q
وربما تكون مغلفات الإيجابية صناعة سلطوية بشكل مباشر أو غير مباشر، فالأهم من رغبة الجمهور هو استثمار السلطات للشعور الجماهيري من أجل خدمة مصالحها واستعادة مكانتها في القلوب بصفتها المنقذ وفلتة الزمان التي لا تتكرر، وبالفعل حدث هذا مع محافظي كربلاء وواسط والبصرة...

شاع في السنوات الأخيرة مصلح إعلامي وسياسي عرف بـ"الأخبار الإيجابية"، أو نشر الإيجابية عن محافظاتنا وبلدنا، ولا سيما في المحافظات التي شهدت حملات لتعبيد الشوارع وصبغها ونصب أعمدة الإضاءة لتبدو مدن كربلاء والبصرة وواسط وكأنها تلبس ثوباً جديداً يجعل من عرض التجربة بزواياها الكاملة نوع من الفعل الإعلامي المولد للاستهجان والاتهام بعدم دعم تجارب النجاح.

فما هي الأخبار الإيجابية؟ وهل يصح أن يكون الصحفي إيجابياً فقط، أي ينشر الأخبار الإيجابية مع إهمال الأخطاء؟ وهل يصح نقد الأخبار الإيجابية أم يجب دعمها؟

في البدء لا بد من التعريف بمفهوم الخبر الإيجابي، فهو الخبر الذي يتناول مشروعاً أو عدة مشاريع تتبناها الحكومة المحلية أو الاتحادية وإبرازها بإطار احتفالي مع مديح ظاهر أو مبطن.

أو هو النسق الإعلامي الذي يركز على أعمال الترويج لكل ما هو جميل في محافظة أو منطقة معينة، مهملاً الجوانب الأخرى كالأخطاء في تنفيذ المشاريع أو الهدر في المال العام وغيرها.

يتوافق هذا النشر مع بروز ظاهرة الجمهور الإيجابي في ظل طوفان الأخبار السلبية طوال سنوات من الحروب والنزاعات داخل العراق، وكأن الجمهور العراقي قد اختنق من كثافة دخان الحرائق التي تتحدث عنها وسائل الإعلام، لتكون الأخبار الإيجابية هي المتنفس الذي يريح فؤاده، ويعيد له روحه المكلومة.

لدينا الآن إعلامي إيجابي لا ينشر إلا الجمال، وجمهور متعطش للإيجابية، ورسالة إعلامية لا تظهر للجمهور إلا بعد دولها معمل التجميل والتغليف الإيجابي. بيئة مثل هذه ترصدها السلطة وتعتبرها غنيمة يجب الاستيلاء عليها وتعظيمها واستغلالها أبشع استغلال.

وربما تكون مغلفات الإيجابية صناعة سلطوية بشكل مباشر أو غير مباشر، فالأهم من رغبة الجمهور هو استثمار السلطات للشعور الجماهيري من أجل خدمة مصالحها واستعادة مكانتها في القلوب بصفتها المنقذ وفلتة الزمان التي لا تتكرر، وبالفعل حدث هذا مع محافظي كربلاء وواسط والبصرة.

وأود التنويه إلى أن الأعمال التي قام بها المحافظون الثلاثة لم يجرؤ أي محافظ سابق على القيام بها، وأعمالهم تختلف عن السابقين فقد تبين لنا أن الشوارع يمكن تعبيدها، بل ويمكن تخطيطها وحتى إنارتها، ولا بأس بتوسعتها، فأعمال روتينية مثل هذه كانت من المستحيلات في زمن حكم أحزاب الإئتلاف العراقي الموحد والإئتلاف الوطني، وما تلاهما من أحزاب وكيانات المعارضة القادمة من الخارج.

لكن ما قام به محافظو الداخل لا يعفيهم هذا المساءلة والتحقق من كل ما ينشر من أخبار إيجابية حتى لا نقع في فخ الكذب على أنفسنا ونسقط في فخ صناعة زعماء وهميين لا يمكن المساس بهم بحجة أنهم صناع الأوطان.

لقد صنع هؤلاء أقل ما يجب عليهم فعله بأموال الدولة، وميزانية الشعب، وبتكلفة عالية، إذ إن غالبية المشاريع لا تعرض تكلفتها إلا بعد شهور من انتهائها.

تعالوا نحاكم المحافظين الثلاثة وهم يروجون للإيجابية وقد حصدوا نتاج انتخاية جيدة كمكافأة شعبية على جهودهم، نحاكمهم بالصورة والخبر الذي يتواصلون به مع جمهورهم.

ففي الخبر يجب أن تكون هناك مساحة للرواية الرسمية مع مساحة أخرى للرواية المعارضة، إلا أننا بدأنا نفقد الرواية المعارضة لدرجة الاختفاء ليس لأن بعض المحافظات تحولت إلى جنة عدن، إنما بسبب ارتفاع منسوب الأموال لدى عدد غير قليل من الصحفيين لا سيما بعد اقترابهم من السلطات العليا بالمحافظة.

وفي الصورة هناك اللقطة العامة التي تأخذ المشهد كاملاً من بعيد لترى جميع العناصر المكونة للمشهد، ثم اللقطة المتوسطة التي تقرب جزءاً من المشهد، ثم اللقطة القريبة التي تدقق في التفاصيل.

في محافظات الأخبار الإيجابية صار الشارع الذي يمتد لكيلومتر واحد يعرض بزوايا تصوير وكأنه مشروع عملاق، يحذف منه الطول والشركة المنفذة وعلاقتها بالسلطة الحاكمة، وتركز العدسات على أعمدة الإنارة وخطوط سير السيارات والإشارات الضوئية.

وتحولت إعمدة الإنارة إلى نوع من أنواع السحر والشعوذة للتلاعب بمشاعر الجمهور وصناعة الزعامات المحلية، مع تناسي أسباب تضخم الأموال لدى فئة قليلة من الممسكين بالسلطة والمقربين منهم.

الخبر يجب أن يبقى خبراً، أن يتناول الصورة كاملة، بأسودها وأبيضها، بالإيجابية والسلبية الموجودة فيها، أن لا يهمل جانباً لمصلحة معينة، لا يصح تغليف المدن كما فعل محافظ البصرة أسعد العيداني خلال استضافة بطولة الخليج العربي لكرة القدم عندما غلف الشارع المؤدي للملعب حتى لا يرى الناس ما خلف الشارع من عشوائيات.

هذه ليست إيجابية، بل تغليف للأزمات وهروب للأمام، نحتاج إلى قول الحقيقة ومعالجة مشكلاتنا المتراكمة، وأزماتنا المزمنة، لأن المحافظات لا تتحول إلى قصة نجاح لمجرد تخطيط شارع أو نصب عمود إنارة، إنما بحل المشكلات الأعمق، ومعالجتها مثل تهالك المدارس وتراكم أزمة السكن وترييف المدن، وانتشار المخدرات.

لكي يكون الصحفي إيجابياً عليه استحضار المشكلات المركزية والخطيرة على المحافظة، ثم يقارنها بما حققه المحافظ، ليقرر إن كانت تعالج مشكلة معينة، أم تستعطف جمهوراً يحب أن يلتقط السيلفي في الشوارع المليئة بأعمدة الإنارة.

العمل الاستقصائي نوع من الصحافة الإيجابية لأنها تقدم المعلومة وهي جوهر ما يراد من الصحفي.

النوع الثاني نوع من التغليف الصحفي لمدن مليئة بالمشكلات، ووضع ستارة كبيرة بحجة "الناس تريد تشوف إيجابية".

اضف تعليق