{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا}.
لماذا يغلو الانسان؟ وكيف؟!.
انّ احد اخطر ظواهر مجتمعاتنا اليوم، هو الغلو، اي التشدد والتطرف وتجاوز الحد، والذي سببه اتّباع الهوى، كما في قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
وليس المقصود التشدّد والتطرّف بالدّين فقط، وان كان هو الاخطر، الا ان الظاهرة اليوم عامّة غطّت مختلف مناحي الحياة، حتى تحوّلت الى مرض اجتماعي ينخر بِنَا كما تنخر الارضة بالخشب.
ويبدأ الغلو والتطرف عندما لا يرى الانسان الا نفسه، فهو وحده صاحب العقائد السليمة وما دونه انحراف وخروج عن الجادّة، كما ان طريقته في التفكير ومنهجيته في العمل هي وحدها السليمة التي تُجزي عند الله تعالى، وما دون ذلك عيّ وفشل ومضيَعة للوقت! امّا من يعتقد به زعيماً، فهو الوحيد الذي يقود الامة الى الجنة وغيره أئمة النار لا ينبغي الوثوق بهم!.
ويا ليتَ المتطرف يكتفي بذلك، فهذا شأنهُ، ليعتقد بما يعتقد به وليؤمن بمن يؤمن به، الا ان المغالي عادةً لا يكتفي بذلك وانما يبدأ في مرحلة متقدمة من التطرّف بتخطئة الاخرين وربما تكفيرهم حدّ القتل بعناوين الردّة مثلاً او الخروج عن الملة، وهذا ما تفعله اليوم جماعات العنف والارهاب التي تقاتل الناس على التهمة والظنة، فتقتل وتفجّر وتدمّر وكأنها ظل الله في ارضه، او انها وكيله المطلق في اقامة الدّين والحدود.
كذلك، ما تفعلهُ الجماعات المتزمّتة التي ما ان تعلَّمت مسألتين شرعيّتين حتى رفعت في بابها علماً ورايةً وشعاراً، ونصّبت نفسها مرجعاً تفتّش في عقائد الناس وعقولهم وطريقة تفكيرهم.
لقد امرنا الله تعالى ان نكون وسطيّين في كل شيء، فلا نُفرّط في الحب كما لا نفرط في البغض، خاصة في علاقاتنا مع بعضِنا، ولذلك جاء في القران الكريم {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} لماذا؟ لانّ الغلو يَقودُ الى الكفر.
ولقد نسفَ رسول الله (ص) ظاهرة الغلو من اساسها فحاربها ومنعها في المجتمع لانّها أساس كل المشاكل، فعن جعفر بن محمد عن ابائه عليهم السلام قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {لا ترفعوني فوق حقّي، فانّ الله تعالى اتخذني عبداً قبل ان يتّخذني نبياً}.
ولذلك ينبغي ان يُحارب الزعماء والقادة، خاصة الدينيّين، هذه الظاهرة في المجتمع فلا يفسحوا المجال لإتباعهم ومحبيهم ان يعبدونهم من دون الله تعالى، كما ينبغي على اتباعهم ان يعرفوا حدود الطاعة والولاء وحدود تعاملهم معهم، حتى لا تنمو عندهم ظاهرة التقليد الأعمى او الطاعة العمياء من خلال الغلو في الحب والتطرّف في الاتّباع، فذلك قد ينتهي بالمرء الى عبادة غير الله تعالى، ففي تفسير قول الله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} يقول الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام {أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً، وحرّموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون}.
انّ الغلوّ والتطرّف هو السبب المباشر؛
الف؛ في تكريس التخلّف والجهل، لان المتطرّف لا يفكّر بعقله وانما يتبع أهواءه، ولذلك تكثر أخطاءه حد ارتكاب الجريمة.
باء؛ في صناعة الطاغوت، لانه يقود الى عبادة الشخصية.
