ملفات - عاشوراء

كيف تنال الحظ السعيد، وتحرز نصيبك من الدنيا؟

زيارة الأربعين ونصرة الامام الحسين (ع) (11)

الجميع عندهم حظوظهم التي يتساوون فيها، فالله أنعم على الجميع بالنصيب من حيث النعم والفرص التي يتيحها للجميع. فالانغماس في العاجل من الدنيا يضيّع الفرص الكبيرة التي تحقق حظوظه الأكبر والأفضل وصولا الى الحظ الأكبر والاعظم في الآخرة، وهذا الاختيار بين الفرص الضيقة والفرص العظمى يعتمد على رؤية الانسان...

(فَأَعْذَرَ فِي الدُّعاءِ وَمَنَحَ النُّصْحَ وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا وَباعَ حَظَّهُ بِالْأَرْذَلِ الْأَدْنَى وَشَرَى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوْكَسِ وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدَّى فِي هَواهُ وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ وَحَمَلَةَ الْأَوْزارِ الْمُسْتَوْجِبِينَ النَّارَ).(1)

من اهم القيم التي ترشدنا اليها زيارات الامام الحسين (عليه السلام) وخصوصا الزيارة المخصوصة في يوم الأربعين، هو أن يعرف الإنسان قيمته الحقيقية والعميقة في الحياة، وهذه المعرفة هي نصيحة واستنقاذ من الجهالة وحيرة الضلالة، وإخراجه من ذلك المستنقع الدنيوي، من خلال توجيهه إلى الطريق الصحيح لمعرفة حقيقة وقيمة نفسه، كما هو موجود في الآيات الكريمة وفي الأحاديث الشريفة.

فقد كانت نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، من اجل استنقاذ الإنسان حتى يضع نفسه في المكان الحقيقي بالحياة، ويعرف قيمته الحقيقية ولا يبيع نفسه بثمن بخس، بل يرى في نفسه تلك القيمة الكبيرة التي كرمه الله سبحانه وتعالى به وفضله تفضيلا.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) الإسراء 70.

فلماذا يفرط الانسان في قيمته الحقيقية بثمن بخس كما وصفت الزيارة المقدسة ذلك (وَباعَ حَظَّهُ بِالْأَرْذَلِ الْأَدْنَى وَشَرَى آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوْكَسِ).

لكل شخص نصيب خاص

وحظه يعني نصيبه، اي ما يملكه الإنسان من وجود زمني في هذه الدنيا، فاما ان يضيعه او يستثمره، فكيف يبيعه وماذا يشتري به. فالله سبحانه وتعالى انعم عليه بالكرامة، والحرية والعقل والفهم، والقدرة على الحركة والعمل، وأعطاه الجسم الكامل، ووهبه الذكاء حتى يستثمر هذا الوجود والفرص التي تخلقها النعم والمواهب.

فكل هذه الأمور هي حظ الإنسان، يعني نصيبه، فكل شخص له نصيب خاص به، لابد لكل إنسان أن يعرف كيف يستخدم نصيبه في الحياة ولايفرّط بالفرص الموجود فيه، مثلا إذا ورث اثنان من الأولاد من أبيهم إرثا تقاسماه بالتساوي، فكل واحد منهما له نصيب، فأحدهما ذكي استثمر هذا الإرث والمال بشكل جيد، وبالنتيجة جعل المال يتكاثر ويبقى، أما الشخص الثاني فقد أخذ يستهلك المال ويبذر ويسرف في صرف المال بلا حساب، ولم يستثمره كأخيه الأول، فمن الذي باع نصيبه وخسره، ومن حفظ نصيبه واستثمره؟

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) الكهف103/104.

