إسلاميات - الإمام الشيرازي

المداخلات الفكرية لمخرجات البحث في فلسفة التاريخ

الدراسات التاريخية وجدلية البناء الحضاري (11)

د. هيثم الحلي الحسيني

 

مداخلة في الدراسة البنيوية لفلسفة التاريخ

يقول الثوري في تاريخ بغداد بجزئه الثالث، أنه "عندما رأيت الرواة يستعملون الكذب، استعملت لهم التاريخ"، ويستدل من هذا المبنى، أن المنهج التاريخي، يصلح في الدراسة النقدية والتأملية، في النصوص والوقائع التاريخية، فهو يلبس رداء الحاكم أو القاضي، الذي يقضي بتجرد وموضوعية، باستخدام قوانينه وكلياته، لأجل الحكم النزيه على سلامة النص، وكذا الواقعة أو الحادثة التاريخية.

ولأجل التوصل الى المخرجات البحثية، في هذه الدراسة المنهجية، يستوجب استحضار العناصر الرئيسة في فلسفة التاريخ، كونها ليست دراسة فلسفية صرفة، كما هي ليست دراسة تاريخية صرفة، فهي تنظر لعناصر الفلسفة، من زاويتها التاريخية، وبنفس الوقت أنها تنظر للدراسة التاريخية، من زاويتها الفلسفية.

وبالنتيجة أن دراسة فلسفة التاريخ، تتوصل الى أحكام كلية، تستقرأ بها الماضي والحاضر، فضلاً عن أنها تتنبأ بالمستقبل، من خلال إسقاط أحكامها وقوانينها الكلية، وبالتالي لا تكون الدراسة التاريخية، مجرد ترفاً بحثياً، أو رواية لحكاية سالفة جامدة، وبرؤية باردة، لا أثر فيها للواقع واهتمامات المجتمع، وإنما تكود دراسة هادفة منتجة، ملبية لحاجات المجتمع، والتطلعات المستقبلية للإنسانية.

وهذا هو نطاق المداخلات الفكرية، في هذه الحلقة من "الدراسة"، وغايتها التقديم البنيوي لمادة الحلقة اللاحقة من "الدراسة"، التي ستنصرف الى مقاربة مخرجات الكتاب موضوع الدراسة، والتي يخلص لها الفصل السادس منه، الموسوم "محكمة التاريخ".

مداخلة في دراسة العناصر الرئيسة لفلسفة التاريخ

إن المبنى الأساس في الدراسة البنيوية لفلسفة التاريخ، لتكون مخرجاتها ملبية لاشتراطاتها، ومستجيبة لأهدافها العلمية، والإنسانية المجتمعية، تكمن في تضمين دراساتها، للعناصر الرئيسة لها، التي تضمن سلامتها البحثية والعلمية، وصواب مخرجاتها ونتاجها التطبيقي.

إن العنصر الأول، الذي يستوجب استحضاره في دراسات فلسفة التاريخ، هو "الموضوعية"، التي تشتمل على التجرد عن الذات ونوازعها وأهوائها، وتجنب الأحكام المسبقة، التي لا يخلص إليها البحث، بل تسبقه في تسجيلها، لدواعي النزعات الشخصية، دون التقيد بالواقعية في الدراسة الفلسفية، والاستقامة في الدراسة التاريخية، وبالنتيجة أن القوانين الكلية المستخرجة، سوف لا تكون مؤهلة لتستجيب لمتطلبات الدراسة وأهدافها وغاياتها، إن في قراءة الماضي والحاضر، أو في استشراف المستقبل والتبوء به، ضمن الدراسات المستقبلية.

والعنصر الثاني في دراسة فلسفة التاريخ، هو في معرفة مميزات الفلسفة، وفي مقدمتها النشاط التأملّي، والتي تلبي متطلباتها المناهج العقلية، بينما الدراسة التاريخية، تقترب للمنهج التجريبي والاستقرائي، والذي عندما يكون تاماً، يقترب للمنهج "الإمبريقي"، الذي يستخدم الحواس بالكامل، في تجريب كلّي، لمفردات الواقعة، أو "القضية" بالتعبير المنطقي، وبما يتماهى وفكرة الاستقراء التام، أو "المعلل" في حالات استحالته.

فضلاً أن الفلسفة تبحث في أسس المعرفة وأصولها، وذلك ضمن الدراسة "الإبستيمولوجية"، أو فلسفة العلم، أو علم العلم، في الصيغة اللغوية اليونانية، ثم الارتباط بالفن والجمال، لأثرهما وتأثيرهما في النفس الإنسانية، وهو يتماهى والمنهج الوجداني أو العرفاني، في التراث العربي الإسلامي، والذي يشترك مع الفلسفة، في أصولها التأسيسية، ثم الميزة الرئيسة في الفلسفة، وهي اعتمادها المنهج العقلي لإثبات المعتقدات والمتبنيات الفكرية.

