إن رجالًا مثل الحر وزهير بن القين كانوا مثالًا لمَن عرف الحق، بينما شخص مثل عبيد الله بن الحر الجعفي، وكان وجيهًا وشخصية "مثقفة"، حسب اصطلاحنا الحديث، وقد ذهب إليه الإمام الحسين بنفسه إلى خيمته، وهو يعرف الإمام الحسين مَن يكون، إنما مشكلته في معرفة الحق ليطابقه على شخصية الإمام...

يا شيخ! هل قرأت القرآن؟

بهذا السؤال واجه الإمام زين العابدين ذلك الرجل الكوفي الذي كان بين المصطفين لاستقبال موكب السبايا، وهو معبأ – كما الآخرين – بالدعاية الأموية بأن الإمام الحسين وأهل بيته خارجون عن "القانون والنظام العام". لذا قال: "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم، وأراح البلاد من رجالكم، وأمكن أمير المؤمنين منك!"

فأجاب ذلك الرجل الطاعن في السن بالإيجاب، فتلا الإمام عليه الآية الكريمة: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}. قال: بلى قرأتها، فقال له: نحن القربى يا شيخ. ثم تلا الآية المباركة: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}. فقال بلى؛ قرأتها، فقال: نحن أهل البيت الذين خُصصنا بهذه الآية يا شيخ.

ولاشك أن هذه الآيات وغيرها قد مرت على ذلك الرجل ولهج بها لسانه، لكن المشكلة في وعي الآية الكريمة، ويكون حاله حال ذلك الرجل الفقيه في نقاشه الفقهي مع الإمام الصادق عندما حاججه بآية كريمة فقال للإمام: "كأني أقرأها أول مرة"!

كنت أتساءل لفترة طويلة؛ كيف طوّعت نفس أهل الكوفة المشاركة في قتل الإمام الحسين، عليه السلام، ثم ترك جثمانه على الأرض؛ هو وأبناؤه وإخوته، وأصحابه، ولثلاثة أيام، ثم يعودون أدراجهم إلى بيوتهم، يؤدون فريضة المغرب والعشاء ليوم العاشر من المحرم سنة 61 هـ، ويقضون هذه الثلاثة أيام مع أفراد عائلاتهم، كأن شيئًا لم يكن؟ علمًا أن عمر بن سعد – حسب المصادر التاريخية – أمر بدفن جميع قتلى جيشه في أرض المعركة، وكانوا بأعداد كبيرة، وتعمّد ترك الإمام والشهداء على حالتهم مع جريمة أخرى تضاف إلى سجل جرائمهم، وهي؛ فصل الرؤوس عن الأبدان تطبيقًا لسنة جاهلية تمسّك بها الأمويون رغم محاربة رسول الله لها، بدعوى البرهنة على الانتصار، قبل أن يقوم بفعلته النكراء الأخرى بأمر الخيول بأن تطأ جثمان الإمام الحسين، عليه السلام.

ولكن! ما الذي يجعل جفونهم ترفّ لحظة واحدة وقد تبنوا الرواية الأموية بأن الإمام الحسين خارج على إمام زمانه، و"شقّ عصا الطاعة"، فهو مهدور الدم، بل يجب قتاله، ثم إن الدعاية الأموية آنذاك روّجت إلى أن الإمام الحسين يريد تفعيل المعاهدة بين أخيه الإمام الحسن، ومعاوية، وتحديدًا البند الخاص بأحقيته بتولّي الخلافة بعد موت معاوية – كما نصّت المعاهدة – ولذا سجّل التاريخ هذه المقولة عن أهل الكوفة بأن "ما لنا والدخول بين السلاطين"، ومن أجل تسكين الضمير الديني كون الإمام الحسين، ابن بنت رسول الله، وهو الأحق بالخلافة بـ "يكفينا كتاب الله"!

الازدواجية وصناعة التبرير

حالة الازدواجية التي مارستها الشريحة الأكبر من الكوفيين آنذاك، كانت نتيجة وعلّة لجملة من المعلولات الممهدة لممارسة مريحة لا يستشعر معها صاحبها بوخز الضمير كون المسألة تتعلق بالعهد والبيعة، وهي مسألة ليس من السهل تجاوزها، فقد كتب رؤساء القبائل ووجهاء المجتمع للإمام الحسين بأن أقدم "فقد أينعت الثمار وأخضرّ الجناب وإنما تقدم على جنود لك مجنّدة".

من أجل هذا لابد من إنتاج جملة من التبريرات لتكون مثل المسكّن للضمير الملتهب في النفوس، بل وأحيانًا يكون دوره إخماد هذا الضمير تمامًا، وأيضًا؛ لإيجاد دافع للتحرك نحو تنفيذ أوامر الحاكم حفاظًا على الأرواح والممتلكات. فربما يخدع الإنسان الكوفي الإمام الحسين، عليه السلام، لكنه لا يخدع نفسه، ولا يقوم بعمل لا يؤمن به، أو يناقض قناعته وفكره، لذا فإن التبرير يمثل أرضية نفسية يسير عليها الإنسان الازدواجي والمتلوّن محققًا بذلك ليس فقط أهدافه الشخصية الآنية، وإنما أهداف الآخرين من المتربعين على قمة السلطة، كأن يكونوا حكامًا مستبدين مثل ابن زياد ويزيد ومَن على شاكلتهم، أو يكونوا جماعات أو تيارات فكرية تسعى لقيادة الشارع.

