"...على الموظف ان يكون في خدمة البلد، لا أن يكون مالكاً للكرسي، وسمة الخدمة هذه، تشمل الموظف؛ من أعلى منصب وحتى أبسط موظف في الدولة، جميعاً خدمة ليسوا إلا.
لذا فمن يفكر في الحصول على الوظيفة، عليه أن يلتزم بمبدأ "تمشية معاملات الناس" في أقرب فرصة ممكنة، وهنالك بعض النماذج الطيبة لموظفين من هذا النوع، حيث يأخذ معاملة المراجع ويدور بها على المعنيين في الدائرة لإتمامها.
بالمقابل هنالك نوع آخر على النقيض، كما روى لي أحد الاصدقاء في كربلاء المقدسة – في عقد الستينات- أنه كان مع جمع غفير من المراجعين في منطقة "السراي" وهو مجمع حكومي كان يضم مديرية الشرطة والمحكمة والمتصرف (المحافظ) وغيرها، وقد تجمعوا منذ الصباح الباكر دون أن يجدوا الموظفين لإتمام معاملاتهم، فمضت اربع ساعات، حتى حان وقت الظهيرة، فبادر أحد المراجعين بفتح أحد الابواب المغلقة ليستطلع أمر الموظفين فوجدهم متسورين على مائدة القمار!!
إن هذا المثال لا يقتصر على دوائر الدولة في منطقة "السراي" في كربلاء المقدسة، وإنما يشملني أنا وأنت ايضاً وكل من يفكر بالحصول على وظيفة حكومية، علماً أن مكان الدائرة الحكومية يفترض ان يكون مكاناً محترماً لانه محل تتم فيه خدمة الناس.
وعليه؛ فان الموظف خلف مكتبه، يجب أن يفكر أن المراجع، له مشاغل واهتمامات، كما له حقوق، مثلما له هو كموظف حقوق وامتيازات، وللتقليل من العناء والضغوط، ينبغي اختصار وقت إتمام المعاملة الى الحد الأدنى من الوقت، كأن يكون يوم او يومين، لا أن يُحال المراجع الى اسبوع او اسبوعين مقبلين. فهذه من أخلاقيات التعامل الوظيفي في الدوائر الحكومية".
قيمة الدائرة الحكومية من قيمة المراجع إليها
بسبب التصدّعات في البنية الاقتصادية لمعظم بلادنا الموسومة بـ "النامية" وهي ليست كذلك طبعاً، فان الحصول على الوظيفة الحكومية بات يمثل طوق نجاة من البطالة والازمات المعيشية في الحاضر والمستقبل، لأن الوظيفة الحكومية في جميع بلادنا؛ الغنية منها والفقيرة، تضمن لصاحبها المردود المالي الثابت، مهما كان، الى جانب راتب تقاعدي في قادم الأيام ليكون الموظف آمناً من الفقر المدقع في شيخوخته، فلا يكون شحاذاً او يبحث عمّن يوفر له لقمة العيش.
هذه الرؤية الاقتصادية الضيقة الى الحياة، غيبت عن اذهان البعض – إن لم نقل الكثير- الوجه الآخر من العمل الذي يقوم به، وهو التعامل مع المراجعين من مختلف شرائح المجتمع، كما لو أن علاقته الوحيدة هي مع الدولة او مع مدير دائرته، ولا عليه سوى تنفيذ الأوامر وتطبيق الاجراءات الصادرة من الوزارة، ثم انتظار موعد استلام الراتب ولا شيء غير ذلك.
ومن حيث لا يريد، فان الموظف ربما يكون أحد اسباب شيوع ظواهر خطيرة مثل الفساد الاداري في أشكاله المختلفة من؛ رشاوى واختلاس واحتيال وغير ذلك كثير، والسبب الرئيس في ذلك؛ غياب الفهم الصحيح لعمل الموظف الحكومي، فهو يكرّس جهده الذهني والعضلي وكيانه لخدمة المسؤول عنه في الدائرة بغية كسب رضاه، في حين ان منطق العقل قبل القانون والمجتمع، عليه أن يكون في خدمة المراجعين، كما يدعو الى ذلك سماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – قدس سره- في مقطع من محاضرة صوتية، وهذا يتأكد اكثر في الدول المدّعية تطبيق الديمقراطية مثل العراق، حيث يعتقد الناس الذين أدلوا بآرائهم في صناديق الاقتراع، أن جميع المسؤولين الحكوميين، من أصغر موظف الى رئيس الوزراء، إنما هم خدّام لهم، ومهمتهم قضاء حوائج الناس والعمل على تلبية حاجاتهم والتعامل معهم بشكل بناء وحضاري.
رغم الصورة القاتمة لمعظم دوائر الدولة في بلادنا في الاذهان، والانطباعات السيئة عنها، فان الموظف الحكومي بامكانه تغيير هذه الصورة وخلق نمط جديد لموظف في الدولة يقيم علاقة سليمة وبناءة مع المواطن من شأنها إفادة الطرفين، يكفي أن يحترم في المواطن (المراجع) ثلاث أمور- من جملة أمور:
الاول: الجانب الإنساني
متمثلاً بكبار السن من الرجال والنساء و اصحاب الاحتياجات الخاصة، فالموظف لا يرى أمامه مراجعاً يقف لوحده عند حافة الطاولة، إنما جزءاً من حياة صاخبة بالمشاكل والمنغّصات والازمات، وهذا من شأنه ان يتصدّى بقوة للمقولة الشائعة: "إنها مشكلتك".
الثاني: الوقت
وهو اكثر ما يعاني منه المواطن في كل مكان، حتى اصبحت الدوائر الحكومية عبارة عن مكان لضياع الوقت وقتل العمر لما يهدره المواطن من أيام و اسابيع وحتى أشهر على معاملة تتعلق بالسكن او التعليم او القضاء وغيرها.
الثالث: الحقوق
هنالك تصور يشيع احياناً بين بعض الموظفين في كل مكان، ان إنجاز الموظف للعمل الاداري يتطلب تقديم الشكر عليها، ولا مجال للمناقشة في كيفية أداء هذا العمل والاساليب المتبعة، فالقضية تعود الى الموظف وليس الى المواطن، لذا نجد في معظم الدوائر، الموطن لا يحصل على حقوقه ولا ينجز عمله الاداري والرسمي بسهولة، وإنما ينتزعه انتزاعاً ويخرج من الدائرة الحكومية منتصراً بمعاملته المنجزة.
وبالنتيجة؛ فان الاحترام والمكانة التي يطلبها الموظف الحكومي لدائرته، إنما تتحقق باحترام المواطن والحفاظ على كرامته وحقوقه. ورب ساءل عما اذا كان جميع المراجعين للدوائر الرسمية جديرين بهذا الاحترام والخدمة، وأن البعض ربما يسيئون الى الموظف الحكومي او حسب القول الشائع: "يقطعون سبيل المعروف"، وهذا في جانب منه صحيح، ولكن؛ كون الدائرة الحكومية واجهة للدولة المنتخبة والمتمخضة من رحم المجتمع والشعب، فانها تبقى مطالبة بتقديم الأحسن والأفضل، وكلما بذل الموظف جهداً اكثر لخدمة المراجعين وتعامل بالمعروف والاحسان وحكّم القيم الاخلاقية والانسانية في تعامله، كان أقرب الى تحقيق ما يصبو اليه من احترام الناس اليه ولدائرته الحكومية، والأبعد من ذلك؛ إسهامه في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي في البلد، بما ينعكس فوراً على تعزيز الثقة بين المواطن والدولة بشكل عام.
اضف تعليق