فالخاسر هو الذي لا يستثمر حظه في الدنيا ويبحث عن الملذات والارباح السريعة، وعن الامام علي (عليه السلام): (المغبون من شغل بالدنيا، وفاته حظه من الآخرة)(2)، لأن أرباحها خاسرة، فعن الإمام علي (عليه السلام): (وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ وَالْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ وَالْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ وَالْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ)(3).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام) في مصباح الشريعة: (من كان الأخذ أحب إليه من العطاء فهو مغبون، لأنه يرى العاجل بغفلته أفضل من الآجل)(4)

كذلك الإنسان في الدنيا، فالكثير من الناس لا يحفظون نصيبهم وحظهم في الدنيا، وهذا هو معنى الحظ، ولا يعني أن هناك شخصا عنده حظ وآخر ليس عنده، فالجميع عندهم حظوظهم التي يتساوون فيها في هذه الدنيا، فالله سبحانه وتعالى أنعم على الجميع بالنصيب من حيث النعم والفرص التي يتيحها للجميع.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (إنا لنحب الدنيا، وأن لا نؤتاها خير لنا من أن نؤتاها، وما أوتي ابن آدم منها شيئا إلا نقص حظه من الآخرة)(5)، فالانغماس في العاجل من الدنيا يضيّع الفرص الكبيرة التي تحقق حظوظه الأكبر والأفضل وصولا الى الحظ الأكبر والاعظم في الآخرة، وهذا الاختيار بين الفرص الضيقة والفرص العظمى يعتمد على رؤية الانسان وأسلوب تفكيره حول الدنيا، فمن يبحث عن صلاح نفسه وإصلاح مجتمعه يحقق حظه الأعظم، وهذا ما عبرت عنه الآية القرآنية: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) القصص/77.

عن الامام علي (عليه السلام): (من أصبح حزينا على الدنيا فقد أصبح ساخطا على ربه تعالى ومن كانت الدنيا أكبر همه، طال شقاؤه وغمه، الدنيا لمن تركها، والآخرة لمن طلبها، الزاهد في الدنيا كلما ازدادت له تحليا ازداد عنها تخليا)(6).

من هو الأرذل؟

ولذلك فمن يبيع حظه بالأرذل الأدنى فهو من اشد الخاسرين في الدنيا قبل الأخرة.

الأرذل يعني اسفل الأسفل، أما الأرذل الأدنى فهو يعني الأحقر او الأسوء من أسفل السافلين الذين يكونون في قاع الحضيض، ومنهم الذين قاتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) ابن بنت نبي هذه الأمة رسول الله، الذي أخرجهم من الجاهلية والفقر والظلماء.

فمن يبيع نصيبه لابد ان يكون هناك مقابل مناسب في هذا البيع، واذا باع بأبخس الاثمان فهو من اشد الخاسرين، مثل شخص يمتلك بيتا ثمنه يساوي 100 مليون دينار، فيبيعه بمليون دينار فقط، فهذا نصيبه وهو الذي باعه بمليون دينار، فهذا خسر نصيبه نتيجة لسفاهته او طمعه، أما الأكثر خسرانا منه الذي يخسر بيته او ثروته في لعبة قمار، وهناك امثلة كثيرة لذلك نراها كثيرا في حياتنا اليومية.

من هو التاجر الذكي؟

وكما ان هناك بيع كذلك شراء، فمن يبيع لابد ان يشتري وهذه معادلة تجارية، فمن يريد ان يربح لابد ان يبيع بثمن اعلى، ويشتري بثمن اقل، ولكن من يبيع حظه بابخس الاثمان سيشتري اسوء الأشياء، (وشرى آخرته بالثمن الأوكس)، والأوكس: هو الناقص المعيب المغشوش الذي ليس له أية قيمة، فمن يبيع دنياه بثمن بخس يقوم على الحرام والظلم، سيشتري اسوء مكان في قعر جهنم.

فمن يبيع لابد ان يشتري أفضل مما باعه، ومن أراد ان يحصل في منتهى الأمور على صفقة شراء رابحة لابد ان يحسن بيعه في الدنيا، وخصوصا في الأمور المعنوية، فمهما ربح الانسان من أموال في تجارته لن يكون فيها قيمة مالم تكن في دوائر الاخلاق والدين والتقوى والصدق والأمانة، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا معشر التجار ارفعوا رؤوسكم فقد وضح لكم الطريق، تبعثون يوم القيامة فجارا إلا من صدق حديثه).(7)

وعن الامام علي (عليه السلام): (إياك أن تبيع حظك من ربك وزلفتك لديه بحقير من حطام الدنيا)(8).

