقتصاد والسياسة من خلال التركيز على أن ملكية الفرد هي الأساس في الاقتصاد الإسلامي، وأن النظام يجب أن يعمل على تمكين الأفراد وليس إخضاعهم لهيمنة الدولة، ويتحول هذا الفكر إلى سياسات مؤسسية حركية تترجم المبادئ النظرية إلى واقع ملموس، فيما تظل بعض الأفكار الأخرى رغم قيمتها غير قابلة للتطبيق في الظروف الراهنة.
إنسانية وحرية وتقبل للآخر
د. علاء الحسيني/ استاذ في جامعة كربلاء، وباحث في مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات:
يعتبر الإمام الشيرازي (رحمه الله) من العلماء الذين استطاعوا دمج النصوص الدينية الإسلامية مع قراءة معاصرة لواقع المجتمع، كما تميز بقدرته على تبسيط هذه النصوص وتقديمها بأسلوب سهل الوصول إلى الجميع، سواء من خلال مؤلفاته أو محاضراته الصوتية التي ساعدت في نشر فكره بشكل أوسع، كان الإمام الشيرازي مرجعا دينيا لكنه اتسم أيضا بإنسانيته العميقة، وكان يسعى لتوظيف التراث الديني ليخدم القضايا الإنسانية الكبرى.
إحدى أبرز الأفكار التي تميز بها الإمام الشيرازي هي الكرامة الإنسانية التي استلهمها من النصوص القرآنية مثل "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" (الإسراء: 70)، مما يجسد اعتقاده بأهمية احترام الإنسان بغض النظر عن خلفيته أو معتقداته، في هذا السياق كان الإمام الشيرازي يؤكد على أصالة السلم الاجتماعي، معبرا عن ذلك في دعوته إلى نبذ العنف وإقصاء الآخر، وكان يرى أن الإسلام يجب أن يقدم كدين نموذج يحتذى به في السلم الاجتماعي، بدلا من تقديمه كدين يرتكز على العنف والتهميش.
ومن خلال فكرته حول تقبل الآخر، كان الإمام الشيرازي يروج لفكرة أنسنة الآخر، أي التعامل مع الناس وفقا لمفاهيم الاحترام المتبادل وتقدير حقوقهم الإنسانية بغض النظر عن اختلافاتهم، هذه الفكرة كانت جزءا من مساعيه لتقديم نموذج حضاري للعالم الإسلامي يكون قائما على التسامح والاحترام المتبادل، واعتنق الإمام الشيرازي مبدأ الحرية الاقتصادية والحرية العقائدية، مؤكداً على أن الإسلام لا يجب أن يستخدم لتبرير الاستبداد أو مصادرة حقوق الآخرين، من خلال ذلك ناهض الإمام الشيرازي الاستبداد بشتى صوره وأشكاله، داعيا إلى حرية الفكر والعمل كمفاتيح لتقدم المجتمعات.
أحد الركائز الأساسية لفكر الإمام الشيرازي كان العمل، حيث كان يؤمن بأن العمل هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تنقذ المجتمعات من الأزمات الاقتصادية مثل البطالة، ويعتبره أداة فاعلة لتحسين الظروف الاجتماعية وتحقيق الاستقرار الاقتصادي، وتميز فكر الإمام الشيرازي بقدرته على ربط الدين بالواقع المعاصر، مقدماً رؤى حول الكرامة الإنسانية، الحرية، السلم الاجتماعي، والعمل كأدوات أساسية لبناء مجتمع أفضل.
عالم عامل ومظلوم في الذكرى والإنصاف
- الاستاذ عدنان الصالحي/ مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:
من خلال اطلاعي على سيرة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي، أجد أن الرجل كان بحق عالما عاملا، لم يكتفِ بالتنظير أو الانزواء في محيط الحوزة، بل مارس دوره الميداني بفاعلية، فمن يراجع كتاباته يلمس بوضوح حجم نشاطه الواسع في مجالات اجتماعية وعشائرية وسياسية، وتواصله المكثف مع زعماء المجتمع، إضافة إلى مواقفه الجريئة في النقد والتقويم.
الإمام الشيرازي كان قدوة في العمل قبل القول، وكان يعلم الناس بسيرته قبل أن يعلمهم بعلمه، واليوم نحن في أمس الحاجة إلى هذا النموذج في الفكر والسلوك، يؤسفني أن أقول إن أغلب علمائنا الراحلين لم ينصفوا بعد رحيلهم، ولم يحي ذكرهم كما ينبغي، أما الإمام الشيرازي، فرغم امتداد أثره الفكري والمؤسساتي على مستوى العالم، فإن ذكراه لا تستحضر بالشكل الذي يليق بمكانته، وهذا جزء من مظلوميته، لا سيما أنه لم يكن يميز بين مقلديه وغيرهم، ولم يقصِ أحدا بسبب الانتماء المرجعي، بل زادت مظلوميته من خلال اتهامات باطلة رميت عليه من أطراف لا تختلف معه في الجوهر، بل فقط في الرأي أو الاتجاه، نسأل الله أن يوفق الجميع للإنصاف، والاعتراف بفضل من خدم الدين والإنسانية، ولو بكلمة حق تقال في ذكراه.
وفي ختام الملتقى الفكري أجمع المشاركون على اهمية تكاتف الجهود بين الاكاديميين ورجال الدين والمثقفين لتعزيز الحوار البناء وايجاد حلول شاملة تلبي تطلعات الامة في مختلف المجالات. كما تقدم مدير الجلسة الاستاذ حيدر الاجودي بالشكر الجزيل والامتنان إلى جميع من شارك برأيه حول الموضوع سواء بالحضور او من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وتوجه بالشكر الى الدعم الفني الخاص بالملتقى الفكري الاسبوعي.
اضف تعليق