وبالتالي فإن الدراسة في فلسفة التاريخ، ليست صنواً للدراسة الصرفة في الفلسفة، بل تمنحها روحاً وقناعة، تكسر عنها الجمود في استنتاجاته ومتبنياته، التي تتجمد على المقاربات النقلية والتجريبية، وأحكامها الصارمة.

وبالنتيجة فإن هذا العنصر، يشترك مع عنصر استخدام الفلسفة في الدراسة التاريخية، وذلك مردّه أن الآراء العقلية المجردة، التي تخرج بها الفلسفة الصرفة، لا يمكن استخدامها بمفردها في علم التاريخ ومعرفته، فهو لا يمكن أن يستكشف بالفلسفة، بل الأدلة المادية في الموروثات والحفريات واللقى والنصوص النقلية الثابتة، بمجموعها تكون مصادر لمخرجات البحث التاريخي، ومن هنا تفهم الثنائية التراتبية بين الفلسفة والتاريخ، في إكمال أحدهما الآخر، ليكون المعوّل عليه، هو في علم فلسفة التاريخ.

ومن ثم العنصر الآخر في دراسة فلسفة التاريخ، وهو المقارنة بين العلوم الطبيعية والعلوم التاريخية، في مشتركاتهما من جهة، وخصوصياتهما أيضاً، ضمن المنهج العلمي التجريبي أو الاستقرائي، فكلاهما يحشد أكبر قدر ممكن من المفردات، في حالات الرصد الطبيعي، في العلوم الطبيعية، وفي حالات الرصد التاريخي، في علوم فلسفة التاريخ، ويجري في الطبيعية عزل الظاهرة عن إطاراتها الكونية، أما الواقعة التاريخية، فتعزل عن إطاراتها الزمانية والمكانية، بغرض التوصل الى الأحكام أو القوانين الكلية.

لكن الباحث التاريخي، عليه أن يستوعب الخصوصية بين هذين الحقلين العلميين، ذلك أن مخرجات البحث في الدراسات الطبيعية، هي على درجة كبيرة من اليقين والقطع، في الوقت أن الظن المعقول، هو ما تخلص اليه الدراسة وفق فلسفة التاريخ، والذي يرتفع الوثوق به، كلما كانت اشتراطات الدراسة ومتطلباتها حاضرة في البحث، وهو ما يستوجب التقيد والاعتناء به، في الدراسات المستقبلية، أو ما يعبر عنه بالتنبوء العلمي للمستقبل.

وهذه الاشتراطات، تنتهي الى العنصر اللاحق، في دراسات فلسفة التاريخ، وهو التدقيق والتثبت، في المصادر والمراجع المعتمدة في الدراسة، وبخاصة الوثائق التاريخية، والمعلومات المثبتة في المصادر النقلية، ومن بينها المخطوطات، التي يجري دراستها علمياً، من خلال مجموعة من العلوم، التي تختص كل منها، بجانب من دراسة الأثر المخطوط، أو النص النقلي الموروث، في قراءته الحفرية المعمقة، ونبش طبقاته، وتحقيق متونه.

وتجري الدراسة التاريخية المنهجية الرصينة، مستندة الى المصادر الأولية، قبل المراجع الثانوية، التي يركن لها لاستكمال البحث وتثبيت أركانه ومعطياته، وما يشترط التدقيق أيضاً في اللقى والآثار والأدلة المادية الموروثة، وما ثبت على المباني أو دور العبادة، أو الصخور المنقوشة وسواها، فجميع مفرداتها، هي المرجعية والمصدر، للدراسة التاريخية، التي تستجيب لدراسة فلسفة التاريخ واشتراطاتها، والتي تخلص الى الأحكام الكلية المقبولة والموضوعية.

مداخلة في جزئيات الدراسات التاريخية

المنهجية العامة في البحث التاريخي، تتضمن ابتداء عملية جمع المصادر، ثم التحقيق في هذه المصادر ثانياَ، والذي يتم بسلسلة من العمليات، منها التحقيق لمعرفة تاريخ المصدر ونسبته الى مؤلفه، ومن ثم التحقيق لتصحيح متون الوثائق، بمقابلتها مع الأصول الأخرى المقاربة لها، والتي جرى إنتاجها لنفس الأغراض، أو بنفس الحقب التاريخية، ومن ثم فحص مادة الوثائق، بتحليل حقائقها "مقدماتها"، وترتيب موضوعاتها، وتصنيف حوادثها ووقائعها وشخوصها، زمانيا ومكانيا، لتتضح قيمتها من بين الوثائق الأخرى.