والتاجر الذي يعرف نفسه بمقدار الأموال التي يربحها فحسب، فانه كذلك يشتري الخسران وتنطبق عليه قول القرآن الكريم: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ) البقرة/16

فالتاجر الذكي هو الذي يدرك العواقب فتنطبق عليه هذه الآية القرآنية: 

(إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة/111.

وذلك لأن الذين يحصرون أنفسهم في ارباح الدنيا لا يحصلون عليها، لأن الدنيا جسر للآخرة، وهي قصيرة زائلة ضيقة لا معنى للأرباح فيها.

لنفترض أن هناك إنسان من اجل زيادة أمواله يسرق ويخون ويكذب ويغش ويفسد في الأرض، ويأكل المال الحرام، ولكن بالنتيجة عندما يصل إلى مرحلة اليقين من الموت، بعد ان عاش قليل من السنين التي انقضت سريعا، فماذا استفاد من أموال الحرام؟ وهذا هو الثمن الأوكس.

أو حتى أموال الحلال التي لم ينفقها في سبيل الله ولم يستثمرها في الآخرة، حيث سيعض أصابع الندم على تجارته الفاشلة والخاسرة في الدنيا، فالتاجر الرابح هو الذي يستثمر في الآخرة فيحصل على الدنيا وعلى الآخرة، بينما الذي يحصر أرباحه بالدنيا وحدها، فلا يحصل على الاثنتين.

ما هي أسباب خسران الحظ؟

الزيارة الأربعينية تفسر لنا بالإضافة إلى روايات أخرى موجودة، خسران الحظ والنصيب وبشكل عام عندما يبيع الإنسان آخرته بدنياه فيخسر كليهما، وهناك أسباب أخرى هي:

الأول: الجهل

جهل الإنسان وعدم ذهابه وراء العلم والتعلّم، هذا الأمر يجعل الإنسان يخسر نصيبه في الحياة، كالطفل الصغير إذا كانت في يده أموال وهو لا يمتلك الوعي والفهم والحكمة، فيقوم بتبذير أمواله لأنه لا يعرف قيمتها، كونه سفيها، فالإنسان الذي ليس له علم بالحياة فهو كالسفيه الذي لا يعرف كيف يصرف نصيبه، أو من حظه في الدنيا.

فيبذر حياته ويهدر عمره ويبدد نصيبه في الحياة، وخصوصا العلم في معرفة الإمام المعصوم (عليه السلام)، لأن معرفة الإمام من أهم الخطوات التي تضع الإنسان في الطريق نحو الآخرة، فمعرفة الإمام هي صناعة لتفكير الإنسان ومعرفة الطريق والدليل للسير في طريق الاستقامة، وبالتالي فإن معرفة الإمام المعصوم هي التي تقود الإنسان نحو الهدف المطلوب وادراك الغاية الكبرى وهي الآخرة التي يجب أن يحصل عليها.

لذلك فإن الذين لا يسيرون في طريق الإمام المعصوم، ولا يعرفونه المعرفة الحقة، (عارفا بحقه) تجدهم دائما يقعون في طريق الانحراف، لانهم بجهلهم لايفهمون معنى الدنيا وحبائلها وغرورها، (وقد توازر عليه من غرّته الدنيا)، فالدنيا تغرّ وتخدع، لذلك يجب على كل انسان أن يفهم الدنيا فهما صحيحا، عن طريق العلم والتعلم والتدارس وحسن الاستماع. فيستطيع أن يتعامل مع الدنيا بالطريقة السليمة والصحيحة، لذلك يعدّ العلم من أهم الأمور التي تعطي الوعي واليقظة والانتباه للإنسان فتجعله يحافظ على حظه ونصيبه في الحياة.

وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (إِذَا أَرْذَلَ اللَّهُ عَبْداً حَظَرَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ)(9)، فالإنسان الذي لا يسعى وراء العلم والتعلم، فإن الله سبحانه وتعالى يحجب عنه العلم، من باب السبب المسبّب او النتيجة، لأن الله تعالى يمنح الجميع الفرص المتكافئة، ولكن الإنسان الذي لا يتعلم ولا يسعى وراء العلم لا يستحق العلم.