هذه التبريرات المسكّنة لها فترة تأثير محدودة، فهي عنصر طارئ على النفس، لا جذور لها في القلب، سرعان ما تزول إذا ما استجدّت عليها عوامل أكثر تأثيرًا مثل الكلمات اللاهبة التي أطلقها الإمام السجاد وعمّته العقيلة زينب، عليهما السلام، فحصل التحول الغريب لأهل الكوفة الذين غدروا بمسلم بن عقيل وبالإمام الحسين، وإذا بهم يجهشون بالبكاء أمام تلك الكلمات، بيد أن الجواب كان تقريعًا لاذعًا من السيدة زينب بأن "يا أهل الكوفة! يا أهل الختل والغدر! أتبكون؟! فلا رقأت الدمعة، ولا هدأت الرنّة"، مستخفةً بالدموع الكاذبة المنبعثة من عواطف لا أساس لها في النفس والقلب، لأن ليس لهم ما يؤمنون به ويضحون من أجله حتى تكون هذه العواطف رصينة ذات اتجاه محدد كالتي حملها أصحاب الإمام الحسين إزاء إمامهم وقائدهم في ساحة المواجهة.

عندما يكون الحاكم القوي ميزان الحق

من الطبيعي أن ينمو فايروس الازدواجية والنفاق في النفوس، وبرعاية خاصة من الحاكم والجهاز المحيط به من رجال دين وأدباء وخطباء ومؤرخين ومحدثين، كل هؤلاء هم من كرسوا – وما يزالون – مفهوم الحاكم القوي المفروض الطاعة، و"الأمر الواقع"، وهم أنفسهم من وضعوا القاعدة التفسيرية للآية القرآنية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ}، فالحاكم القوي بالسيف والسلاح والمال هو ولي الأمر المطاع، من معاوية بن أبي سفيان، ومرورًا بالحكام الأمويين، ثم العباسيين، وحتى تاريخنا المعاصر.

فمن يحمل فايروسًا من هذا النوع لا ينظر إلى الإمام الحسين، بل ومَن قبله أمير المؤمنين، والأئمة المعصومين من بعده؛ على أنهم أئمة مفروضة الطاعة من قبل الله – تعالى – وإنما علماء أو فقهاء ورواة حديث عن رسول الله، حالهم من حال العديد من رواة الأحاديث والفقهاء والقضاة ممن كان بعضهم نزيل البلاط.

وهذا يؤكد أن أهل الكوفة لم يكونوا أول من يسقط في الاختبار الإيماني العسير مع الإمام الحسين في عاشوراء، وإنما سبقهم في ذلك أهل الحجاز مع أبيه أمير المؤمنين عندما جاء أحدهم يخاطب أمير المؤمنين وهو يجهّز الجيش لمواجهة الناكثين (أهل الجمل)، وهو يقول: "يا أمير المؤمنين: أترى أن طلحة والزبير وعائشة اجتمعوا على باطل؟! فأجابه الإمام، عليه السلام: إنه ملبوسٌ عليك، وإن الحق والباطل لا يعرفان بالناس، ولكن اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف مَن أتاه".

إن رجالًا مثل الحر وزهير بن القين كانوا مثالًا لمَن عرف الحق، بينما شخص مثل عبيد الله بن الحر الجعفي، وكان وجيهًا وشخصية "مثقفة"، حسب اصطلاحنا الحديث، وقد ذهب إليه الإمام الحسين بنفسه إلى خيمته، وهو يعرف الإمام الحسين مَن يكون، إنما مشكلته في معرفة الحق ليطابقه على شخصية الإمام. ولو كان يعرف ويؤمن بأن الحق متمثلٌ في الإمام الحسين، لما تجرأ على اقتراحه البائس بأن "خذ فرسي فليس له لاحق"! يريد مجاملة الإمام في تلك اللحظات التاريخية الفاصلة، فردّ عليه الإمام بأن "لا حاجة لنا بفرسك"، فهو يفضل الفرس على نفسه! بينما زهير بن القين أرسل إليه الإمام رسالة دعوة فقط، ولم يأته بنفسه، وهي مفارقة تستحق التأمّل لنصل إلى النتيجة المطلوبة، وحتى لا نكون ممن يكرر تجربة أهل الكوفة الذين أصبحوا أيقونة العجز في معرفة الحق ومعرفة أهله، فأصيبوا بأمراض نفسية مثل النفاق والازدواجية والجبن، مع آثار مدمرة على الأجيال القادمة.

اضف تعليق