جيم؛ في تكريس الخطأ والفشل والانحراف والتخلف، فالتطرف يمنع من النقد والرقابة والمحاسبة، سواء على الصعيد الشخصي وفي محيط الاسرة مثلاً، او على الصعيد الاجتماعي والسياسي والشأن العام.
دال؛ فضلاً عن ذلك، فان التطرف سبب الخلاف والاختلاف حدّ الصراعات، لان المتطرّف لا يرى الأشياء الا بلونين فقط لا ثالث لهما، اسود وابيض، فيذهب مثلاً الى تبنّي المقولة المعروفة [من ليس معنا فهو علينا] ومن كان بصره لا يرى الا هذين اللونين كيف يمكنه ان يتعايش مع الاخرين او يتفاهم معهم؟!.
ترى المتطرّف ينفجر بركاناً مدمراً بوجه اي ناقد او حتى متسائل او مستفسر اذا ما لامس النقد شخصية (القائد الضرورة) مثلاً، ولذلك فالتطرّف سببٌ مباشر لظاهرة الرّعب التي تخيّم على المجتمع، وكذلك لظاهرة الارهاب الفكري الذي يلغي حرية التعبير وقبل ذلك حرية التفكير.
ان مجتمعنا اليوم بأحوج ما يكون الى نبذ الغلو والتطرف، لنبدأ بمعالجة العنف الذي هو الوليد الشرعي للتطرف، وانّ الاخير هو الحاضنة الطبيعيّة والدافئة له.
فكيف يمكننا ان نعالج ظاهرة الغلو في مجتمعنا؟.
١/ ان لا نحتكر الحقيقة ابداً، فهي ليست ملكاً صرفاً لاحد، ولذلك يجب ان نتعلم كيف نتقاسمها ونتشاركها فيما بيننا.
ان احتكار الحقيقة تَخلق ظاهرة التأليه في المجتمع، وهي الحاضنة لصناعة الطغاة، سواء في السياسة والسلطة او في الدين والمذهب، بل حتى في محيط الاسرة والعمل والتعليم وفي كل شيء.
٢/ ان نتعلّم كيف نتعايش مع افكار الاخرين من دون ان يعني ذلك الايمان بها او الانخراط فيها، فالتعايش غير الايمان، فقد تكون مضطراً لان تتعايش مع افكار الاخرين ومعتقداتهم، فذلك جزءٌ من الأخلاق العامة في المجتمع، على اعتبار انه ليس من واجبك ان تفرض افكارك ومعتقداتك على الجميع، ولكنك لا يمكن ان تكون مضطراً للإيمان بعقائد الاخرين وافكارهم.
انّ افكار الناس وآراءهم وتوجّهاتهم مختلفة في المجتمع الواحد، وربما حتى في الاسرة الواحدة، فلو ان كلّ واحدٍ قرّر ان يتزمّت برأيه ويتطرّف بتوجّهاته حد الغاء الاخر، فهذا يعني اننا سنحوّل حتى الاسرة الى ما يشبه القنبلة الموقوتة، تراها مأزومة دائماً وابعد ما تكون عن التعايش حتى بحدّه الأدنى!.
٣/ ان نؤمن دائماً بان كل ما سخّره الله لنا هو حق تشاركي لنا جميعاً، لا ينبغي لاحدٍ ان يحتكرهُ لنفسه ولخاصّته، بل ان كل فرد في المجتمع له حق في ذلك، وهي الرؤية التي تحثّ على الاعتراف بالاخر بِما يحقّق التعايش السلمي والأمن المجتمعي.
ومن الواضح جداً، فان الغلوّ والتزمّت والتطرّف لا يُساعد في ارساء هذه النظرية في المجتمع.
والتعايش ثقافة يجب ان يتعلّمها المرء منذ نعومة أظفاره فيشبّ عليها، وتكبر معه، فلا يحدّث نَفْسَهُ بالاحتكار والاستئثار والتطرّف اذا كبُر.
اضف تعليق