وهذا معنى التوفيق، والإنسان هو السبب في سلبهِ التوفيق من نفسه، بسبب وقوعه في المعصية، والمعصية تسلب التوفيق، فيضّيع وقته، ويبذّر في موارده، ويهدر عمره، فيصبح هذا الإنسان محظورا عليه العلم، أي لا يتعلم، لأن العلم جهد واجتهاد وبذل للطاقة وصرف للجهود واستثمار للزمن، للوصول الى فهم كيف يعرف ان يتعامل مع الدنيا، فالله سبحانه وتعالى سخّر له كل شيء، ولكنه لم يستفد من ذلك وضيع نصيبه وفرط في فرصه وأهدر حظه.

وعن الإمام علي (عليه السلام): (فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا وَكَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا)(10).

فالإنسان الذي يلهث وراء الدنيا ويصرف وقته كله عليها، لا يحصل عليها، لأنها وهم وسراب، وهو خلاف الرشد والتعقل، والرشد يعني تقدم الإنسان وتكامله، وتطوره وتقدمه في فهمه وفي عقله وفي ادراكه لنفسه بما يؤدي به الى السير في طريق الهداية وهي الرشاد. أو أن الهداية ترشد الإنسان وتنتهي به إلى أن يكون متعقلا وفاهما لدنياه، فيفقد رشده من يتكالب على الدنيا وكأنها هي الغاية والهدف او يتوهم ذلك، فمن يتوهم ان الهدف والغاية هو الدنيا فحسب فهو يعدّ من الذين يضيعون نصيبهم وحظهم وفرصهم في الدنيا، واكثرهم الجاهلون الذين ينغمسون في ملذات الدنيا فيفقدون معناها ولذاتها الحقيقية.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أكثر الناس قيمة أكثرهم علما، وأقل الناس قيمة أقلهم علما)(11)، وفي الآية الكريمة: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) الزمر 9. وهذه قاعدة عامة في الحياة، فقيمة العالم أكبر من الجاهل، لانه يسترشد بعلمه نحو النجاة، كما يسترشد به الآخرون، وخصوصا العلم المرتبط باهل البيت (عليهم السلام)، فهو العلم الذي يقود نحو الآخرة، وينجي الإنسان بعيدا عن حبائل الدنيا وأوهامها.

ثانيا: انغلاق قلب الإنسان

حيث يمتلئ قلب الإنسان بالقسوة، فالقلب هو مخزن الأفكار، والوعاء الذي يضعها فيه، ومن خلال هذا الوعاء يسترشد الإنسان في الحياة، ويبرمج نفسه برمجة فكرية كاملة، فأما يختار الأفكار الجيدة أو الأفكار السيئة، فاذا امتلأ قلب الإنسان بالفضائل والأخلاقيات الحسنة والأفكار الجيدة، يكون قلب هذا الإنسان ليّنًا، رحيما، عطوفا، متكافلا، معطاءً.

أما إذا كان قلب الإنسان مملوءا بالحقد والرذيلة والكراهية، فسوف يكون قلبه قاسيا، وكلما يمتلئ قلب الإنسان بهذه الظلمات، ينطفئ نور قلبه إلى أن يصبح كالحجارة او أشد، وهذا هو السبب الذي يجعل الإنسان أعمى، وغير متبصّر في الدنيا فيخسر بالنتيجة نصيبه الحقيقي وفرصته في الحياة.

وهذه الكلمة (القلوب قاسية عن حظها) تفسر ذلك، فالقلوب بعد أن امتلأت بهذا المخزون السيء تصبح قاسية على حظ الإنسان ونصيبه، مثل الإنسان الذي يكون قلبه عنيفا ودمويا ويستخدم العنف لإلحاق الأذى بالآخرين، بالنتيجة هو الذي يؤذي نفسه، مثل المستبد والطاغية، فهو الذي يدمر نفسه، ويخسر حظه في الدنيا والآخرة.