وثالثاً يجري ما يعبر عنه في "التعليل"، وهو تفسير الحقائق التاريخية، وبيان علّتها، للوصول الى النتائج المطلوبة، ويجري هذا الجهد بوسائل وأدوات علمية ودراسات محددة، من قبيل علم الآثار "الأركيولوجيا"، ودراسات علم الإنسان "الأنثروبولوجيا"، التي ترتبط بالعوامل الجغرافية والطبيعية والأحيائية، وعوامل الأرض والسكان، والسلوك الفردي والمجتمعي، والعقائد والمتبنيات الفكرية وتطورها، فضلاً عن علوم الاجتماع، والدراسات في فكر التاريخ ومخرجاته الثقافية العلمية والفكرية، في الأدوات "الإبستيمولوجية" في البحث والدراسة.

وهي الخطوة المنتجة في البحث التاريخي، والتي يجري الاشتغال عليها ضمن دراسات وبحوث التراث العلمي، والتي يعبر فيها عن التنقيب الآثاري، إنه "لا يحفر بهدف البحث والكشف عن الآثار، وإنما عن الإنسان".

مداخلة في دراسة النصوص المخطوطة في المصادر النقلية

قد تكون المخطوطة، هي المصدر الرئيس في مفردات البحث في الدراسة التاريخية، ولضمان الدقة في هذه المهمة البحثية، الذي يتطلبه عنصر فحص المفردات قبل الحكم عليها، تتشكل لها مراحل متسلسلة، تضمن الموضوعية العلمية، إذ تبدأ بالفحص المادي لأصل المخطوطة، بما يعرف "الكوديكولوجيا" Codicology، وهو العلم الذي ينصرف الى دراسة المخطوطات، باعتبارها مادة أساسية تدرس لذاتها، في تحديد الظروف العلمية والاجتماعية، التي تم خلالها إنجاز المخطوط، ثم معرفة الطرق التي وصلت بها، المادة التي حملت هذا النص.

ثم تجري دراسة الخطوط والرموز التي اعتمدها الموروث النقلي، وفق علم "الباليوغرافيا"، Paleography، وهو علم دراسة وقراءة الخطوط القديمة، ويسمى أيضا علم الخطاطة، وهو ينصرف لقراءة المخطوطات الموروثة، وفك رموزها، والذي يعني حرفياً باليونانية القديمة، علم "الكتابات القديمة".

ثم وفق علم "الفيلولوجيا Philology"، تجري الدراسة العلمية للنصوص المتضمنة في المخطوطات الموروثة، ويتضمن ذلك الممارسة العلمية النقدية لنصوص المخطوطات، وبذلك فهو يتماهى و"فن التحقيق" أو "علم المخطوط"، في التراث العربي الإسلامي، الذي يهتم بالكشف عن النص الأصل، ليتسنى لاحقاً دراسته، وإظهار الفكر المتضمن فيه، ثم الدراسة المعمقة "الأركيولوجية" الحفرية له، بقصد الكشف عن الفكر المسكوت فيه، دون أن يكون ذلك إعادة لكتابته، وإنما إعادة لإنتاج النص، وقراءته بشكل معمّق.

وتعرف مفردة "الفيلوبوجيا" في الأبجدية اليونانية φιλολογία، وتعني حرفياً "محبة الكلام"، ويجري تداولها في الثقافة اليونانية ولغتها، بمعنى الأدب أيضاً، كونها قد ارتبطت أصلاً، باللغة وعلم الألسنة، ودراسة النص اللغوي وقراءته، وهي جميعها من مقاصد الأدب.

و"الفيلولوجيا" تترجم في بعض المعاجم العربية، بأنه علم فقه اللغة، وهو اصطلاح اختصت به العربية، ولكنه وبشكل أدق، في التداول المعرفي له، هو علم "فقه النص اللغوي"، كونه يضطلع بدراسة النص، وقد جرى المدلول على هذا المبنى، في عصر النهضة الأوربية، من خلال دراسة النصوص اللغوية، في الثقافة اليونانية القديمة واللاتينية، وقد استخدم بذلك حصراً في حقل اللغات القديمة، ودراسة ثقافاتها، ثم أصبح ينصرف الى الدراسات اللغوية المقارنة، كما في الدراسات السامية.

