ولأجل تعزيز الاندماج الإيجابي فيجب التمكن من تحقيق استراتيجيات معينة تتضمن التخطيط الحضري الشامل لتوزيع السكان والخدمات بشكل عادل ومنظم، والتدريب المهني والتأهيل لتسهيل دخول المهاجرين إلى سوق العمل الرسمي، وإعداد برامج الإسكان والتنمية المجتمعية لمواجهة العشوائيات وتحسين البيئة الحضرية، واعتماد السياسات الثقافية والتعليمية لتعزيز ثقافة التسامح والتكامل...

تُعد الهجرة من الأرياف إلى المدن ظاهرة اجتماعية واقتصادية متكررة في البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء، غالباً ما تكون مدفوعة بعوامل اقتصادية كالفقر والبطالة، أو خدماتية كضعف البنى التحتية في الريف. 

ومع أن لهذه الظاهرة آثاراً إيجابية وسلبية، إلا أن الاندماج المجتمعي للسكان الريفيين في البيئات الحضرية يطرح تحديات كبيرة ترتبط بالهوية، والثقافة، وسوق العمل، ونظام الخدمات، تسعى هذه المقالة إلى تحليل اثار الاندماج المجتمعي الناتج عن الهجرة الريفية، مع تقييم أثره على البنية الاجتماعية والاقتصادية للمدن، وجودة الخدمات العامة.

وكما هو معلوم للجميع فأنّ للهجرة الريفية الحضرية عدة دوافع أو أسباب اقتصادية بسبب ضعف الإنتاج الزراعي، قلة فرص العمل، والتفاوت في مستويات الدخل يدفع السكان نحو المدن بحثاً عن حياة أفضل، أو أسباب خدمية مثل انعدام المدارس أو المراكز الصحية أو خدمات الكهرباء والماء في بعض الأرياف يدفع الأسر نحو الحضر، أو أسباب اجتماعية كالرغبة في التعليم العالي، أو الهروب من النزاعات أو العادات الاجتماعية المقيدة، خاصة للفئات الشابة والنساء.

والاندماج المجتمعي يعني اندماج المهاجرين في النسيج الحضري من خلال السكن، والعمل، والتعليم، والمشاركة في الحياة العامة، دون أن يؤدي ذلك إلى التهميش أو الصراع كما هو مفترض ولكن هنالك تحديات في هذا الاندماج تشمل صراع الهويات بين الثقافة الريفية والحضرية، والتمييز أو التهميش الطبقي، بالإضافة إلى سكن المهاجرين في أحياء هامشية (العشوائيات)، ما يعيق تفاعلهم مع باقي المجتمع.

أما الأثر الاجتماعي للهجرة الريفية فهي تكون في:

1. التنوع الثقافي: يمكن أن يسهم في إثراء الهوية الوطنية إذا أُدير بشكل إيجابي، ولكنه قد يؤدي إلى توترات ثقافية إذا غابت آليات الدمج.

2. تفكك الروابط التقليدية: الانتقال من بيئة القرابة والمجتمع التقليدي إلى بيئة حضرية فردانية قد يؤدي إلى ضعف الروابط الأسرية والاجتماعية.

3. نمو ظواهر اجتماعية جديدة: كالتسول، والتسرب المدرسي، والانحراف السلوكي، خاصة في حال غياب الدعم المؤسسي للمهاجرين الجدد.

بالإضافة إلى كل ما سبق هنالك اثار اقتصادية للهجرة الريفية لا يمكن التغاضي عنه منها إمداد المدن باليد العاملة الرخيصة وهو ما يفيد الاقتصاد الحضري لكنه قد يؤدي إلى استغلال العمالة المهاجرة وظروف عمل غير لائقة، وزيادة معدلات البطالة والفقر الحضري نتيجة تدفق أعداد كبيرة من السكان دون تأهيل مهني أو فرص عمل كافية، كذلك توسع الاقتصاد غير الرسمي والذي يفتقر إلى الضمانات الاجتماعية والتنظيم القانوني.

أما أثر الهجرة الريفية على الخدمات العامة فتكون أشد وطأة تتجسد بالضغط على البنى التحتية مثل المياه والكهرباء والمواصلات، خاصة في المدن التي لم تخضع لتخطيط حضري متوازن، والاكتظاظ في المدارس والمراكز الصحية ما يؤدي إلى انخفاض جودة الخدمات وصعوبة الوصول إليها، إضافة إلى نشوء الأحياء العشوائية نتيجة لعدم قدرة السكان الجدد على تحمل تكاليف السكن الرسمي.

ولأجل تعزيز الاندماج الإيجابي فيجب التمكن من تحقيق استراتيجيات معينة تتضمن التخطيط الحضري الشامل لتوزيع السكان والخدمات بشكل عادل ومنظم، والتدريب المهني والتأهيل لتسهيل دخول المهاجرين إلى سوق العمل الرسمي، وإعداد برامج الإسكان والتنمية المجتمعية لمواجهة العشوائيات وتحسين البيئة الحضرية، واعتماد السياسات الثقافية والتعليمية لتعزيز ثقافة التسامح والتكامل بين السكان الأصليين والوافدين.

ختامًا- الهجرة من الأرياف إلى المدن ليست مجرد حركة سكانية، بل هي تحوّل اجتماعي واقتصادي مركب يتطلب سياسات شاملة تعزز الاندماج وتحد من التفاوت، فنجاح هذا الاندماج لا يحمي فقط المهاجرين من التهميش، بل يسهم أيضاً في بناء مدن أكثر توازناً وعدالة، إن فشل السياسات الحضرية في الاستجابة لهذه الظاهرة يهدد بتفكك اجتماعي وخلل في النظام الاقتصادي والخدمات العامة، بينما نجاحها يمثل ركيزة للاستقرار والتنمية المستدامة.

* الدكتورة جمانة جاسم الأسدي، عضو ملتقى النبأ للحوار، تدريسية في جامعة كربلاء

اضف تعليق