ثالثا: العناد

العناد هو الذي يوصل الإنسان إلى التكبر والغطرسة، فالمعاند قلبه مقفل وقاسي حتى يصل إلى مرحلة الغطرسة التي تعني التجبّر والظلم، فالمتكبّر لا يرى إلا نفسه، والمتغطرس هو المتكبر الظالم الذي يستخدم جبروته لإيذاء الآخرين. فالمتغطرس الذي انغمس عميقا في ذاته المظلمة وقلبه المتحجر واهوائه المتوحشة، الى حد التجبر الاعمى الذي لايكون عنده خط رجعة: (تغطرس وتردّى في هواه)، فيكون خاسرا لدنياه ولآخرته، لذا على الإنسان ان يعالج حالة العناد في ذاته بما لايسمح للكبر ان يتسلل الى قلبه، فيكون متواضعا لينا، ومستمعا حسنا، حتى يصل له العلم، ويستطيع ان يفهم معنى النصيب والحظ ويستثمر فرصه في الحياة بشكل جيد.

رابعا: الانغماس في الأهواء

الإنسان الذي ينغمس في عالم الشهوات والأهواء، فإنه يدخل في مستنقع كبير من الأوبئة والأمراض التي تجعله خاضعا لذلك المستنقع، وعلى سبيل المثال بعض الأماكن التي تكون فيها التربة رخوة، فعندما يدخل فيها الشخص، تسحبه هذه الأرض الطينية، ولا يستطيع ان يتمسك بشيء كي يتخلص ويخرج منها.

فمستنقع الأهواء يشبه هذا المستنقع، يجرّ الإنسان أكثر فأكثر حتى يصل إلى القاع ويغرق ويموت، فانغماس الإنسان في الأهواء يحدث هكذا، فمن ينغمس في هواه ويدخل في عالم المعاصي يتخلى عن عقله وتقواه، وينغمس في مستنقع الدنيا، وهذه العبارة في الزيارة (وتردّى في هواه)، تعبر عن موت الإنسان الذي يتعلق في هواه، فيقتله ذلك الهوى. 

وفي الآية القرآنية الكريمة: (وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) طه 16، (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) الليل 11، فأمواله لن تفيده وتنجيه بعدما سلك طريق المال الحرام، وفي نيّته أن يكسب أكثر، فالذين يذهبون وراء المال الحرام والرشوة والفساد، يتصور أنه يريد أن يؤمّن مستقبله، وان المال الذي يكسبه يحصّنه ويحميه، ولكن هذا المال الذي يعتقد انه سيحميه سيؤدي الى هلاكه. فالمال الحرام هو وقود النار التي تشتعل في الإنسان وتحرق حظه ونصيبه في الدنيا والآخرة.

وعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ومن كسب مالا من غير حله أفقره الله عز وجل)(12).

خامسا: الانحراف

أي الانحراف والخروج عن طاعة الله عزوجل ورسوله (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام). وذلك يؤدي الى خسران الحظ أيضا، لأن الله سبحانه وتعالى وضع قانونا ونظاما، وهذا النظام يتكامل بطاعة الرسول والإمام (صلوات الله عليهم).

فعندما يأخذ الإنسان طريقا منحرفا عنهم (الله ورسوله والإمام)، سوف يسقط، ويدخل في أزمات ومشكلات، وبالنتيجة يخسر نصيبه من الدنيا والآخرة، لذلك نقرأ في الزيارة: (وَأَسْخَطَكَ وَأَسْخَطَ نَبِيَّكَ وَأَطاعَ مِنْ عِبادِكَ أَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ)، وهؤلاء هم أهل الانحراف الذين يعيشون في عالم الشياطين، عالم الشقاق والنفاق والرذيلة والبؤس، والاكتئاب والقلق، والشعور الحزين بالحياة وفقدان لذتها.

وهذا هو الفرق بين المؤمن والمنافق، فالمؤمن سعيد، يشعر بالسكينة والطمأنينة، يرى طريقه واضحا امامه، بينما يرى المنافق طريقه مظلما، ولا ضوءً في الأفق، لا يرى شيئا فيما بعد الدنيا، فيعيش التعاسة والقلق والبؤس.