وقد تشابكت الأدوار في هذا المقصد العلمي، مع مدركات "التأويل" في النصوص والمعارف والحقائق، أو ما أطلق عليها "بالهرمينوطيقا"[1]، التي أنتجت وتماهت، مع مفاهيم الفكر والفلسفة النسبية، وبالتحديد في حقل قراءة النص، فضلاً عن ارتداداتها في المعارف والحقائق، مما يستوجب الفرز وعناية التدقيق والفحص، من لدن الباحث المستقرئ للنص التاريخي.

مداخلة في اشتراطات القراءة للنصوص الموروثة

إن الذروة في العملية البحثية، هي الدراسة الحفرية المعمقة "البحث الأركيولوجي"، للنصوص المكتوبة فيها، في تجاوز التعرية التاريخية للنص، والولوج الى أعماقه والنبش فيها، بهذا الشكل من مقاربة النص، والقراءة الفكرية المعمّقة له، من خلال الغور في عمقه العمودي وطبقاته المغمورة، وهو المنهج الذي يطلق عليه بالحفريات المعرفية، أو المنهج الأركيولوجي الحفري.

ينصرف المنهج الأركيولوجي الحفري المعرفي، الى ما وراء الظاهر من النص، في قراءة ما يخفيه أو يسكت عنه، فهو يولد بذلك نصاً ثانياً، يمكن اعتباره بمثابة الصنو الآخر للنص الأول، ويخلق بذلك قراءة ثانية، تخترق النص الأول، وتكشف عن بعض إمكاناته، التي لا تقولها الكلمات المعجمية، وانما ينطق بها، المعنى الإيجابي الدلالي في النص، وبذلك يؤدي الوظيفة ذاتها، بالنسبة للأثر الأدبي الإبداعي وفق هذا المنهج، مما تولدت الرؤى الفلسفية، بأن الإنسان أصبح فكرة، والجماعة لم تعد مجموعة أشخاص أو أناس، وإنما اجتماع على فكرة، وكذا المجتمعات، لم تعد جمع لجماعة، وإنما جمع لفكرة وأفكار.

عنصر فحص المفردات في فلسفة التاريخ

إن هذه المقدمات، التي ساقتها الدراسة تفصيلاً، تخلص الى أن العنصر الرئيس، في دراسات فلسفة التاريخ، يكمن في ضرورة دقة فحص المفردات، قبل الحكم عليها، بمعنى التعرية والنبش والتدقيق الحفري، في الطبقات "الجيولوجية" المغمورة في النص، بغرض القراءة المعمّقة له، بما يشمل الأفكار المغمورة فيه، أو التي اعترتها التعرية التاريخية، أو حتى المسكوت عنها في النص، لأسباب ذاتية أو موضوعية، تتعلق بمؤلفه أو الظروف المحيطة به.

فالقراءة والفحص الدقيق بمفردات المادة التاريخية، تعد من العناصر المرتبطة مباشرة، في تقويم مخرجات البحث، في فلسفة التاريخ، والتي جرى التعبير عنها، بكونها المرآة العاكسة، لأهلية الحكم وصوابه، وعدالته، فالقاضي الحكيم والنزيه، هو الذي يتعمق في حيثيات الحكم الذي يصدره، وبالذات في تطابقه مع المواد القانونية، وروحها ونصوصها، وهو ما ينطبق على الباحث في فلسفة التاريخ، لتكون أحكامه عادلة ورصينة، وهو في موقع المسؤولية التاريخية، في محكمة التاريخ.

ولقد أفرد الكتاب موضوع الدراسة، فصلاً رئيساً لهذه المادة، تعتبره الدراسة، بمثابة المخرجات البحثية في الكتاب، وهو الفصل السادس الموسوم "محكمة التاريخ"، والذي ستنصرف هذه "الدراسة" في مبحثها اللاحق، الى دراسته والبحث فيه، وعرضه تحليلياً، بعد أن قدمت هذه الحلقة، مقدمات فكرية لموضوعه ومادته، ليكون أساساً تأصيلياً له.

وسيجري العرض التعريفي للفصل السابع، وهو الأخير من الكتاب، موضوع الدراسة، والذي وسم "وحدة الاشتراك في الحضارات"، إذ يقدم نماذج حضارية، تبين الوحدة والمشتركات فيها، وهو بمثابة التطبيقات العملية، لمدركات فلسفة التأريخ ومتبنياتها وقوانينها، والتي تشكل إسقاطات نظرية التحدي والاستجابة، التي نظّر لها المؤرخ الفيلسوف "توينبي"، أساسها العلمي.

.....................................
[1] السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، كتاب "نقد الهيرمينوطيقا ونسبية الحقيقة والمعرفة واللغة"، وكتاب "نسبية النصوص والمعرفة، الممكن والممتنع"، دار التقوى للنشر، 2012.

اضف تعليق