الاستثمار في بناء الحظ السعيد

وهنا يتبادر هذا السؤال كيف يستطيع الانسان ان يستثمر عمره ونصيبه من الحياة؟ وخصوصا أولئك الذين يحييون الشعائر الحسينية في محرم وصفر، في عاشوراء وزيارة الأربعين، فهم بطبيعة الأجواء الروحانية التي يعيشونها، لهم من الفرص اكثر من غيرهم في استثمار الدنيا من اجل اعمار الآخرة. فما هي الخطوات لذلك؟

1- ان يعرف قيمته الحقيقية، وان ليس هناك ثمن أعظم مما وعد الله عزوجل وهو الجنة فلا يبيعها بغيرها ولاينتظر أجرا دنيويا وان كان سيأتيه حتما ان وضع عينه على وعد الله عزوجل، فقد (وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) التوبة72

وعن الامام علي (عليه السلام): (أَلَا حُرٌّ يَدَعُ هَذِهِ اللُّمَاظَةَ لِأَهْلِهَا إِنَّهُ لَيْسَ لِأَنْفُسِكُمْ ثَمَنٌ إِلَّا الْجَنَّةَ فَلَا تَبِيعُوهَا إِلَّا بِهَا)(13).

وعنه (عليه السلام): (من باع نفسه بغير نعيم الجنة فقد ظلمها) أي ظلم نصيبه من الدنيا.

2- ان يكون هدفه رضا الله تعالى، وقد قال سبحانه وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) البقرة 207

وعن الإمام الحسين (عليه السلام): (من طلب رضى الله بسخط الناس كفاه الله أمور الناس، ومن طلب رضى الناس بسخط الله، وكله الله إلى الناس) (14)

3- ان يفهم معنى الربح والخسارة في التجارة الحقيقية، فلن يخسر من استثمر حظه في الآخرة، ولن يربح من وضع رأس ماله في الدنيا، وعن الامام علي (عليه السلام): (انْقَلَبُوا (المتقين) عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَتَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ)(15).

4- استثمار العمر في العمل الصالح، وهذا الاستثمار هو الذي يحقق الحظ السعيد والنصيب الجيد، واحياء منهج أهل البيت (عليهم السلام)، والشعائر الحسينية هو من اهم مصاديق العمل الصالح، لذلك لابد لكل من يوالي ويتبع نهج الامام الحسين (عليه السلام) وخصوصا في زيارة الاربعين، أن يبرمج نفسه، وأن لا يبيعها بثمن بخس، بل يجعل من نفسه عظيمة ليس لها قيمة الا الجنة التي وعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين بها. 

وهذا وعد حق، فالإنسان الذي يزهد في الدنيا سوف يربح كل شيء، والذي يزهد في الآخرة سوف يخسر كل شيء. وهذا هو المطلوب منا جميعا، وهو أن نربح الدنيا والآخرة، من خلال أن يكون هدفنا ومسعانا وغايتنا هي الآخرة التي وعد بها الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وآله، وأهل البيت (عليهم السلام).

* حوارات بثت على قناة المرجعية في مناسبة زيارة الأربعين 1445

.................................

(1) المصباح - الكفعمي - الصفحة ٤٨٩، رواها صفوان بن مهران عن الصادق عليه السلام قال تزور عند ارتفاع النهار بهذه الزيارة...

(2) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٦٢.

(3) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، رقم: 133.

(4) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ١٠٠ - الصفحة ١٠١.

(5) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٠ - الصفحة ٨١.

(6) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٠ - الصفحة ٨١.

(7) وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج ١٧ - الصفحة ٣٨٤.

(8) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٩٨.

(9) نهج البلاغة – قصار حكم الإمام علي (ع)، رقم: 288.

(10) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، رقم: 83، وهي الخطبة العجيبة تسمى "الغراء".

(11) الأمالي - الشيخ الصدوق - الصفحة ٧٣.

(12) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج ٧٤ - الصفحة ١٢٠.

(13) نهج البلاغة – قصار حكم الإمام علي (ع)، رقم: 456.

(14) الأمالي - الشيخ الصدوق - الصفحة ٢٦٨.

(15) نهج البلاغة – رشائل الإمام علي (ع)، رقم: 27، ومن عهد له (عليه السلام) إلى محمد بن أبي بكر حين قلده مصر.

اضف تعليق